الخرطوم بين الشفشفة والشفافية!
الغالب على لغة لصوص الخرطوم في هذه الأيام استعمالهم كلمة (شَفْشفة) للدلالة على ضرب من سرقة البيوت التي هجرها أهلها بسبب الحرب.
حاولتُ البحث في أصل الكلمة، إذ ربما تكون من مادة (شفف)، فوجدتُ شَفَّه الحُزْنُ والحُبُّ يَشُفُّه شَفّاً وشُفُوفاً. والشُّفوفُ: نُحُولُ الجِسْم من الهَمِّ والوَجْدِ.
وشَفَّ جِسمُه يَشِفُّ شُفُوفاً أَي نَحَلَ. قال الجوهري: شَفَّهُ الهَمُّ يَشُفُّه، بالضم، شَفّاً هزَله وشَفْشَفَه أَيضاً. ومنه قول الفرزدق:
مَوانِع للأَسْرارِ إلا لأَهلِها، ويُخْلِفْنَ ما ظَنَّ الغَيُورُ المُشَفْشَفُ
قال ابن بري: ويُروى المُشَفْشِفُ وهو المُشْفِقُ. يقال: شَفْشَفَ عليه إذا أَشْفَقَ.
والشَّفُّ والشِّفُّ: الثوبُ الرقيقُ، وقيل: السِّتْر الرقيق يُرى ما وراءه، وجمعهما شُفُوفٌ.
وشَفَّ السترُ يَشِفُّ شُفُوفاً وشَفِيفاً واسْتَشَفَّ: ظهر ما وراءه.
واسْتَشَفَّه هو: رأَى ما وراءه. قال الليث: الشَّفُ ضرب من السُّتور يُرى ما وراءه، وهو ستر أَحمر رقيق من صُوف يُسْتَشَفُّ ما وراءه، وجمعه شُفُوف؛ وأَنشد:
زانَهُنَّ الشُّفُوفُ ينْضَخْنَ بالمِســكِ، وعَيْشٌ مُفانِقٌ وحَريرُ
واسْتَشَفَّتْ ما وراءه إذا أَبْصَرَتْه.
وشَفَّ الثوبُ عن المرأَة يَشِفُّ شُفُوفاً: وذلك إذا أَبدى ما وراءه من خَلْقِها.
والثوب يَشِفُّ في رِقَّتِه، وقد شَفَّ عليه ثوبُه يَشِفُّ شُفوفاً وشَفِيفاً أَيضاً؛ عن الكسائي، أَي رَقَّ حتى يرى ما خلفه.
ولا أرى شيئًا يجمع بين هذه الشفشفة في لغة العرب وبين شفشفة لصوص البيوت من الجنجويد ومستنفريهم، اللَّهم إلا جامع النحول والإشفاق في كلٍ. أو ربما معنى الشفوف الدال على ظهور ما وراء الستر الرقيق، فقد علمنا أن معاشر المشفشفين يأتون إلى البيوت من غير أبوابها أو ينظرون من بين الستور حتى إذا تأكدوا من وجود شيء نفيس عادوا لينقلوا ما خف حمله وغلا ثمنه.
وبلغني أن المشفشفين لا يدخلون البيت المسكون، أما البيوت الخالية فهي غرض للمشفشف الذي ربما يكون من جيران السوء: قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: واللَّه لا يُؤْمنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِن، واللَّهِ لا يؤْمِن، قِيل: من يا رسولَ اللَّه؟ قَالَ: الَّذي لا يأْمنُ جارُهُ بَوائِقَهُ (متَّفَق عَلَيه).
ومن طريف ما سمعت من صفة الجيران ما نصح به أحد أصحابنا في مكة وكنت أبحث عن شقة أسكنها، فقال لي: أي شقة تختارها تأكد أولا من الجيران… والفيران”!
ولا تُسمى السرقة شفشفة عندما تقع عنوة واقتدارًا؛ يأتي السارق بعربة نقل ويحمل كل ما في البيت من متاع ويذره قاعًا صفصفًا. أو السرقة بوضع اليد و(بقوة عين) مثل التي رواها لي الصديق الصادق الفقيه في رسالة (فيسبوكيَّة) بالأمس أنقلها كما وردتني: “ما عارف أقول شنو هل هي طرفة ام مأساة حاقت بأهل الخرطوم؟ القصة أن ابن عمتي وزوجته لديهم بيت طابقين في حي الهدى ذهبا الأسبوع الماضي للاطمئنان على منزلهم… ما شاء الله تبارك الله وجدوا المنزل آخر فرش وسجاد فاخر وشاشات كبيرة وعدد كبير من المكيفات الجديدة التي تم تركيبها لأن المنزل سكنه لواء في الدعم السريع معه أمه وأخته. تم استقبال الزوج والزوجة بأريحية وكرم فياض وطلبت منهم والدة اللواء التأكد من سلامة عفشهم لأنه تم وضعه في غرفة وجدوه سالماً بما فيه اللابتوب. وأصرت عليهم أم اللواء بالمبيت، وعند انقطاع الكهرباء تم تشغيل الجنريتر. ومن الحاجات الطريفة أن أم اللواء دعتهم لحضور زواج ابنها وأن لا ينقطعوا من زيارتهم واعتذرت أم اللواء لهم عن أنهما (الأم والبنت) لبستا ملابس زوجته.
الحاجة التي حيرتني أن قريبي وزوجته رجعوا فرحانين لأن بيتهم بخير وأم اللواء وعدتهم بالحفاظ على نظافته رأيكم. شنو في قوة العين والجراءة؟!” (انتهت رسالة الدكتور الصادق).
وكما قلت ليست هذه من الشفشفة، بل هي من الشفافية… قمة الشفافية!
كتب ـ عثمان أبوزيد