رأي ومقالات

عادل عسوم: أشجار في الذاكرة

الشجرة كائن حي، وكم من شجرة قاسمت الناس حياتهم وتركت -ومافتئت- بصماتها لتصبح مبعثا للذكريات…
تلك دومة ودحامد (صعدت) بطيبنا الصالح سماوات دونها سحائب التثمين، وان كانت شجرة الدوم قد نالها شئ من غمط اهلنا حيث قالوا بأنها (تضل بعيد)، ولعل السبب في ذلك طول ساقها وانحنائها، فينأى ظل الرأس منها عن محيط البيت الذي تنمو فيه، بخلاف شجرة النخيل الممشوقة دوما دونما اعوجاج إلا ماندر، وقد نشأت محبا لأشجار الدوم، فقد حبوت و(تاتيت) في ظل دومات كن في قعر بيتنا بميرغنية كسلا، وكان لثمارها طعم حلو لاتنافسه في حلاوته إلا دومة تحرس نبع توتيل يسميها أهلنا في كسلا دومة (القوس)، وهي طويلة جدا ومنحنية على شكل قوس ينقصه وشاج لو وصل الرأس منها بالقعر لاضحت قوسا حقيقيا يرمى السهم منه ليسقط في مدينة أسمرا، أو لعله يتجاوزها ليسقط في مياه البحر الأحمر، ومن الدوم كذلك (دوم كنديمر) في قرية تنقسي الجزيرة التي عشت فيها بعض يفعي، حيث عمل الوالد رحمه الله في شفخانتها مساعدا طبيا، دوم كنديمر هذا كم مهول من الدوم على شط النيل عند محطة رسو (بوابير البحر) كربكان وعطارد والزهرة والجلا وفشودة، وكنديمر قيل بأنه شيخ كان يحفظ القرآن ويعلمه لأهل تنقسي قبل مئات السنوات، كانت ظلال هذا الدوم لنا ميس لعب، ولانغادرها إلا بعد أن تنتاشها حجارتنا فنتخير أحلاها طعما ويسميها أهل تنقسي بال(كلمونيي)، تنطق ياءها مشددة ومزججة بإمالة أهلنا الشايقية، والحجر ممن قوي زنده منا يأتيه بأكثر من خمس دومات دفعة واحدة من (فلعة) واحدة، وهناك (دوم النبي عذير) في نوري المقابلة لقريتي البركل على الشاطئ المقابل لنهر النيل حيث أخوالي الحواجنير طيب الله ذكرهم، ويقول أهلنا بأن المكان له وصل بنبي الله عذير والله أعلم.
وان فعلت دومة ودحامد مافعلت بطيبنا الصالح، فقد فعلت (بانات رامة) ذات الأمر براحلنا الفخيم البروف عبدالله الطيب، لقد استمد من امتشاق البان العزم وأَلَقَ القصيد، فإذا به يلج بهن عوالم الشعر، وكنت أظن بأن شجرة البان هي شحرة السيسبان، لكن نبهني أحد الأصدقاء بأنهما مختلفتان!.
ومن قبل الدوم والبان، هناك (نخلة) مريم، ام نبي الله عيسى عليهما السلام، وللعلم لا يصح مايتناقله الناس مايقال بحديث النخلة: (أكرموا عمتكم النخلة…)، فلم يصح ذلك كحديث نبوي شريف.
عن أشجار النيم، هناك نيمة حمد في حزيمة، كم لهذه النيمة من حكاوي وذكريات للقادمين إلى سوق كريمة وقطارها، وما ان يذكر الناس هذه النيمة الا وينبري إلى الخاطر عمنا جابر سواق بص عمر عبدالسلام رحمهما الله،
ولجابر هذا قصة حكاها لي الوالد رحمه الله، ووالدي كان صديقا ل جابر،
قال الوالد رحمه الله وقد كان حينها يعمل في مستشفى كريمة:
جاءني جابر وهو منزعج من قشور بيضاء كثيفة بدت تظهر على راحة كفيه وقال لي:
