كلنا مريم
«أكتُبُ، كما لو أنّني أريد أن أنقذ حياةَ شخص آخر. لعلّها حياتي». هكذا وصفت الأديبة البرازيلية كلاريس لسپكتور طريقتها في الكتابة، وهي عبارة دالة يمكن أن نستعيرها هنا لوصف كتاب «كلنا مريم» للإعلامي محمد المرجبي، المؤمَّل صدورُه خلال معرض مسقط المُقبل عن مكتبة «قراء المعرفة» بمسقط. الكتابة هنا سعيٌ حثيث لمجابهة المرض ومقاومة الموت، بل ومحاولة تجاهله باستدعاء تفاصيل الفرح الصغيرة وتضخيمها والاحتفاء بها.
وإذا كنا نردد دائمًا أن بعض الكتب لا تكتب بحبر القلم فحسب، ولا بنقرات لوحة المفاتيح فقط، وإنما بدم القلب مباشرة، فإنه يمكن القول: إن «كلنا مريم» واحد من هذه الكتب التي لا يمكن لقارئها أن يظل هو نفسه بعد الانتهاء من الصفحة الأخيرة.
وللوقوف على أهمية هذا الكتاب سأستعيد ما كتبه الأديب الفلسطيني غسان كنفاني قبل أكثر من ستين عاما وهو يكابد آلام المرض، حين توصل إلى أن عصر المشاركة يكاد يكون معدوما بين الناس، «إنهم يحسون أنك تتألم، ولكنهم لا يعرفون كم تتألم، وليسوا على استعداد أبدًا لأن ينسوا سعادتهم الخاصة من أجل أن يشاركوا الألم، وعلى هذا فعلينا أن نتألم بيننا وبين أنفسنا، وأن نواجه الموت كما يواجه واحدٌ من الناس الآخرين نكتةً يومية».
حين كان محمد المرجبي يعيش يوميات مرض ابنته وذبولها على مدار سنوات، كنا- نحن أصدقاءه وزملاءه- نحس أنه يتألم، ولكن لا نعرف مدى هذا الألم. وهنا تكمن فرادة هذا الكتاب الذي يلتهمك بالتدريج؛ إذ يخيل إليك في صفحاته الأولى أنك ستقرأ فقط حكاية معاناة فتاة وأهلها مع مرض عضال، والمحاولات المحمومة لمقارعة هذا المرض ومهادنة الحياة، وهذا ما يحدث بالفعل، لكنك ما تلبث حين تتوغل في القراءة أن تكتشف أنك لم تعد مجرد قارئ عن الألم والمعاناة وإنما تعيشهما بكامل وجدانك وأحاسيسك، وأنك بتَّ فردًا في هذه العائلة المتكاتفة التي قررت التخلي عن كل مشاغل الحياة والتفرغ لمحاربة هذا المرض، وتهيئة كل الظروف المواتية لمريم لتشعر وهي في رحلة العلاج المضنية التي امتدت شهورًا أنها لم تغادر وطنها الأم، وما زالت بين أهلها وناسها الذين يتنقلون
معها من عُمان إلى الهند ثم تايلند، والبحرين، دون كلل أو ملل، يحتفلون معها بالعيد، ويعدون لها الوجبات التي تحب، بل ويفاجئونها أحيانا بزيارات صديقاتها الحميمات.
استغرقت «يوميات المرض والذبول» هذه سنوات عديدة، وحضرت عُمان فيها في خلفية المشهد، من رحيل السلطان قابوس -طيب الله ثراه- في العاشر من يناير 2020م، إلى جائحة كورونا التي اجتاحت العالم في العام نفسه، إلى الاحتفال بالعيد الوطني الثامن والأربعين، إلى بداية العام الدراسي، وغيرها من تفاصيل البلاد الكبيرة والصغيرة التي وضعت القارئ في الإطار الزمكاني للأحداث.
