عادل عسوم: العبور إلى الضفة الأخرى
لتوي فرغتُ من -إعادة- قراءة (مذكرات شيوعي اهتدى) للراحل أحمد سليمان المحامي رحمه الله، الذي حَبَّر فيه كل صغيرة وكبيرة عن حياته الذاخرة طوال عقود، كتاب ابتدره ببيت الشعر العربي المشهور:
ومشيناها خطى كُتِبَت علينا
ومن كتبت عليه خطى مشاها.
ألا رحم الله صاحب هذه الخطى المكتوبة، والرحمة والمغفرة لكل الذين كتب الله لهم الهداية ليعبروا إلى الضفة الأخرى، منهم شاعر الطير المهاجر الديبلوماسي صلاح أحمد إبراهيم، الذي كتب الله له ذات الهداية بعد خلاف بينه وبين عبد الخالق محجوب، فأصبحت كتاباته -من بعد- تشي بعبوره الميمون، بل وصل به الأمر أن يرسل رسالته المشهورة إلى الرئيس عمر البشير مشيدا فيها بانتصارات الجيش السوداني والدفاع الشعبي في جنوب السودان، كان ذلك في منتصف عام 1992، ودافع صلاح أحمد إبراهيم عن تلك رسالة واتبعها بتبرع سخي قدره خمسة آلاف فرنك دعما لجحافل الجهاد في جنوب السودان.
وفي معية صاحب الطير المهاجر ومريا والأستاذ أحمد سليمان هناك كُثُرٌ كانوا أخيارا في ماضيهم الشيوعي، ثم أصبحوا أخيارا بعد عبورهم إلى الشاطيء الآخر، إنها ذات الهداية التي تحدث عنها صاحب الخطى المكتوبة وعنون بها كتابه رحمه الله، من اولئك صديقي الذي اختاره الله منذ سنوات بعد ان خلد إسمه في ثنايا منابر اسفيرية اتاحها للناس كم أفادوا منها، لقد تغشته الهداية بعد خلاف مشهود مع ذات الحزب فحبّرَ الكثير من رؤاه ومصروره، ثم أتاه قضاء الله فأسلم روحه راضيا مرضيا بحول الله، ولا ازكيه على الله فهو حسيبه.
ذكرى صديقي هذا -رحمه الله- أوحت لي ودفعتني لأُحَبِّر هذه الخواطر فإليكموها:
تمددت في دواخله ظلالٌ من الريبة والتوجس -طوال ماضي عمره- عن الضفة الأخرى، توجُّسٌ تحول بتوالي السنون إلى كُرهٍ نأى به عن هذا الشاطئ عقودا من عمره الذي ناهز الخمسين الاّ قليلا.
هذه الظلال أذكتها في نفسه (قناعاتُ) لوالده الذي تربّى في كنف اليسار طوال عمره المديد إلى أن ارتحل إلى ربه، وعلى الرغم من نشأة أخيه الأكبر متيامنا، بل في لعله اختار أقصى اليمين؛ إلا أن اعجاب صديقي بأبيه جعله يُمعن في يساريته، إلى أن تزوج وأنجب البنين والبنات، لكنه بقي متنازعا مابين اعجابه بأبيه وحبه لأخيه الأكبر!…
هذا التنازع أذكى في نفسه شئ (ما) يشده إلى الشاطئ الآخر البعيد،
أحساسٌ يشبه (الأكولة) التي تنتاب المرء في ثنايا جُرح قديم يوشك على البرء…
أعطى اليسار كل عنفوانه عمرا وفكرا، وظل محاطا بالرفاق دوما، ولكن على الرغم من كل ذلك حرص على انتقاء أصدقاء له من أهل اليمين، أصدقاء يأوي اليهم كلما جنح به مركب الرفاق أو كبا حصانهم بُعيد ليلة من لياليهم الحمراء، قال يوما لصديق له من اولئك:
– على الرغم من كرهي للذي بين يديكم من فكر، الاّ انني أرغب، بل أحب أن تكون صديقي!
