رأي ومقالات

لم تعد لدي رغبة، كما كانت، لزيارة الضعين والفولة والمجلد وأم دافوق.. ان كنتم لرؤياي تفسرون

لم تعد لدي رغبة، كما كانت، لزيارة الضعين و الفولة والمجلد وأم دافوق.
ان كنتم لرؤياي تفسرون.
نحن من جيل محظوظ ، كنا آخر جيل أدرك بقية من منهج جريفيث و التربوي المخضرم ، العملاق، عبد الرحمن علي طه ومناهجه المميزة. حيث كانت فيها جغرافية السودان حاضرة شاخصة وكان لنا شغف لمعرفة بقية أنحاء البلاد وكانت تستهوينا معرفة سبل وأسباب كسب العيش في السودان ، كان هناك عالم في القولد التقيت بالصديق ، فنحن جيل تشوق ان يرى القولد وصديقها و قرشي ريرة و طاهر محمد قول وسليمان الرهد و فضل بابنوسة ، وبدون كثير إطالة في هذه النوستالجيا الجميلة ، لا زالت تستهويني مدن وأرياف السودان وربوعه وسهوله رغم حرارة الجو التي تفطر القلب كما عبر عنها السفير البريطاني صيفا وهو بجوار جبل البركل.
بعد اغتراب زاد عن ربع قرن ، كنت طوال سنيه أحرص على السفر بالعربة بالإجازات، فأنا من هواة التوقف بالمدن ، ابتداءا من سواكن والسلات المميز على الحصى فوق الجمر، الحصى الذي يتم استعماله لمرة واحدة كما علمت، ربما هذا هو السر في الطعم الشهي للشواء الشهير هناك ، والى سنكات وهيا وعطبرة وشندي الى الخرطوم ، وقبلها ، قبل طريق هيا عطبرة، حيث كان رفيقنا هو الطريق القديم الذي كنا نسلكه، حيث يمر بنا ونتوقف عند كسلا و مدني وكفتريا الكاملين.
كشخص قادم من أقصى الشمال رأيت حلفا القديمة.
مدن كرمة ودنقلا وأرقو والبرقيق هي مرتع الطفولة والصبا حيث نشأت وترعرت وتشبعت منها و بها.
ظللت اتحين الفرص في الإجازات وأتشوق أن يأتي اليوم الذي أزور فيه بارا والأبيض ومليط والضعين وبابنوسة وأم دافوق ، الصديق سيف الدين حسن متع ناظرينا بالمناظر الجميلة من تلك المدن والبلدات عبر حلقاته التلفزيونية أرض السمر التي اختار ان يكون وقت التصوير بعد الخريف حيث الأرض تكتسي حلة خضراء زاهية والضرع مترع.
بعد هذه الحرب، لازلت ارغب في زيارة بارا و مليط ،،، أما الضعين والفولة والمجلد وبابنوسة فلم تعد لي الرغبة في زيارتهم كما كانت ، ليس لدي تاريخ كراهية لإنسان هذه المناطق بل كنت اراهم لا فرق بينهم والقرويون في بلداتنا ،بل كنت اخطط حتى لإستثمار
طبي في الفولة او المجلد وكنت اقرأ باستغراب عن قصص النهب المسلح بعد المغرب بحيث يستحيل التنقل بعربة من الفولة والى خارجها لأقرب مدينة بعد المغيب وكنت اقول لنفسي، لم الخوف انا رجل شجاع وصاحب منطق وقدرة على الإقناع والحديث، يمكن التفاوض مع أفراد النهب المسلح باعطائه بعض المال، او ان اوفر له وظيفة معنا، او ان تعرض عليه علاج والديه المسنين مجانا بحيث تدغدغ وتحرك مشاعره الانسانية وتصلح من حاله بل وتغيره وتعدل مساره في الحياة كليا والى الأبد وذلك قبل ان يشرح لي العجوز الطاعن في الحلم الذي سأرويه لكم كم كنت مخطئا وكم كنت ساذجا.
