(لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)
(لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح) ..
سبحان الذي جعل لكلِ أجلٍ كتاب ..
وجلّ جلال الذي أخفي عن عباده ماتدري نفسٌ ماذا تكسب غدا .. ماتدري نفسٌ بأي أرضٍ تموت ..
كان آخر لقاءٍ جمعني بالأستاذ الراحل عبود سيف الدين داخل مكتبه بمقر تلفزيون وإذاعة ولاية الجزيرة حيث يدير مع مجموعة من شباب إذاعة بلادي أثير إذاعتهم الذي ملأ الآفاق وأراح الأنفس بعد طول توقف بسبب الحرب اللعينة ..
وبقدر سعادته بعودة بث إذاعة بلادي إلا أن الراحل العزيز كان حزيناً لغياب صوت هنا أم درمان .. وكان يتساءل : لماذا لا تستأنف الإذاعة السودانية الأم بثها من أستديوهات إذاعة مدني حيث تتوفر أفضل معينات وبيئة عمل إعلامي متكامل خارج الخرطوم ..
قلت له : المشكلة في الهِمّة يا أستاذ .. أجابني بنصف إبتسامة علي طريقته الهادئة .. وهي إجابة تحمل الكثير من المعاني والدلالات .. لكنها حال عبود سيف الدين الذي يقف علي شاطئ المهنية حيث لا يذكر أحداً من زملاء دربه إلا بخير .. ولا يقول برأي ناقد إلا في المواضع التي يسمح بها النقاش الذي لايُوغر الصدور !!
وجمعنا لقاءٌ ثاني مع الراحل العزيز داخل قاعة الإجتماعات بقصر الضيافة مقر حكومة ولاية الجزيرة .. كان ذلك اللقاء قبل شهرين علي واقعة سقوط مدينة مدني .. نقل لي الدعوة يومها الأخ الحبيب مجدي العجب أحد الذين رافقوا الأستاذ عبود في الأشهر الأخيرة ولا أعرف كيف سيعيش مجدي أيام مابعد وفاة أستاذه عبود سيف الدين .. نقل لي مجدي دعوة الأستاذ عبود سيف الدين لحضور لقاء خاص مع والي ولاية الجزيرة إسماعيل وراق .. قلت للعزيز مجدي إنني لا أرفض دعوةً قدمها عبود سيف الدين لكنني اخشي أن يمتلئ مكان الدعوة بالمتردية والنطيحة من سابلة الأسافير الذين اغتصبوا مهنة الصحافة النبيلة ونصّب بعضهم أنفسهم رؤساء تحرير وصحفيين وإعلاميين وأكثر من هذا اختطفت عصابة منهم لافتة الصحفيين السودانيين واتخذتها مدخلاً لإبتزاز الولاة والمسؤولين في عهد الثورة المصنوعة .. وممايؤسف له أن مجموعة من هذه العصابة كانت داخل مدينة ود مدني وتتواصل مع مليشيا التمرد والمنظمات الأجنبية العميلة داخل ولاية الجزيرة .. وبلا حياء كانت ذات المجموعة تتواصل سراً وجهراً مع والي الولاية الورّاق الذي وفّر لهم مالم يخطر لهم علي بال .. ومع ذلك كانوا فرحين بسقوط مدينة مدني .. ولم يذرفوا دمعة علي الوالي الذي تمت الإطاحة به قبل شهر واحد من كارثة مدني المجلجلة !!
عندما وضعت رجلي علي عتبة قصر الضيافة بولاية الجزيرة وجدت ما حذرت منه أخي مجدي العجب .. اللقاء لن يكون مغلقاً .. ولا لمجموعة محدودة من الصحفيين لإدارة حوار صريح وأمين مع والي الجزيرة حول قضية محددة .. تأمين الولاية من مليشيا التمرد علي حدودها الشمالية .. وتأمينها داخلياً من الجواسيس والعملاء ومن بينهم من يتدثرون برداء وبطاقة الصحافة ..
ولأن الحشد كان كبيراً فقد قررت أن أمسك عن المشاركة .. وجلست في الصفوف الخلفية وكنت أتحين الفرصة للمغادرة لكن الأستاذ الراحل عبود سيف الدين فاجأني بترحيب أجبرني علي البقاء .. ولن أنسي يومها حديث قائد الفرقة اللواء أحمد الطيب والذي سخر من الحديث الذي تتناقله مجالس مدني عن توقعات بدخول مليشيا التمرد لقلب حاضرة الجزيرة .. قال في تلك الجلسة إن من يرددون الأقاويل عن توقعات بدخول التمرد لايختلفون في شيئ عن الجنجويد !!
إنتهي ذلك اللقاء .. لمحت في وجه وأعين أستاذ عبود علامات عدم رضا عن مخرجات تلك الجلسة التي أرادلها أن تكون صريحة وهادئة لكن جهة ما أرادت لها أن تكون صاخبة وبلافائدة !!
سقطت مدني ..
ومات عبود عبود سيف الدين ابن الجزيرة وابن مدني الذي أحبها وأحبته ..
مات عبود وحزنه في قلبه علي محنة الجزيرة عامة ومدني خاصة ..
مات عبود سيف الدين الذي كان التوفيق حليفه أينما حل وأرتحل .. كانت تلك سمته البارزة وغُرّته الوضيئة ..
حقق عبود سيف الدين نجاحاً متصلاً طيلة مسيرته المهنية وترك سيرة طيبة سيحملها من خلفه تلاميذه الكُثر عبر أثير الموج المسموع بطول بلادنا وعرضها ..
عاش عبود سيف الدين أيامه الأخيرة مسكوناً بالحزن والأسي ولم يحتمل قلبه الشفيف الخيبات والإنكسارات التي قتلت قبله أصحاباً له ورفاق .. هدّهم الحزن وأعتصرهم الألم علي حال الناس والبلد ..
من تصاريف القدر أن أمس السبت هو ذاته اليوم الذي غادر فيه الشاعر السعودي الشفيف بدر عبد المحسن الدنيا .. وهو ذات يوم رحيل الأستاذ الإعلامي المطبوع عبود سيف الدين .. ولا أجد كلمات تتشح بالحزن تناسب مقام وداع عبود مثل تلك الكلمات التي خطتها صحيفة الشرق الأوسط يوم أمس في وداع محسن البدر ( لقد أطفأ البدر ضؤ الحروف وغادر تاركاً خلفه شلالاً من ضياء وحدائق من ياسمين ) ..
ومما كتبه بدر عبد المحسن قبل سنوات نودع به اليوم عبود سيف الدين ..
لا تلوح للمسافر .. المسافر راح .
رحمةٌ من الله عليك ورضوان أخي عبود سيف الدين .. ولا حول ولاقوة إلا بالله ..
عبد الماجد عبد الحميد