جِلاس.. جليس “مسطبة” المطار في رحاب العزيز الجبار
في خضم الحرب الضروس التي أشعلها بسوس السودان (الجنجويد)، فإن كانت البسوس بنت المنقذ التميمية، وهي شاعرة جاهلية، مشعلة الحرب بين قبيلة تغلب بن وائل وأحلافها ضد بني شيبان وأحلافها من قبيلة بكر بن وائل! فالجنجويد أضرموا نار الحرب في السودان بتمردهم على الجيش. وإن كان الموت في حرب البسوس قاصراً على الرجال المحاربين، فبسوس السودان (الجنجويد) لم يُقصروا حربهم على الجيش الذي تمردوا عليه، بل امتد عدوانهم على عموم أهل السودان
، إلا الذين نجوا بأنفسهم من التهلكة بالفرار إلى أرض الله الواسعة، هجراً للمال والعمران!
لم يعد الموت يزلزل كيانات المبتلين به من السودانيين، فقد وطنوا أنفسهم على الاستعانة عليه بالصبر والصلاة، امتثالاً لقول الله تعالى: “يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ”. وتطمئن قلوبهم -رغم المأساة- بذكر الله، تصديقاً لقوله سبحانه وتعالى: “الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ”. وفي غفلةٍ، بمشاغلهم في أمور الحياة الدنيا، ينسل من بينهم الأحباب والأقارب، دون سابق إخطارٍ أو إنذارٍ. كما لم يعد تصنيف الموت مهماً لديهم في كثيرٍ من الأحايين! إذ لم يفرق معهم موت الفُجاءة أو موت القضاء المبرم أي الذي يجئ في أغلب الأوقات بعد القضاء المؤجل (المرض)، فالحزن في كليهما بات واحد! ومن ألطاف الله وابتلاءاته على السودانيين، جعلهم لا يسألون عن فروقات موت الفُجاءة وموت الإمهال! ولكني أبسط في هذه العُجالة الرثائية معنى موت الفُجاءة، فهو من أقدار الله التي يقضي بها في عباده بأن يُصيب الموت العبد مفاجأةً في غير إمهالٍ ولا إخطارٍ. وقد يحتمل موت الفُجاءة أن يكون خيراً، ويحتمل أن يكون شراً، وذلكم بحسب اختلاف حال المتوفى، وماله عند الله -عز وجل-، فإذا كان المتوفى من أهل الصلاح والخير، له عند الله من الحسنات والأعمال الصالحة، يُرجى أن يُثاب بها ثواباً عظيماً، أما إن كان غير ذلكم فينال ما يستحقه من عقابٍ.
فقد غيب الموتُ، الذي هو علينا حقٌ معلومٌ،
ومدركنا لا محالة، أينما كنا، سواء فررنا من هول حرب الجنجويد، كحُمرٍ مستنفرة فرت من قسورة أو ظللنا مرابطين داخل السودان! فكل نفسٍ ذائقة الموت، وإلى الله نرجع يوم القيامة، لقول الله تعالى: “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ”، الأخ الصديق العميد ركن -معاش- محمد هاشم جِلاس (الدفعة 27- الكلية الحربية) في يوم الجمعة 2 فبراير (شباط) 2024، حيثُ كان مرابطاً في شندي بولاية نهر النيل. فقد نعى إلينا الناعي وشق علينا النبأ الأليم، أن جِلاس جليس “مسطبة” المطار في رحاب العزيز الجبار.