يقول المرجبي: إنه ليس معنيا بالأدب حين يكتب بقدر اهتمامه بالتعبير عما يجول في نفسه بكلمات بسيطة معبرة، غير أنه إذا ما استحضرنا تعريف رولان بارت للأدب بأنه «كل ما لا نستطيع قراءته بدون ألم، بدون أن نغص بالحقيقة» فإن يوميات «كلنا مريم» تتحول في مواضع غير قليلة إلى أدب رائق، يرينا وبشكل غير مباشر- وربما غير مقصود- كيف يتقدم الموت ببطء ويستحوذ على حياة الجميع، مكتِّفًا إياها- أي الحياة- وفارضا عليها شروطه وإكراهاته، جاعلا إيانا- نحن القراء- ننظر بامتنان وتقدير إلى حياتنا اليومية، ونشعر بأهمية أيامنا العادية، التي ما كنا لنعيرها أي اهتمام، لولا مشاهدتنا سوانا وهم يكابدون المنغصات للعيش حياة عادية طبيعية، بعيدا حتى عن ترف الحياة السعيدة. «سيقولون لنا: إن الوقت كفيل بالتخفيف، وسنحاول التصديق، ولكننا سنجده كل يوم ينكأ جُرحًا ويُحْدِث آخر، عند كل فرحة لا تكتمل، وعند كل سفر للهروب والتناسي، وعند كل بوح من أفراد «كلنا مريم» لموقف عاشه معك، أو كلمة صدرت منك، وعند كل هدية نختارها لمن نحب، وعند كل نظرة لباب غرفتك، وعند كل من يسألنا عن حكايتك» (الكتاب ص 503).
يختلف «كلنا مريم» عن أمثاله من الكتب عن الراحلين في أنه كُتِبَ في معظمه (باستثناء صفحاته الأخيرة) في حياة مريم، بل وكانت تعلم منذ البداية أن ثمة كتابًا يواكب مرضها، وتسأل عنه أباها بين فترة وأخرى، وكأنها تستمد منه القوة والشجاعة في مقاومتها للمرض. وإذا كان الأب يقاوم ذبول ابنته بالكتابة، فإن الفتاة؛ الموهوبة في الفنّ التشكيلي، تقاوم هذا الذبول بالرسم، سواء تلك اللوحات التي تحمل إبداعها الخاص، أو تلك التي تحاكي فيها رسوماتٍ أو صورًا شائعة. ولذا، فقد آثر المرجبي أن يوثق هذه الأعمال الفنية بنثرها بين صفحات الكتاب، ثم وضع qr يُحيل إليها في الصفحة الأخيرة تحت عنوان «هنا جاليري مريم»، وقد اختار المؤلف من هذه اللوحات أجملها وأكثرها تعبيرًا ليضعه في غلاف الكتاب الذي صممه الفنان يوسف البادي، وهي لوحة ذات إطار دائري تصوّر شجرة بلا أوراق تقف ببسالة أمام الشمس الملتهبة وتحلّق أمامها بعض الطيور التي تبدو مبتعدة، وأسفل اللوحة إهداء مريم لأبيها باللغة الإنجليزية: «to my dad». يتخيّل يوسف البادي في قراءته لهذه اللوحة ما تقوله صاحبتُها: «إني أرسم دائرة هي شمس ملتهبة، وإن الشمس مع ارتفاع حرارتها، هي ما يعانيه جسدي من ألم هذا الارتفاع وقسوته، وبالرغم من هذا؛ فإني لا أزال أقف كشجرة صامدة، حتى وإن كنتُ بلا أوراق، وسأظل مع هذا أنتظر طيور العافية تتراجع إلى أعشاشها في أغصان جسدي».
ليس هذا الكتاب الأول لمحمد المرجبي، فقد سبقه «صراج» و«الروزنامة العُمانية» و«أوائل عُمانية»، وأغلب الظن أنه لن يكون الأخير، فمن يقرأ عموده الأسبوعي في جريدة «عُمان» يُدرك أن كتابه القادم سيحمل عنوان: «دفتر مذيع»، لكن يحلو لي مع ذلك أن أسمي «كلنا مريم» كتاب العُمْر للمرجبي، ليس فقط لموضوعه الإنساني المؤثر، ولا لأنه يحول قارئه من مجرد متفرج على الألم إلى مشارك منغمس فيه، ولكن أيضا لأنه كتب بحرارة وصدق.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني – صحيفة عمان