📍المعقول واللاّ معقول في العلاقات الدبلوماسية (38) لندن (1): عم عثمان سفارة
السفير عبد الله الأزرق يكتب:
📍المعقول واللاّ معقول في العلاقات الدبلوماسية (38)
📍لندن (1) : عم عثمان سفارة
عرفت السيد الوكيل السفير دكتور مطرف صديق كرجل رائع بكل المقاييس.
عرفته فطناً ذكياً، وعرفته شجاعاً قوياً.
ولم يمنعه تدينه – الذي أحسب أنه صادق – من أن يكون صاحب طُرفة وظُرف.
وهو طبيب كنت أعرفه من زمالته وصداقته لطبيب قريبي في مستشفى الخرطوم.
وهو قريب للرئيس نميري.
عمل كضابط أمن قبل التحاقه بالخارجية.
وللحقيقة فإن ما أنجزه دكتور مطرف لم ينجزه أحد من الوكلاء ، لا الذين من قبله ولا من خلفوه .
شيد دكتور مطرف صُروحاً . منها البرج المطل على شارع الجامعة ، وتكملة نادي الدبلوماسي في شارع المطار ، والنادي الأسري الدبلوماسي في كافوري ، وروضة أبناء الدبلوماسيين ، وتمليك عدد من السفارات الأجنبية لقطع أراضي بالخرطوم ، اشتراها لها من وزارة التخطيط العمراني ، لِتُمَلّكنا قطع أراضي لسفاراتنا في بلادها . هذا رجل يستحق كل تكريم .
استدعاني السيد الوكيل لمكتبه في 2010 وأخبرني أنه قرر نقلي كسفير للسودان بلندن.
وحقيقة لم أُسَر للخبر؛ بل حملت هَمَّ ما ينتظرني، وأنا أعرف موقف بريطانيا من الحكومة التي سأمثلها.
وقبل سفري أجريت اتصالات مع من يعرف بريطانيا من الزملاء الذين عملوا بها ومن بينهم السفير الصديق محمد حسين زروق، أمطر الله على قبره شآبيب الرحمة والغفران. كان ذلك الرجل أمّةً وحده.
وطَفِقْت أقرأ عن الإنجليز وعن بلادهم؛ وعن الأسرة المالكة والملكة التي سأقدم لها أوراق اعتمادي.
وعرفت أن السفراء يلتقون بالملكة وزوجها وبعض أفراد العائلة المالكة The Royals مرتين في العام، هذا غير اللقاءات العامة غير المباشرة.
ومن أطرف ما قرأت أنه لا يجوز استخدام كلمات معينة في حضرة أفراد الأسرة المالكة، مثل كلمة Dessert؛ لأنها ممنوعة عليهم ويستخدمون بدلاً عنها كلمة Pudding.
كما أنهم لا يستخدمون كلمة Patio (فناء) وكلمة Toilet؛ لأنها فرنسية ويستخدمون بدلاً عنها كلمة Loo أو Lavatory.
ولا يستخدمون كلمة Lounge (بهو أو قاعة) وكذلك كلمة Couch (كنبة).
قد تبدو هذه أشياء صغيرة، لكن ينبغي على الدبلوماسي أن يلم بأشياء عديدة عن البلد المضيف وحكامه، خاصة ما له علاقة بقواعد اللياقة والإيتيكيت في الحديث.
وفي لندن سعدتُ بالتعرف على عمّنا المرحوم عثمان محمد يوسف الشهير (بعثمان سفارة) جعل الله مثواه الفردوس الأعلى، فهو من أعلام لندن، ومعلم السفارة الأبرز؛ وهو معروف، وخُلِّد اسمه أكثر من السفراء الذين عملوا بلندن، هذا رغم أن فيهم أعلاماً وقامات سامقة في الساحة السودانية.
أذكر أنني قلتُ يوماً لعم عثمان: إنني سأكتب يوماً عنه قائلاً:
(عملت مع عم عثمان سفارة).
قَدم عم عثمان للندن في 1945، وقال لي: إنه شارك الإنجليز في تعمير لندن، بعد أن خربتها الغارات النازية خلال الحرب. وعمل في مكتب السودان الذي كانت وزارة المستعمرات تدير منه السودان. وبقي إلى استقلال السودان، حيث واصل العمل في السفارة السودانية.
عم عثمان هو خير من ينصحك عن بروتوكولات لقاء الملكة، من كثرة لقاءاته بها.
فقد منحته الملكة اليزابيث الثانية (أو اليصابات كما يسميها العلامة عبد الله الطيب) ميداليا الملكة فيكتوريا الفضية عام 1963.
