رأي ومقالات

السفير عبد الله الأزرق: 📍المعقول واللّا معقول في العلاقات الدبلوماسية (2)

لا تمثل الأمثلة التي ضربتها عن تجاوزات الدول للأعراف الدبلوماسية وتخطّيها لضوابط اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية (في الحقيقة هما اتفاقيتان صدرت الأولى عام 1961 والثانية في 1963)، لا تمثل تلك الأمثلة إلّا نزراً يسيراً للتجاوزات.

فقد يتجاوز ممثلو الدول قوانين الدولة المضيفة ويرتكبون جرائم مثل التحرش والاغتصاب. وقد يكون خرقهم للقوانين مثل ما فعل أحد سفراء لبنان بالسودان، الذي كان يهرّب الخمور ويبيعها.
وتتفاوت ردود أفعال الدول وفقاً لطبيعة وحجم الجريمة. وقد تتستر على الدبلوماسي تقديراً للعلاقات التي تربطها بالدولة الباعثة للدبلوماسي. أو قد تختار فضح تجاوزه وتطلب من دولته سحبه دون أن تثير ضوضاء حول ما فعله، لأن ما يتمتع به من حصانة تحول دون محاكمته في كل الجرائم.

وفي أحيان تضيق الدول ذرعاً بسياسات دولة الدبلوماسي أو تضيق به هو نفسه، فيعمد جهاز أمنها لتوريطه في جريمة لإحراج دولته أو إحراجه هو.

وهذا ما فعله FBI مع سفير إيران في الأمم المتحدة منتصف ثمانينات القرن الماضي، وذلك بتدبير عملية سرقة بدلة في أحد المتاجر في منهاتن، واتهمه المتجر بالسرقة. وما أكد أنها مسرحية معدّة ومدبّرة Staged، أن مراسلي محطة التلفزة والصحفيين ملئوا المتجر فجأة، وفي نفس الوقت الذي كان السفير ينفي الاتهام ويتجادل مع موظفي المتجر.

أذكر أنني كنت مسافراً عبر لندن من واشنطن للخرطوم. ومكثت ليلةً في لندن. وفي اليوم التالي وأنا أكمل إجراءات سفري في مطار هيثرو، اقترب مني أربعة من رجال الشرطة البريطانيين، وطلبوا الحديث معي، ولما انتحوا بي جانباً أبلغوني أنهم يريدون فتح حقيبتي!!!
قلت لهم: إنني دبلوماسي سوداني بواشنطن، وإنني شحنت حقيبتي في مطار دلاس إلى الخرطوم مباشرةً بعد إكمال كافة الإجراءات، وليس ثمة سبب يدعو لفتح حقيبتي في لندن، وإنني من ثم أشك أنكم تريدون أن “تزرعوا” to plant شيئاً في حقيبتي لتجريمي، ولن أسمح لكم بفتحها إلّا بعد أن تكتبوا لي ما يفيد بكل المعلومات التي ملكتكم إياها، وأنكم تريدون فتح حقيبتي رغماً عنّي. وأنذرتهم أن تعاملهم المتجاوز هذا يمكن أن يحيل حياة الدبلوماسيين الانجليز في الخرطوم إلى جحيم Reciprocity)!!! ودخلت معهم في جدل طويل.
وبعد مدة انصرفوا جانباً ثم رجعوا قائلين “سنترك هذه المرة”!!! واشتبكت معهم في جدل أشد كرد على عبارتهم تلك، فما كان منهم إلّا أن انصرفوا.

بالنسبة إليّ كانت تلك محاولة تجريم.
وقد أفادتني افتراءات كذوبة وأنا دبلوماسي بنيروبي التي كانت عاصمة لمتمردي جون قرنق، خاصة حين أضافوا لها أنني قاتل Assassin، فقد أخافت أولئك المجرمين مني، ولم أتعرض لمضايقات منهم إلّا في محاولة اغتيال واحدة، يوم جاؤوا إلى بيتي في حي هلينقهام ذات ليلة، ونجاني الله منهم.

فالدبلوماسية ليست فقط هي تلك المهنة الجاذبة، بربطات العنق والملابس الأنيقة وحفلات الكوكتيل، والحديث الناعم المُنمّق، بل فيها مخاطر جمة ومزالق مخيفة. ويعرف محبو الدبلوماسية أن الحُبّّ يعترضُ اللذاتِ بالألمِ.