ياحسن أخوي الشي دا لايبقا المرض الكعب داك؟
قال الوالد ماكان مني إلا أن طيبت خاطره وقلت له بأن الشغلانية نقص في الفيتامينات بس، ووصيتو بأن (يقع الجرجير)…
قال الوالد، حكي لي جابر -بعد ذلك- وأكمل لي بقية القصة أهل حزيمة، قالوا بأن جابر رحمه الله مر بنيمة حمد في حزيمة، وقد اعتاد ايقاف البص عندها كي تبرد ماكينته وينزل الركاب ليرتاحوا قليلا ويتسوقوا، وجد جابر (انقاية) جرجير أسفل درب العربات يجاورها جدول ماء، فسأل عن صاحب الجرجير فقيل له بأنه أحد ابناء حزيمة كان مغتربا وعاد، وهو صاحب الجرجير.
– نان وينو هسع؟
– شال سوق كريمي الصباح لكن بيجي المسا.
– خلاس أنا اشتريت حيضانو ديل، ووكت أجي التلاتا الجايي ان الله هون خلوهو يلاقيني هني جمب النيمي دي فشان أحاسبو.
واستلقى جابر رحمه الله على جنبه وجعل (يمعط) من الجرجير ويغسل في الجدول ويأكل، إلى أن أتى على جل الجرجير وطلب من أطفال بالجوار أن يمعطوا له البقية وأخذها معه.
قيل بأن صاحب الجرجير عندما عاد من كريمة ورأى جرجيره أثرا بعد عين استشاط غضبا، فقد ظن أنه اما سرقه سارق أو ان أحدا قصده بسوء فأطلق انعامه فأتت عليه، فإذا به يفاد بأن جرجيره أكله جابر سواق الباص، نظر اليهم شذرا وقال:
– انتو مجانين واللا مستهبلين؟!
جابر دا منو البياكل ليهو حيضان جرجير بالعدد دا؟!
ابتسموا وقالوا له بصوت واحد:
– انت تقول كدي فيشان ماشفت جابر دا ولابتعرفو،
على كل حال جابر دا زولا دغري وقالّك قابلني هني يوم التلاتاء الجايي فشان يحاسبك…
لم يملك صاحبنا الا الانتظار وهو يصدق ماقيل له…
وجاء يوم الثلاثاء، وانتظر الرجل في ظل النيمة، فإذا ببص عمر عبدالسلام يصل ويتوقف، واذا به برجل -ماشاء الله- يدفع بيديه الدركسون عن بطنه ثم يتزحزح لينزل بي(صفحتو) الى ان وقف على الأرض…
ما كان من صاحبنا الا ان جاءه وقال:
– انت أكيد جابر؟!
– أي ياني جابر، وهاك ديل شيل منهن قروش جرجيرك وأدني الباقي.
نظر الرجل إلى جابر وقال:
– علي الطلاق عفيت ليك جرجيري.
ومن الأشجار جميزة سوق كريمة التي كنا نسميها بجميزة (عزيزة) رحمها الله وهي امرأة غاب عنها عقلها، تدور على دكاكين السوق التحت والفوق لتسلم على أصحابها بطيبة تنم عنها ابتسامة حيية وتطلب من بعضهم (قرش واحد)، فإن زادها أحدهم تأخذ قرشا وترد الباقي،
أما أصحاب المطاعم فما من أحد كان يرفض لها طلبا مهما غلا ثمنه، فتأخذ منهم طعامها وتعود إلى الجميزة فتطعم هي وطفل لها لا يعلم احد كيف ومتى حبلت به ووضعته، وقد علمت بأنه أصبح ذو شأن بعد ان استقر به المقام في امدرمان بعد وفاة أمه…
هذه الجميزة ازيلت من مكانها، وقد كانت تجمل المساحة مابين سوقي كريمة التحت والفوق من جهة قضيب القطر، فكانت مظلة للمسافرين بالقطار، وكذلك لركاب القرى شمال كريمة على امتداد منحنى النيل حتى دنقلا…
يالهذه الأشجار (الحميمة).

عادل عسوم