بلة ريق نأخذ خلالها أنفاسنا بعمق!
تشريبة مؤقتة نبلّ بها ريقنا الذى جفّ وصار حطبة، ونأخذ خلالها أنفاسنا بعمق، فربما نهدأ ولو بقدر ضئيل من الشعفة والخنقة والكتمة التى تحاصرنا، لأننا مع أهلنا فى غزة تحت الأنقاض!.
والتشريبة لمن لا يعرف، لأنه ليس من أصول فلاحية مثلى، هى الوقت المقتطع من ساعات العمل المتواصلة فى الغيطان، وخاصة خلال قيظ الصيف.. وفيها يشرب الأنفار الماء من القلل والزِّلَع، وربما من الترعة مباشرة، ولو تيسر التدخين وشرب شاى سريع وتمديدة تستند فيها الظهور لشجرة أو أكوام ردم وسباخ!.
فى أكتوبر الحالى، شأنه شأن أكتوبر من كل عام، يقام مولد القطبين الغوثين «سيدى أحمد البدوى» و«سيدى إبراهيم الدسوقى»، وقد كنت لسنوات متعاقبة أذهب وأقيم وأخدم سادتى الضيوف القادمين من كل فجاج المحروسة، ودول من كل أنحاء العالم.. وقد كتبت منذ سنوات خاطرة أقتبس منها بعضها:
فى دير الشايب بالأقصر، جلست على الأرض مع من يدقون النواقيس ويترنمون، وفى دير الأنبا بيشوى توغلت حتى المكان الطاهر المقدس الذى يتعين أن يسجد الراهب عند دخوله، وكان أبونا سدراك، الذى أصبح فيما بعد مطرانًا للقدس- رحمة الله عليه- فى الدير آنذاك، وكانت بيننا حوارات، أظنها شديدة الثراء!، وفى الكاتدرائية المرقسية الكبرى بالأنبا رويس حاورت قداسة البابا شنودة لمدة ثلاث ساعات، وكانت متعة روحية وعقلية رائعة، وفى ساحات البدوى والدسوقى والشاذلى والقنائى وعلى الأرصفة المحيطة بمشاهد آل البيت مولانا الإمام الحسين، وستنا السيدة زينب أم هاشم الطاهرة، وستنا السيدة نفيسة العلوم التى ختمت القرآن فى موقع دفنها سبعين مرة، وكان الإمام الشافعى يتلقى عنها العلم الشريف؛ لبست الخرقة ومضيت حافيًا أشاهد تجليات الشطح على ألسنة وفى وجوه الفقراء.. أى الدراويش المحبين!.
وفى العراق، زمن الشهيد الرئيس صدام حسين، ذهبت ذات مرة بدعوة رسمية، وقبل أن أقوم بأى مقابلات أو اجتماعات، وفى يوم وصولى نفسه، توجهت عصرًا إلى حيث «مرقد الجنيد»، وإلى جواره «السرى السقطى».. وبالقرب منهما مرقد فتى سيدنا موسى واسمه كما هو مكتوب: يوشع بن نون.. وبجوار ضريح الجنيد والسرى السقطى كانت نخلة يتساقط منها أطيب رُطب ذقته، وعين ماء من أصفى ما شربت!.. بعدها ذهبت إلى الإمام موسى الكاظم ولم أتمكن من الذهاب للنجف!..
ثم كانت الذروة بالقرب من الروضة الشريفة بالمدينة المنورة- على ساكنها أفضل السلام وأتم التسليم- بكيت وناجيت وتوسلت وصرخت ومت آملًا فى حياة!.
