رأي ومقالات

السفير عبد الله الأزرق يكتب: المعقول واللاّ معقول في العلاقات الدبلوماسية (9)

نيروبي (2)
تبني إسرائيل عداءها للسودان على قواعد نظرية بن قوريون The Periphery التي عرفت بنظرية شد الأطراف.. وهذا فحواها، وليس دقيقاً ترجمة اسمها.
كان بن قوريون – أول رئيس وزراء لإسرائيل – يرى إشغال الدول المحيطة بدول الطوق بمشكلات تصدها عن دعم الدول المجاورة مباشرةً لإسرائيل بحيث تعجز عن دعمها في حروبها ضد إسرائيل.
واستهدفت إسرائيل في إطار نظرية بن قوريون تحديداً الأقليات الدينية والعرقية في تلك الدول بتحريضها على التمرد على دولها.
وبناءً عليه، دعمت إسرائيل الأكراد في شمال العراق، الذين كان يقودهم الراحل الملا مصطفى البرزاني؛ وقوَّت صلاتها مع الموارنة من مسيحيي لبنان الذين يقودهم آل الجُميّل ، والجنوبيين في السودان.
وكما أسلفت كانت نيروبي في أوائل التسعينيات مركزاً إعلامياً مهماً.
وكان النشاط الإعلامي لحركة التمرد متميزاً، قاده الشاب ستيڤ ووندو، وهو ذو قدرات لا تُنكر. وكنت مسؤولاً عن الإعلام بالسفارة Press Officer بجانب مهامي الأخرى.
وأفلح الجنوبيون في ترويج دعايتهم القائلة: إن الحرب هي بين شمال عربي مسلم يستهدف وجودهم وهويتهم؛ وجنوب أفريقي مسيحي.
وكمثال على رسوخ تلك الدعاية في الأذهان، أذكر أن الرجل الثالث في وزارة التجارة الكينية واسمه كاماو، رافق وزير التجارة آرثر مقوقو في زيارة للخرطوم؛ وفي اليوم الأخير للزيارة سألني:
“Where are these Arabs they are talking about in the papers in Nairobi ?….. these people are just Kenyans !!!”
“أين هؤلاء العرب الذين يتحدثون عنهم في الصحف في نيروبي…… هؤلاء الناس ما هم إلاّ كينيين؟؟”
وكانت تلك الدعاية مَبْعَثاً لتعاطف كثير من القادة الأفارقة مع الجنوبيين؛ بل وحتى الأمريكان السود. ولذا أصبح حتى بعض القادة الأفارقة يعتقدون أن كل سوداني لا يشبه صورة العرب النمطية في لونهم، إنما هو أسود خائن لانتمائه العرقي الأفريقي.
في عام 1991 زار وفد رسمي سوداني زامبيا، فقال لهم الرئيس كينيث كاوندا:
لماذا تتركون العرب يسيطرون عليكم؟؟
وأذكر أن زعيم المعارضة الكينية عمنا جرموقي أوجينقا أودينقا، زعيم المعارضة في عهد موي، قال لي:
لماذا لا تعطي حكومة العرب في السودان هؤلاء الإخوة استقلالهم؟
وتواصل دعم إسرائيل للجنوبيين في عهد قرنق.
وزار قرنق إسرائيل مرتين؛ وأجرى عملية جراحية لعينه في إحدى زياراته؛ ويُروى أن الناشط ياسر عرمان رافقه في إحداها.
وكان الحزب الشيوعي من أكبر الداعمين، وكان قياديوه يلتقون بقيادات التمرد وينسقون معهم في نيروبي؛ والتقيت بها ببعضهم، كان من بينهم الراحل التجاني الطيب. ومن ثم لم يكن حزب الأمة وحده من دعم متمردي قرنق بالرجال.
واستطاع قرنق بحنكته وذكائه تسخير أحزاب الصادق المهدي والميرغني لدعمه، بل تبنَي خطِّهِ ، وأوصلهم لمبتغاه فتبنوا (حق تقرير المصير) للجنوبيين في “مؤتمر القضايا المصيرية” في أسمرا في العام 1995.