رد عليه الصديق وقد آتاه الله بصيرة:
انني أرى نور الهداية في منتهى نفق خواتيمك يا صديقي…
فينزل عليه كلام صديقه كغيث يثبت قدميه، وينسرب إليه إحساس عجيب براحة تتمشى في مفاصله النُعّسِ من بقايا كحول…
سأله ذات الصديق يوما:
ماالذي ينأى بك عنّا ياصديقي؟!
قال: فكركم هذا يقتل الابداع في كل ضروب الحياة، الغناء عندكم حرام، والتصوير حرام، والحرية على اجمالها عندكم منقوصة، حتى اشكالكم؛ لحى كثّة وعند بعضكم جلاليب قصيرة و…ومسواك!.
قال ذلك واشاح بوجهه، فابتسم الصديق ونهض الى مكتبته وعاد وبيده كتاب بعنوان (دستور الأخلاق في القرآن) ومؤلفه الدكتور محمد عبدالله درّاز، وقال وهو يمدُّ يده بالكتاب:
هذا هديتي لك، أسألك بالله أن تقرأه على مهلك…
لكن بقي هذا الكتاب لديه لسنوات دون قراءة…
ظل راحلنا طوال فترة الدراسة الجامعية وثيق الصلة بصديقه، وما أنفك رفاقه يلومون على تلك الصداقة المريبة، بل استُجْوِب وسئل مرة بسبب (حضوره) بعض حلقات التلاوة، فكان رده:
أما رأيتم نصارى لبنان يحفظون القرآن ليزداد اللسان منهم فصاحة؟! وأضاف:
انني أحضرها -أحايين- إذ أجدهم أفصح منا لغة وأجمل بيانا فأتعلم منهم الكثير،
ثم أنهى استجوابهم قائلا:
أما رأيتم العديد من رفاقنا تستاء الآذان من وقع لغتهم وتتأذى الأعين من خطل كتاباتهم؟!…
كان الراحل شجاعا عند إبداء رأيه، وصادما وحاسما لكل من يتقصّده بازجاء، وظلّ ذاك حاله إلى أن سافر ألى مصر لأكمال تعليمه الجامعي، وجامعاتنا حينها دون اصابع اليدين عددا، ولا مجال الاّ لقلّة من الطلاب للولوج إلى كلياتها…
وفي مصر بقي بمعية الرفاق كادرا نشطا ينجز كل مايوكل إليه دون كلل أو ملل، وبقي أسير حُبّه للفصحى- في كتاباته- دون العامية، يحبُّ الشٍّعر الجميل بدءا بأشعار شوقي والتجاني يوسف بشير والمجذوب، انتهاء بأشعار روضة الحاج التي أدمن قراءة قصائدها كلها، قال لي يوما عن روضة الحاج:
تعرف ياابن عمّي:
(روضة الحاج دي بقرا ليها لمّن أحس بي اني محتاج أشمّ لي هوا نضيف)…
وعاد بعد اكماله تعليمه الجامعي إلى أرض الوطن، ووجد له الرفاق وظيفة في احدى الشركات المملوكة لأحد الأقباط السودانيين، وبقي بذات النشاط بين رفاقه القدامى، وحينها كان لليسار حراك بائن في خارطة السياسة السودانية، حيث سيطر الاسلاميون سنيها على السلطة، وشرعوا يضيقون الخناق على الشيوعيين، فادخل الراحل -مع من أدخِل- ألى ما أسموها ببيوت الأشباح، وقد كتب يحكي عن ذلك في المنتديات، وكانت لتلك التجربة المريرة أثرها في ايغار صدره -أكثر- تجاه الإسلاميين، حيث نال وعدد من رفاقه من التعذيب والاذلال الكثير كما قال وكتب، وشكى ذلك إلى صديقه بعد اطلاق سراحه، فأبان له صديقه عدم تأييده للنظام في كل ممارساته وان كان إسلاميا، فالنظام لايمثل الإسلاميين حق التمثيل، والسبب في ذلك غلبة العسكريتاريا عليه، فلم يقتنع بتبرير صديقه، لكن كل ما أصابه لم ينأى به عن ارتياد حِلَقَ التلاوة مع غرمائه، وخلال احدى الحلقات تحدث أحدهم عن هجرة النبي صلوات الله وسلامه عليه من مكة، فعلق في ذهنه هذا الحوار بين نبينا صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام:
أَوَ مُخرجيّ هم؟!