أما الحلم ، فقصته أني رأيت فيما يرى النائم ان الأيام قد عادت بي الى سفر اللواري في طريق دنقلا ابو ضلوع امدرمان ، وانا من الجيل الذي عاصر وأدرك هذه الرحلات ، بعد اختلافات محلي و محلك المعتادة في السفر، على سطح جوالات القمح والفول والبلح التي يحملها اللوري ،حيث لم تكن رفاهية مقاعد البصات المكيفة متوفرة حينها، ما ان تتوغل العربة اللوري الفورد في نص الصحراء التي أشفق أديبنا الطيب صالح على بعض نباتاتها كيف انها تنمو وسط هذا الهجير و تتشبث بالحياة ، ما ان تتوغل العربة اللوري الفورد في الصحراء الا واصبح الجميع اصدقاء، ينكتون، يتبادلون السفة السعوط والسجائر، يتسابقون في من يدفع اولا ثمن الخروف عند شراءه من عربان بادية الهواوير غرب الدبة وحتى ابو ضلوع.
في الحلم الذي رأيت، ركاب اللوري لم يكونوا من نفس المنطقة كما اعتدت، بل تشكيل من كل السودان ، كان هناك حلفاوي، ومحسي هو شخصي، وشايقي و هواري وكباشي وجعلي وأدروب و زغاوي وعامري وكاهلي وفوراوي ومسلمي وبطحاني ، وصلنا في استراحة بالطريق لنستريح تحت ظل شجرة وارفة وبعد وجبة خروف دسمة قررنا أخذ نومة هنية في المكان قبل ان نواصل سفرنا ، ونحن نستعد للنوم والراحة، أطل علينا من بعيد اثنان، واحد رزيقي وواحد مسيري ، لا زلت اذكر في الحلم ان كلا منهما كان يتأبط سكينا في ضراعه ويحمل عصا كعادة معظم أهل السودان في ذلك الزمان ، سلموا على الناس وتم اكرامهم بالطعام والماء وقالوا للركاب أنتم على سفر انتو نوموا ونحن بنحرسكم ، أذكر اني كنت صغيرا وتسائلت وتساءل غيري عن السكين والعصا ما لزومهما؟،ولماذا لا يسرحانهما ويضعانهما بعيدا؟ أجابا : يا عيال جلابة انتو جدكم فرح ود تكتوك حكيم ول ماها حكيم؟ ، أجبنا حكيم، قالا : جدكم يقول السكين للسلب والعصا للكلب (( يقصدان ان السكين للدفاع عن اللصوص والعصا تدفع بها عن الكلاب اذا هاجمتك)).
اختلف الناس حول الموافقة لهما بالحراسة، كاد الناس ان يوافقوا على حراستهم لنا أثناء النوم، الا رجل عجوز ، طاعن في السن ، عركته الأيام ، كان يحكي لنا اثناء الرحلة انه جاب السودان كله ويعرف أهله، قال العجوز لا لن تحرسونا اثناء النوم فسألنا لم يا شيخ؟ أجاب انهما طالما يحمل اي منهم سكينا وعصا في يده ونحن عزل فان اي منهما لن يعتبر نفسه فارس شجاعي الا اذا استغل ميزة الفارق هذه في السلاح ونهبونا وقتلونا ، الهذه الدرجة ؟ سألناه. قال نعم فهو ان لم ينهبك ان وجد فرصة لذلك بفارق التسليح عنك أنب نفسه ولامها على ذلك فيما بعد أشد اللوم، لأنه ان وجد سطوة وتغلب تضعف نفسه ولا يرى ما أمامه الا انه غنيمة باردة له كما لو كنت تحمل مطرقة فلن ترى الاشياء كلها الا مسامير.
استيقظت من الحلم وقلت هل العجوز تجنى عليهما؟
ان كنت تراه تجنى او تراه صادقا
ان كنت من هذا المعسكر او ذاك
فأجبني بصدق، وبشجاعة، على هذا الاستطلاع أدناه :
ان كنت أنت من ركاب اللوري واردتم الخلود للنوم كمجموعة على أن يحرسكم رزيقي ومسيري وهما يحملان سكاكين ، فهل ستنام ملئ قرير العين هانيها؟ ام أنه لن يطرف لك جفن؟
الاجابة من كلمتين فقط :
نعم سأنام.
أو
لا يستحيل ان انام.
طارق عبد الهادي الشيخ
ودمتم