وكلما تخيلت المحروسة بدون حماتها وحراسها الذين لم ينقطع سلسالهم منذ إدريس «أوزوريس»، وأنها أضحت مكشوفة بلا وجدان، تيقنت أنها نهاية العالم، وسرعان ما أطرد الكابوس الذى يهجم على روحى كلما شاهدت أو طالعت ما يتصل بأمثال: مخيون وبرهامى والحوينى والإرهابيين الذين نزع منهم الوجدان انتزاعًا حتى صارت الحجارة أرق منهم وأكثر عاطفة على خلق الله!. حاولت أن أتلمس التيسير للذهاب إلى البدوى والدسوقى، حيث توالت الاحتفالات بهما هذه الأيام، فلم يكن ثمة نصيب، وحزنت لأن التيسير علامة الإذن، وانصرفت إلى قراءة أورادهما، ومضيت إلى المراجع أنقب فى السيرة، لعل فى القراءة ما يعوض الزيارة!.
فى الأديرة، وفى الساحات، وعلى الأرصفة الصوفية، تجلّت أصالة السبيكة، وظهرت متانة الضفيرة.. ولا يمكن لمن كان له قلب ووجدان ألا يتمايل بكل كيانه فيما هو منصت بكليته إلى الترانيم فى الأديرة والكنائس وإلى الإنشاد والأذكار فى الساحات وعلى الأرصفة.. وليست مبالغة ولا تهيؤات عندما تستقبل روحك عبر أذنيك ترنيمة وإنشادًا مسيحيًا، وتمضى إلى الحضرة فى الساحة وعلى الرصيف، فإذا بالجملة الموسيقية والإيقاعية والنصوصية تستكمل نفسها؛ لأن المصدر واحد والمشرب الصافى هو.. هو!.
فى دسوق، يقيم مولانا قطب الغوث إبراهيم الدسوقى..
ودسوق، حسب على باشا مبارك فى خططه التوفيقية الجديدة، هى «بلدة جليلة مركز قسم من مديرية الغربية- لم تكن محافظة كفر الشيخ استقرت بعد- على الشاطئ الشرقى لبحر رشيد قبلى- جنوبى- فوة بنحو ساعتين.. وأبنيتها بالآجر الجيد، وفيها قصور مشيدة بشبابيك من الزجاج والحديد، منها قصر لعبدالعال بيك، رئيس مجلس الغربية، وقصر للسيد إمام القصبى، شيخ جامع سيدى أحمد البدوى، وقصر لبسيونى الفار، من ناحية دميرة.. وبها أحد عشر مكتبًا لأطفال المسلمين، ووابورات مياه، أحدها لذات العصمة عين الحياة… وبها ثلاثة جوامع، أكبرها وأشهرها جامع القطب الحقيقى سيدى إبراهيم الدسوقى، الذى بناه أولًا بعض السلاطين، ثم وسّعه وأعاد عمارته السلطان قايتباى.. والآن- سنة 1293 هجرية- جارٍ تجديده على طرف الخديو إسماعيل بمعرفتنا، أى على مبارك».
وفى الطبقات الكبرى لسيدى عبدالوهاب الشعرانى، يختص سيدى إبراهيم الدسوقى بأكثر من خمس وعشرين صفحة من الحجم الكبير، مشبعة بعطر فواح هو عبارات نورانية مقتبسة من مشكاة إمام الشريعة والحقيقة القطب الدسوقى. ومن عباراته التى هى محيط بغير حدود أختم بهذا الاقتباس: «العارف يرى حسناته ذنوبًا.. ولو آخَذَه الله تعالى بتقصيره فيها لكان عدلًا»، وكان يقول: «يا أولادى.. اطلبوا العلم ولا تقفوا ولا تسأموا، فإن الله تعالى قال لسيد المرسلين: (وقل رب زدنى علما)، فكيف بنا ونحن مساكين فى أضعف حال وآخر زمان!، وسبب طلب الزيادة من العلم إنما هو للأدب؛ يعنى اطلب الزيادة من العلم لتزداد معى أدبًا على أدبك، وما قدروا الله حق قدره».
سلام عليك يا أبا العينين فى ذكرى مولدك.
أحمد الجمال – المصري اليوم