قال جبريل:
نعم.
ثم لم يطب له المقام في السودان، فاستصحب موسم طيبنا الصالح مهاجرا إلى الشمال، وقد حظي بفرصة السفر جوا إلى بريطانيا، ويومها
رمى بنفسه على مقعد الطائرة بعد أن أمضى يومين من الحراك المضني لإكمال اجراءات سفره، يومان لم يذق خلالهما طعم النوم، فأسبل عينيه والطائرة تقلع إلى مطار هيثرو، ومافتئت وجوه العديد من الرفاق ممن أتوا لوداعه تلوح، وإذا بوجه صديقه يبتسم له في هدوء، وإذا بحلقة التلاوة منعقدة وغرماءه يدندنون بالقرآن، فما لبث ان طاف بخياله استنكار رسول الله صلوات الله وسلامه على أهله من قريش:
أو مخرجيّ هم؟!
وبدا وكأن الصوت يتردد في الفضاء:
أو مُخرجيّ هم…
أو مُخرجيّ هم…
أو مُخرجيّ هم…
وإذا بمشركي قريش يذكرون إسمه هو وهم يسعون لاخراجه!
عجب لذلك أيما عجب، إنه موقن بأنه ليس رسول الله، لكن من يقنع هؤلاء؟!
وضاق به الحال، واعيته الحيلة كي يجد مهربا، فشرع يبسمل ويحوقل، فسمع مناديا يهتف به بأن يا فلان أقدم، وإذا ببساط للريح يسجيه له مَلَكان لهما أجنحة كبيرة، أجلساه عليه وطار به الى السماء!…
وبقي ينظر إلى الأسفل فإذا به يعلو مجرى ماء عرييييض صوب الضفة الأخرى،
وهبط البساط بهدوء على أرض الضفة الأخرى…
ياااااااه
يالهذا الضياء الذي يغمر الأرجاء، ويالهذا العطر الفواح الذي يعم السوح والفضاءات، جال ببصره فإذا بالورود تكتنف الشاطئ على امتداده، فقال يعاتب نفسه:
لِمَ حرمتُ نفسي من العبور إلى هذا الشاطئ من قبل؟!
وشرع يمد رجليه ليتمشى على طول الشاطئ، لكنه أحس بخَدَر يسرى في أوصاله ويحول بينه وبين ذلك، لكأنه خارج لتوه من عملية جراحية كبيرة، فأغمض عينيه وأسلم نفسه لحلمه الجميل إلى أن اخرجه هبوط الطائرة من حلمه الجميل، وانتهى به المقام بعد أشهر في دولة لايتحدث أهلها الانجليزية، وفيها تيسر له الحصول على اللجوء السياسي،
ومضت به السنون وهو يعطي اليسار كل وقته وجل حراكه، وفي غمرة كل ذلك لم ينسَ صديقه ذاك في السودان…
وقدر لي أن ألتقي بذلك الصديق بعد رحيل صاحبي، فسألته عن الذي رآه مختلفا فيه دون غيره من معارفه من الشيوعيين؟!
قال لي:
الرجل كان بخلاف رفاقه، لا يُنفّرُهُ احسان مخارج الأحرف لدى المتحدثين، وجل أهل اليسار كما تعلم يحكمون بالتيامن على كل من يُحسن مخارج الأحرف العربية فينأون عن سماعه!