عرفتُ الأخ الصديق الراحل العميد ركن
-معاش- محمد هاشم جِلاس منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، عندما كنت أتردد إلى القصر في زياراتي إلى السودان إبان عملي في صحيفة “الشرق الأوسط” في لندن، وتوثقت علائقي به خلال جِلسات المؤانسة التي كنا نرتادها ثلاثة أيامٍ في الأسبوع في “المسطبة” بالمطار، و”المسطبة” هذه ملتقىً لِما أسميتهم بالمكونين العسكري والمدني، برئاسة الأخ الصديق الفريق (طيار) مصطفى الدويحي، وإشراف الأخ الصديق العميد (طيار) -معاش- عثمان عفيفي (استوبر)، وثُلة من العسكريين وقليل من المدنيين. فهذه “المسطبة” وثقت العلائق بين مرتاديها، فمن هنا توثقت علائقي بصديقنا الراحل جِلاس. وكان نوارة جِلسة المؤانسة تلكم، لطرافة أحاديثه، ونوادر مواقفه، فكان فكهاً طريفاً، ورقيقاً لطيفاً. كان الحزن عليه من أهليه وأصدقائه ورفقائه ومعارفه، شديداً مؤلماً، فلا غروّ أن اختنق البعض عند سماعه هذا النبأ الأليم بالعبرات، وامتلأ موقع “المسطبة” في مواقع التواصل الاجتماعي بعباراتٍ حزنى، لأن “المسطبة” التي كانت تجمعنا للترافق إلى العزاءات، فرقتنا حرب الجنجويد -لعنهم الله- أيدي سبأ! وهذا التعبير -يا هداك الله- بحكم التركيب والمجاز كناية عن التفرق والانتشار في كل وجه كما تبدّد سبأ وقومه، وأصله من قصة سبأ والسيل العرم الذي خَرّب اليمن وفَرَّق أهلها – ثم جرى مجرى المثل وشاع استعماله وصار تعبيراً اصطلاحياً لخروجه عن معناه الأصلي إلى هذا المعنى البلاغي فصار له تأثير في النفس! ولكن أوردته هنا لتبيان أن حالنا في السودان مع هذا المثل، حقيقةً وليس مجازاً!
كان الراحل محمد هاشم جِلاس مولعاً بالعسكرية منذ صباه، إذ كان يتعجل إكمال مراحله التعليمية، مشرئباً إلى الكلية الحربية، ولما كان من مواطني حي كوبر بالخرطوم بحري، ومنزل أهليه يُجاور منزل أسرة الرائد عمر حسن أحمد البشير آنذاك. وفي تصريحات صحافية، أكد الراحل محمد هاشم جِلاس علاقته بالبشير، حيثُ تربطه به علاقة جيرة بدأت منذ عام 1976 بحي كوبر في الخرطوم بحري. وعندما قرر تحقيق حُلمه القديم، وذلك من خلال الالتحاق بالكلية الحربية، كان الرائد عمر حسن أحمد البشير قد زكاه لدخول الكلية الحربية، وبعد تخرجه في الكلية الحربية نُقل إلى سلاح المظلات، ووجد هناك جاره الرائد عمر البشير فأطمئن لذلك كثيراً واستبشر خيراً في وجوده بسلاح المظلات مع الرائد عمر البشير، ولم يفارقه حتى نقل العميد البشير من المظلات إلى ربكونا في عهد السيد الصادق المهدي -يرحمه الله- والتي عاد منها رئيساً للبلاد!
يُجمع أبناء الدفعة (27) بالكلية الحربية، أن محمد هاشم جِلاس من الضباط المتميزين، وكان عالي الهمة، وشديد الحماسة لإنفاذ واجباته العسكرية، ومبادراً في أداء واجباته العسكرية، وكان طيب المعشر، وحسن المعاملة، وكان هميماً في تقديم العون لأهليه ومعارفه، وسمحاً لطيفاً في تعامله مع الناس أجمعين. ولم يكن يتوان في خدمة أهل كوبر، فهو معهم في أفراحهم وأتراحهم. وعلى الرغم من كثرة مشاغله، عندما لجأوا إليه أهل كوبر، لرئاسة لجنة تسيير نادي كوبر الرياضي، وافق لهم على الفور، وبذل لهم الجهد والمال في سبيل رفعة ذاكم النادي وازدهاره. وبالفعل في عهد رئاسته بلغ نادي كوبر الرياضي شأواً عظيماً، وبات مهدداً لقطبيّ الكرة السودانية الهلال والمريخ، ولم تقتصر نجاحاته على كرة القدم، فجعل من النادي موئلاً للثقافة وداراً لاجتماع أهل كوبر الذين بدأوا يترددون إلى النادي زُمراً وفرادى.