وكما أسلفت فإن ثمة تفاوتا في إعمال مبدأ المعاملة بالمثل، وتظل الدول التي تحقّر نفسها تلك التي تدع الأخريات من الدول تعبث بسيادتها وكرامتها وثوابت قيمها وقوانينها. والدول متساوية في سيادتها، فتستوي فيها مايكرونيزيا والولايات المتحدة الأمريكية.
تذكرت اليوم أن ما فعله الوزير دكتور مصطفى عثمان في تعامله مع الغطرسة الأمريكية، كان بتوجيه مباشر من الرئيس البشير، ‏ولم يَدَع أحداً يقول بعدها:
إن بالشِّعْبِ الذي دون سَلَع
لقتيلاً دَمُهُ لم يُطَلْ
الدبلوماسية هي مهنة المصانعة، بغية تحقيق المكاسب، وهي مِجَن ودرع تتقي الدول بها شروراً. وكأنها — بطرف — قائمة على مقالة زهير بن أبي سلمى:
وَمَنْ لَمْ يُصانعْ فِي أُمُورٍ كَثيرةٍ يُضَرَّسْ بأنْيابٍ ويُوطَأ بِمَنْسِمِ وَمَنْ يجعلِ المعرُوفَ من دونِ عِرْضِهِ
يَفِرْهُ وَمَنْ لا يَتَّقِ الشّتمَ يُشْتَمِ
أما الدول الكبرى فكأنها تقتدي بقول الشاعر:
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرةً واحدةً
إنما العاجز من لا يستبد
(الشاهد هنا عجز البيت الأخير)
أما أكبرها (أميركا) فهي:
إِذا غَدَرَت حَسناءُ وَفَّت بِعَهدِها
فَمِن عَهدِها أَن لا يَدومَ لَها عَهدُ .
الكلمة السحرية في العلاقات الدولية هي: “المصلحة” Interest. وعلى ذلك فلا مقام لعواطف. بل إنها علاقات (بلا أخلاق) AMORAL.
وكل ما أوردته بالأمس إنما هي نماذج قليلة لأنماط سلوك تقوم به الدول إزاء بعضها. جُلّه يتجاوز الأعراف الدبلوماسية، ويخرق إتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية. ويُلجئها لذلك: (1) إمّا الحرص والتحوط من مخترقات أمنها القومي.
(2) أو إنفاذاً لسياسة إضعاف لدولة جارة حتى لا تقوى فتشكل خطراً (فكل جارٍ عدوٌ محتمل) كما تقول القاعدة — غير المعلنة — في العلاقات الدولية ( Every neighbor is a potential enemy) أو (3) تضييقاً على دولة تخشى من نهجها السياسي، وتبتغي تغيير حكامها أو (4) إنفاذاً لسياسة توسّع وهيمنة.
وخير مثال دالٍّ على انتفاء الأخلاق، ومكايدات الدول لبعضها لتحقق مصالحها، هو الشيطنة التي تعرض لها السودان بعد مؤتمر القمة العربي في القاهرة (10 أغسطس 1990) بعد غزو العراق للكويت. فقد أدان السودان الغزو واقترح تشكيل لجنة رباعية من الرؤساء لإقناع صدام بالانسحاب.

وسمعت من البشير نفسه أنه قال في المؤتمر إن دخول القوات الأجنبية ستكون له عواقب اقتصادية وسياسية واجتماعية سالبة. وعقب المؤتمر سافر البشير للقاء صدام الذي قال له إنه مستعد للانسحاب غداً، وكل الذي يطلبه أن تسمح الكويت برسو السفن التجارية في ميناء خور عبد الله لأن منطقة البصرة ضحلة.
وعقب هذه البشارة من صدام اتصل البشير بالسعوديين فلم يستجيبوا، واتصل بالمصريين فلم يستجيبوا. وبعكس الحقائق سخّرت دول إعلامها لتجريم السودان وعزله. واتضح للبشير وقتها أنهم أجمعوا أمرهم على الحرب.
قال لي البشير: إن نبوءته بشأن العواقب السالبة صحّت. وأنه بعد عودة العلاقات اعترف له مسؤولون عرب أن موقفه كان هو الأصوب.
وقال لي إن مسؤولاً عربياً اشتكى له أن الأمريكان جعلوهم بعد الحرب يدفعوا حتى تكلفة ورق الحمام، وأجابه البشير: وتكلفة البيرة!!!

أفيد أنه غدا من البديهيات أنه ليس ثمّة بلد واحد في العالم لايجمع المعلومات عن البلاد الأخرى، ليعرف مكامن قوتها ومواطن ضعفها، وينطبق ذلك حتى على الدول التي لديها علاقات في قمة القوة والتميز. ولا تخدعنكم عبارات (الدول الصديقة والشقيقة) التي يكتبها الدبلوماسيون. ودونكم الجاسوس الاسرائيلي (يهودي أمريكي) جوناثان بولارد الذي سجنته أميركا سنين عددا.

في ضوء المخاطر الجملة التي تكتنفنا، وبدا — بعد الثورة وإلى اليوم — كأننا عنها غافلون.
ولن أنسى أيام كان السفراء الغربيون يسامرون الشباب في ساحة الاعتصام، وتمدهم السفارة البريطانية بالمياه المعبأة في قوارير، والشباب الغر سعداء بتلك المصائب، ومن هم خلفهم (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا)؟؟
نواصل غداً إن شاء الله .
📍السفير عبد الله الأزرق