وأضاف:
فيه رحمه الله صفة أخرى تزيّنه:
انه لا يرضى في الحق لومة لائم، وذاك الذي أحسبه سيعجّل بعبوره يوما الى الضفة الأخرى!.
وبالفعل، ظل الراحل ينافح بلسانه ويراعه مؤججا حربا شعواء ضد العديد من رموز الفساد في منظمات تتبع لليسار، وناله لأجل ذلك الكثير من الأذى، ومثُل مرات عديدة امام لجان التحقيق، لكنه كان عصيا على الانحناء والانكسار…
قال لي الراحل:
بعد أن قدمت استقالتي من الحزب، احسست براحة تغمرني، وإذا بي اتذكر كتاب (دستور الأخلاق في القرآن)، فجلست أقرأ فيه، فغشيتني نسمات عليلة وكأنها آتية من شاطئ آخر غير الذي أعيش عليه، فأسلمت نفسي للنوم فإذا بذات الرؤيا تتكرر، يا لأشجار النخيل السامقات اللائي يصطففن على طول الضفة، ويا للأزاهر والورود وهي تحف تنفح بالشذى وتعطر السوح والفضاءات باريجها…
فأرحت راسي على مقعدي وقد سقط الكتاب في حجري، واكتنفني الأحساس الذي يشبه الأكولة وهي تنتاب المرء في ثنايا جُرح قديم يوشك على البرء…
قال لي:
إن أمر القيم والأخلاق (يهبش) في دواخلي الكثير من مواطن الإلهام،
وذكر لي عبارة وردت في الكتاب بأن:
(وهكذا تقوم القيم الخلقية على قاعدة من خصائص الفطرة البشرية، والباعث النفسي الداخلي؛ فالخالق سبحانه ألهم النفس فجورها وتقواها، حتى تتمكن من التمييز بين الخير والشر، والجميل والقبيح، والنافع والضار. والخالق سبحانه مكّن الإنسان من حرية اختيار السلوك على أساس تلك المعرفة التمييزية. وتنبعث في نفس الإنسان مشاعر متفاوتة نتيجة ذلك السلوك، ألا ترى أن النفس ترتاح وتأنس لسلوك الخير، وتضطرب وتأسى وتتكدر لسلوك الشر!
لكننا نعرف جيداً أن سلوك الإنسان لا يخضع في جميع الأحوال لقانون الأخلاق الفطري؛ إذ تتلوث الفطرة وتضعف النوازع الداخلية، نتيجة المؤثرات في البيئة الاجتماعية والتربوية، فتؤدي الأهواء إلى سوء تقدير المصالح وتندفع إلى سلوك يتناقض مع متطلبات الفطرة السليمة الخيرة، وما تتطلبه من التزام بالقيم الخلقية السليمة).
وبقي الراحل يقرأ كل يوم جزءا من الكتاب ليجد نفسه اسيرا لقدرة الكاتب على ايضاح العديد من المفاهيم المتعلقة بالتاصيل الأخلاقي، مفاهيم كانت تشوبها الكثير من الشوائب في فكره وقناعاته عندما كان على الضفة الأخرى، وعندما وصل الى منتصف الكتاب، اتصل بصديقه وقال:
كم اشكرك على هذا الكتاب…
ثم واصل القراءة الى أن أتم الكتاب، فأحسّ بكم التغيير الذي أضفاه الكتاب علي نفسه…
رقد يومها وقد أيقن بأن الشاطئ الذي يكتنف حراك حياته ليس بالشاطئ الذي يجدر به العيش فيه، ولكن كيف له أن يدع رفاقا عاش كل عمره بينهم، كيف له تغيير نمط حياة ملؤها الذكريات والمشاهد؟!