تبنى قرنق الخط الوحدوي بعد اتفاقية السلام الشامل (2005)، وتحديداً بعد الاستقبال الضخم الذي حظي به في (الساحة الخضراء) بالخرطوم، فقال: إن ثلاثة ملايين استقبلوه (طاقة الساحة الخضراء 750 ألف شخص) وظن أنه يمكن أن يُنتخب رئيساً.
وكان تبنيه لهذا الخط الجديد، والذي يناقض استراتيجية الانفصال الغربية، هو سبب قتله.
وعقب مقتله، حدَّثني السيد أنيس حجّار أنه كان جليساً لقرنق وزوجته ربيكا والسفير ماثيانق؛ فقال لهم قرنق:
إنني لن أعيش طويلاً.
فلما استفسره أنيس لماذا قال هذا؛ أجابه قرنق:
كثيرون لا يُعجبهم ما أفعل!!!
ومن عجائب تناقضات الدول والساسة واللّا معقول في مواقفهم ، أن وزيراً كينياً كان صديقي وكان مُقرّباً من موي، قال لي في 1993: إنه يمكنهم أن يريحونا من قرنق!!!
وأضاف: هذه العملية تكلفنا 5 مليون دولار، يأخذ مسؤول الأمن في كينيا نصيبه: ويأخذ الميزي (تعني الرجل الكبير بالسواحيلية) نصيبه ويأخذ هو نصيبه.
قلت له: حكومتي لن توافق؛ لأنها مناهضة لمبدأ الاغتيالات، وحكومتي تتحاشى هذه الوسائل ، لأن الاغتيالات تجر اغتيالات مضادة .
وحقيقة ساورني ظن أن الفكرة ربما تُقبل من البعض؛ فقرنق هو قائد ومُلهم الحركة، واختفاؤه يمكن أن يعصف بها ويريح السودان من بلوائها وما أثخنته في رجالنا، وربما قال البعض:
إنّ بالشِّعْبِ الذي دون سَلْع
لقَتِيلاً دَمُهُ ما يُطَلْ!!!
وكان هذا الظن في ذلك البعض – الذي ثبت لي خطله – قائماً على تأثير مرارات الحرب وقتها. وللحقيقة فقد كان قرنق زعيماً عظيماً حقق كثيراً من أحلام مواطنيه.
نقلت ما قاله لي الوزير لدكتور على الحاج – كان بنيروبي وقتها – وهو مسؤول ملف الجنوب، فانزعج غاية الانزعاج، وكانت خشيته أن أكون وافقت الوزير في رأيه أو قلت له إن السودان سيقبل الفكرة.. ولم تبدُ عليه علامات ارتياح إلاّ بعد أن أفدته أنني لم أُوافق الرجل فيما قاله لي ، وأنني قلت له بوضوح إن حكومتي لن تقبل هذه الوسائل .
وواصلت إسرائيل علاقات وشيجة مع الجنوب بعد قرنق؛ ولذا كانت أول زيارة لسلفا كير لإسرائيل لشكرها، وتبادلوا التمثيل الدبلوماسي.
وجنّدت الموساد العديد من السودانيين الذين لجأوا لها، وخاصة بين أبناء دارفور منهم.
وسيكون من السذاجة الظن أن إسرائيل ستترك السودان وشأنه حتى لو أقام معها اتفاق سلام؛ فما حدث لليهود في أوروبا من اضطهاد خلال ألف عام، ثم ما أصابهم خلال الهولوكوست، ومن بعد عداءهم مع العرب ؛ جعلهم لا يثقون بأحد ولن يدخلوا في مجازفات ومخاطرة.
لقد دعم السودان المقاومة الفلسطينية في غزة بالسلاح، الذي كان يهربه عبر مصر من خلال الأنفاق. وأعلم علم اليقين أن عمر سليمان، رئيس جهاز المخابرات والرجل القوي في مصر كان على علم، وكان يغض الطرف.
صارحه بذلك مسؤول سوداني، فقال له عمر سليمان : ” هو في حد سألك”!!!
وشارك السودان في كل الحروب العربية ضد إسرائيل.
ومن ثم كان ترك السودان وشأنه من المستحيلات، فذلك مناقض لنظرية شد الأطراف التي لازالت إسرائيل تطبقها.
يمكن لإسرائيل فقط تغيير وسائل التدخل والتأثير.

السفير عبد الله الأزرق