وبمنحه تلك الميداليا أصبح عم عثمان يُعامل من قبل قصر بكنجهام معاملة النبلاء؛ ويُدعى مع علية القوم لبعض المناسبات الملكية؛ وكان يذهب إليها بقامته المديدة معتمراً عمامته وجلابيات ناصعة البياض وعباءته السوداء الفاخرة، مميزاً نفسه كسوداني عن الجميع.
كان عم عثمان أول أمره يسكن وأسرته في قبو السفارة.
والسفارة نفسها من ممتلكات الملكة، ولا تبعد أكثر من خمسة عشر متراً عن قصر الملكة الأم Queen Mother.
وهذا مكَّن أبناءه وهم صغار من اللعب مع أبناء الملكة اليزابيث حين يأتون لجدتهم.
وقصر بكنجهام نفسه قريب من مبنى السفارة.
وبطول المكث والتعامل أصبح عم عثمان معروفاً لدى كثيرٍ من الرسميين البريطانيين؛ وهذا مكّنه من سرعة إنجاز كثير مما تحتاجه السفارة والجالية كسرعة إتمام إجراءات تجهيز وترحيل المتوفين مثلاً، وغيرها كثير.
وقد منحه الرئيس البشير وسام الجدارة عام 2001، ومنحته جامعة الخرطوم العريقة درجة الماجستير الفخرية عام 2002، تقديراً لخدماته للمبتعثين.
بموجب اللوائح الحكومية كان يفترض أن يحال عم عثمان للتقاعد قبل وصولي إلى لندن بسنوات.
لكن مَنْ مِنْ السفراء يقدر على تجاوز عم عثمان!!! فهو بقدراته وبما يستطيع إنجازه وخلقه يفرض الاحترام.
قال لي مرة في أسابيعي الأولي بلندن: إنه سيموت في اليوم التالي لإحالته للتقاعد.
كانت رسالة فهمتها؛ فطمأنته، فأنا أعرف عنه الكثير الحَسَن مما سمعت عنه قبل وصولي.
وبقي عم عثمان معي ومع الذين بعدي إلى أن توفاه الله في أكتوبر 2019.
قال لي، رحمه الله: إن الرئيس نميري كان يكسر قواعد البروتوكول في المأدبة التي يقيمها السفير له عند حضوره للندن، فكان يطلب منه الجلوس بجانبه، تقديراً له.
وقال: إن الرئيس نميري كان يتسلل من مقر إقامته ويستقل تاكسي لمنزل عم عثمان، حيث يستلقي مرتاحاً ويرطن (الدنقلاوية) مع عم عثمان، ويأكل أطعمة النوبيين التي تُعدّها زوجة عم عثمان.
وكان عم عثمان خلوقاً كريماً جواداً؛ وكثيراً ما يدعونا كلنا لما لذّ وطاب بمنزله بلندن.
كانت السفارة لعم عثمان هي الوطن.
ولن أنسى غضبته الـمُضرية (بل الدنقلاوية) غَدَاةَ حاول مخبول من المعارضين للإنقاذ بلندن ذات أحد أن يحرق السفارة.
كان يعتني بكل صغير وكبير بشأنها، فمثلاً لا يدع العلم أن يهترئ أو أن يتمزق.
وله ذكريات جمة وطريفة مع السفراء الذين تعاقبوا على السفارة من أول يوم افتتحت فيه.
لكنه كان يستر العيوب ولا يذكرهم إلّا بخير.
حدّثني أن السيد محمد عثمان الميرغني زار لندن مرةً في منتصف الثمانينيات؛ فوجّهه السفير (لم يذكر اسم السفير) أن يعطيه سيارة العلم؛ ونصحه عم عثمان أن يعطيه عربة المرسيدس المخصصه للضيافة، لكن السفير أصر قائلاً: إن هذا زعيم كبير.
وبعد يومين تذكر السفير أنه ذاهب لمناسبة رسمية تقيمها الملكة، فوجّه عم عثمان أن يحضر سيارة العلم من الميرغني؛ لأنها العربة الأولى والمسجلة في قصر بكنجهام.
ولـمّا ذهب عم عثمان للميرغني ونقل إليه طلب السفير؛ أطرق الميرغني هنيهةً ثم رفع رأسه لعم عثمان قائلاً:
سنعطيك سيارة العلم إذا أحضرت لنا بدلاً عنها سيارتين!!!
وذهب عم عثمان بالخبر للسفير الذي أدرك ورطته ، فاستشاط غضباً وانقلب على من وصفه بالزعيم الكبير من قبل، وسبّ مولانا سَبّاً يصعُب عليّ أن أكتبه .
السفير عبد الله الأزرق