رقد يومه ذاك واذا به يتذكرها، إنها صبية فيها الكثير من سمت الشاطئ الذي يزينه اصطفاف النخيل، وكانت زوجه وام ابنائه ربة منزل وأما صالحة لم ير منها الاّ كل ايجاب، قال لنفسه جاهدا كبت أحساس بظلم لزوجه، لكنه اقنع نفسه بأنه قد تعرف على الصبية قبل زواجه من ام عياله وقد كان يود الزواج منها لكن صده عنها عدم حبها لليسار… واتم زواجه الثاني
وشرع يبتعد بمشاعره يوما بعد يوم عن عوالم اليسار، وبدأ يشتط أكثر في حربه لبؤر الفساد المستشري في العديد من المنظمات التي يديرها الرفاق، فما كان منهم الاّ أن حاربوه حربا شعواء من خلال العديد من الوسائط، ورفعوا عليه الدعاوى القضائية، لكنه بتوفيق الله كسبها فساءهم ذلك كثيرا، الى أن وصل بهم الأمر ألى قرار بإخراجه من بينهم،
ياللؤم القوم،
وتساءل في قرارة نفسه:
من يُخرجُ من؟!!!
هؤلاء الذين سعى إلى فضحهم في الاسافير وبين قذارة اياديهم خلال ادارتهم لشئون الرفاق وأموالهم كيف لهم أن يخرجوه؟!
لكنهم لا يعلمون كم نفعوني بالخلاص منهم ومن فكرهم… لقد كفر باليسار، وأحس بغربته وهو على شاطئهم، وجد نفسه غريبُ وجهٍ ويدٍ ولسانٍ ثم…مرادات، وبقي يكتب عن سوء اليسار…
قال لي صديقه:
أقسم لي الراحل بأن أمر اخراجه نزل على قلبه بردا وسلاما…
وظلت قيادات اليسار ترسل إليه الوفود تلو الوفود لاسكاته، لكنه بقي رافضا الانكسار، فما كان منهم إلا أن فصلوه عن الحزب بمكالمة تلفونية اذلالا!…
ولم يقف الأمر عند ذلك، بل اجتمعوا بليل ولم يجدوا بُدّاً من اسكاته للأبد وهم الوالغة اياديهم دوما في الدماء…
عندما بدأت الشمس توذن بالمغيب، حط هدهد على نخلة بالجوار، وألقى لي رسالة فضضتها فإذا فيها:
انها من وراء البحار، وانها بسم الله الرحمن الرحيم، ان صاحبك مات مسموما!
ولما راى الهدهد في عينيّ ذهولا صفق بجناحيه وطار مودعا، وهطلت ادمعي غزارا، لم أنم ليلتها، بقيتُ لساعات طوال أجترُّ حزني النبيل، ولم يزرني النوم الاّ بين يدي ثلث الليل الأخير، فإذا بأعلام المنافي كلها منكسة على سواريها، واذا بالراحل يتقمص صورة الزين وينطلق من كرمكول وهو يهتف في اذن الزمان:
ياناس هووووي…
الزين سمموهو
أيا ناس اقولكم أنا سمموني…
فرددت جنبات الجبال صدى صوته المبحوح…
جبال كورتي
وجبل ابن عوف
وجبل كلم كاكول
وعند جبل البركل لم يتمالك نفسه من الارهاق والتعب، فماكان منه الاّ أن توسد يده ورقد وظلال الثلث الأخير من الليل تلملم أطراف ثوبها المتشح بالسواد منحسرة عن المكان، وأصبح والخيطُ الأبيض بدأ يبين دون الأسود من الفجر وهنااااك عند عند خط اقتران السماء بالصحراء؛ اذا بضوء الفجر يتلمس طريقه في ثبات، ورويدا رويدا بدت هامة جبل البركل تبين، بدت وكأنها تغتسل في ضوء الفجر نافضة عنها غبار أزمنة وأمكنة عديدة، بدا الجبل حزينا يرنو بناظريه بعيدا إلى ماوراء التاريخ…