عمل العميد ركن -معاش- محمد هاشم جِلاس مديراً لمكتب الرئيس عمر البشير منذ اليوم الأول للإنقاذ، لما يزيد عن عقد من الزمان. وعندما سُئل عن تميز علاقته بالبشير وجعلته يتسنم هذا المنصب المهم في القصر والقيادة العامة للجيش، على الرغم من أنه لم يكن جزءاً من التنظيم العسكري للإسلاميين، ولم يكن الكثير منهم مرتاح لوجوده في دهاليز السلطة، وبالقرب من موئل صناعة القرار، فهو يشير إلى أن السر يكمن في جيرته للبشير في حي كوبر! فإن كانت “عُشرة الأيام” جعلت الرئيس الراحل جعفر محمد نميري يتذكر عُشرة الأيام مع أول دفعته في الكلية الحربية اللواء عوض أحمد خليفة، فيُعيده إلى الخدمة العسكرية، فتندر عليه أصحابه بأن “عُشرة الأيام” أعادته إلى الخدمة العسكرية! أما فقيدنا جِلاس فإن جيرة حي كوبر جعلت البشير يستمسك به طوال عقد من الزمان أو يزيد! أما عن خروجه من القصر، فيروي ذلكم بنفسه، “خرجت بإرادتي.. وعندما قررت ذلك ذهبت إلى الرئيس وقلت له: لم يعد لديّ أية رغبة للعمل في القوات المسلحة أكثر من ذلك، ثم قدمت استقالتي بالمكتب وظلت معلقة لمدة عام ونصف العام والرئيس يرفض التوقيع عليها وإحالتي للمعاش إلى أن تم ذلك. وأعتقد أن العمل شاق ومرهق في هذه المهنة، خاصة وأن (أي زول عنده مشكلة، كان الرئيس يقول ليهو أمشي لي محمد هاشم)”.
كان الراحل محمد هاشم جِلاس اجتماعياً بطبعه، يُحب التفكه والمؤانسة، فلا غروّ أن توسعت معارفه ولم تقتصر على رفقاء السلاح من العسكريين، بل امتدت صداقاته واتصالاته وعلائقه بالمكون المدني داخل السودان وخارجه.
أخلص إلى أنه من الضروري، أن نتذكر في كل حين وحين، هاذم اللذات، ونكثر من ذكره، تصديقاً لما أخرجه ابن حبان في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “أكثروا ذكر هاذم اللذات، فما ذكره عبدٌ قط وهو في ضيقٍ، إلا وسعه عليه، ولا ذكره وهو في سعةٍ، إلا ضيقه عليه”. والهَيْذامُ هو الأكول. ولذا قال أبو إسماعيل الحُسين بن علي بن محمد بن عبد الصمد المعروف بالطغرائي:
ما أضيق العيش
لولا فُسحة الأمل
ولم يجد الشاعر العربي كعب بن زُهير بن أبي سُلمى، سوي تذكر الموت في ثنايا التماسه للعفو من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-حين قال:
كل ابن أُنثى وإن طالت سلامتُهُ
يوماً على آلةٍ حدباءَ محمولُ
وختاماً، أسأل الله تعالى أن يتقبل الأخ الصديق العميد ركن -معاش- محمد هاشم جِلاس قبولاً طيباً حسناً، اللهم أنزل عليه شآبيب رحماتك الواسعات، ودثره بعميم المغفرات، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من خطاياه كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس، وأعذه من عذاب القبر، ومن عذاب النار، وألهم آله وذويه وأصدقاءه ومعارفه وعارفي فضله وإحسانه الصبر الجميل.
ولنستذكر في هذا الصدد، قول الله تعالى: “وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّه كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِين”.
إمام محمد إمام
i.imam@outlook.com