وفجأة، بدا من خلف الأفق غبارٌ كثيف، دونه موكب مهيب يشق عنان السماء ليحط في جلال على هامة الجبل، ويترجل فارسان بلباس الملوك، من بين يديهما الخدم والحشم، فينصب لهما عرشان من خشب الأبنوس وكتل العاج وسبائك الذهب، ويشرع الجنود في قرع الطبول، فتردد جنبات الجبل صدى الموسيقى الملكية الحزينة، ويخرج أهل البركل وكريمة وأنظارهم معلقة بهامة الجبل، ويتدافع الناس الى ساحة الجبل، ويتقدم اليهم بعانخي ملوحا بيد وممسكا بيد تهرقا/ترهاقا باليد الأخرى، وفي الجوار إذا بالهدهد الذي أتى بهم، ويشرع بعانخي في الحديث بصوت ملوكي وقور:
(ياأيها الناس ليبارككم الرب الواحد، لقد جئنا لتقديم واجب العزاء في روح الفقيد بعد أن اخبرنا الهدهد، فيهتف الناس بصوت واحد:
لا أله الا الله …
ولا حول ولا قوة الاّ بالله…
ويتواصل الهتاف…
لاأله الا الله محمد رسول الله…
فيسجد الملِكان، ثم يتوجهان إلى الحشود ويهتفان مع الناس:
لاأله الا الله محمد رسول الله…
ولا حول ولاقوة الاّ بالله…
وانا لله وانا اليه راحعون.
ثم تختلط الحشود، ويشتد الهتاف وقرع الطبول، ثم يلتفت الملِكان إلى جهة الشمال، ويشير بعانخي إلى النيل،
الذي يشق صدر أرضنا السمراء في عزيمة
وينحني تأدبا في البركل الذي يلي كريمة
وقد حوى في جوفه التاريخ والأسماك
تاريخ قوم ذاخر ب(اللؤم) كل حراك
الماء فيه ريان بلون البُنّ أشهُرا
والموج يصطخب لسيفه قد اشهرا
ينبيك عن مخاض
ب(الحزن) حين فاض
فيرفد الجروف نبتا يانعا دونما أشواك
ثم يصفو أشهُرا
فيستحيل أزرقا
تمده السماء من اهابها بلونها نهارا
وفي المساء…
يستحيل سطحه مرآة حُزن لأنجمٍ سهارا
ونخيل بالشط تهفو بجريد مائسات
يرقصن في أسى بين أيدي النسمات
أودعها الأله كل لون
سيقانها تشربت بذات لون البنّ
سبيطها يزينه الصفار
وثمرها يخضرُّ في البدار
وبعد أشهر…
ينداح صفرة
وحمرة…
ليكتسي بذات لون البنّ دونما هلاك
وفي الجوار…
ينتصب التاريخ جبلا أسمرا
له اسمان اسم (جدّي) والبركلا
تحرسه أسودٌ هي ليست حجرا
اللون فيه ذات لون البنّ
ومعبدٌ قد زانه التوحيد ذات يوم
بناه آمون الذي ملك الدنا والقوم.
واشرقت الشمس على جثمان صديقي ممدا بجوار الجبل، وكأني بطيبنا الصالح يصفه فيقول:
(برغم صورته الجسدية قد توحي بالضعف، فهو نحيل هزيل، كأنه عود يابس، وكانت ساقاه نحيلتين لا تكادان تطيقان حمله، ولكنه مع ذلك يملك قوة بدنية استطاعت أن تكسر حدة ثور هائج، وأن تقلع شجرة سنط، بل كاد يقتل سيف الدين رغم أن الكثيرين أمسكوا به بكل قواهم
لذلك فإن بكاء الزين كان بكاء يتناسب مع قوته لا صورته).
اللهم أرحم صديقي وافتح له في مرقده بابا من الجنة لايسد، واغفر لكل من عبر إلى الشاطئ الآخر، انك ياربي ولي ذلك والقادر عليه.
adilassoom@gmail.com