رأي ومقالات

مع أحمد هارون في الفكر والذكر والحركة

علي الطريق ..
مع أحمد هارون في الفكر والذكر والحركة
الدكتور فضل الله أحمد عبدالله
1
السودانيون أبعد الناس عن الإحتفاء بالأحياء مهما قدموا من أفضال ، يحكي الروائي الطيب صالح في هذا الشأن قائلا :
( وهكذا اجتمعنا لتأبين صلاح أحمد إبراهيم في باريس ، ثم في أصيلة في المغرب ، ثم منذ أيام في لندن .
احتشد السودانيون كعادتهم في الحفاوة بالموتى والأحياء ، وهم بالموتى أشد حفاوة .
وقد نوه الدكتور خالد الكد ، الذي كان يقدم المتحدثين ، أن السودانيين يؤخرون الثناء على الإنسان إلى ما بعد وفاته ، ويقولون ” إن شاء الله ربنا ما يجيب يوم شكرك ” أي أنهم يدعون له بطول الأجل ) ..
بيد أنني دأبت كل حين وآخر ، أن لا أضن عن الكتابة الساردة لحياة الأشخاص الأحياء ، الذين – كانوا ولايزالون – يمشون بمواهبهم وقدراتهم في البلاد بكثير من الحكمة ، والرشد والهدى .
تجوالا هادئا في أمكنتهم ، ارتحالا إلى أزمنتهم وتقلباتها عليهم ، بحثا في طبائعهم وأمزجتهم ،
والروافد المكونة لشخصياتهم .
والتاريخ أحد أبرز الأعمدة التي أستند عليها ، أعني تاريخ مواطنهم ، وبيئاتهم الإجتماعية ، وعوائلهم على السواء .
فامزج الخاص بالعام ، ويكون الأول محفزا للحديث عن الثاني ، كما أن الثاني طريقا سالكا للسرد عن الأول .
فيلتقي الذاتي بتجلياته الغنائية ، والفلسفي مغمورا بالعاطفة البشرية .
بحثا في الدواخل ، ومنحوتات الأفكار ، سياسي كان أو شاعر ، أو روائي ، أو ، كائن من كان من أهل الفكر والعلوم .
وهذا ياقارئي ، يرعاك الله ، نوع من الأدب ، يعرف بفن كتابة ( السيرة الذاتية ) .
أن يبدأ الكاتب مقالته ، كحدث موحي ، مثلما تبدأ كل القصص الشاحذة للأذهان .
أن تكون الكتابة ، عملية كشف للذات الإنسانية أولا ، بكل ما يكتنف هذه الذات من غموض والتباس ، وبكل ما يتداخل من إيجابيتها ، ونقائصها وتناقضاتها وتعقيداتها وجمالها الكائن .
وكثيرا ما يسألني ، بعض القراء عن خطر العاطفة ،
في هذا الإسلوب الكتابي ، أليس هذا طريق يجر إلى مصائد الإنحيازات المقيتة .
فأجيب مستحضرا وقتها قول ( بول اوستر )
وهو يجيب مرة لمثل هذا السؤال قائلا :
من دون تيار العاطفة ،
لا يمكن الكاتب في رأيي أن يسكن شخصياته ،
أن يصبح هذه الشخصية أو تلك عندما يكتب عنها .
فإذا كان الكاتب يجد شخصا منفرا ،
أو جديرا بالكره ،
لن يسعه أن يكون عادلا إزاء إنسانية ذلك الشخص .
صحيح أن في واقع الناس وحوشا بالمعنى الأخلاقي والسلوكي ،
ولهم كتابهم الذين خلقوا لأجلهم .
لكني أحرص أن يكون لشخصياتي وجه إنساني مشع ، يضيئ دهاليز هذا العالم .
تأسيسا على ذلك المعنى أجد لنفسي حافزا قويا لكتابة هذا المقال الذي وسمته باسم :
( على الطريق مع أحمد هارون في الفكر والذكر والحركة )
2
سيرة أحمد هارون بقدر ما هي شيقة ، فهي شائكة بأطياف الإثارة ، وغنى الحكايات ، القمينة بخلق أكبر عدد ممكن من نوافذ الكلام المشرعة على بعضها البعض ، السياسي منها على الإجتماعي ، والمحلي على الدولي .
فهو سلسلة من القصص ، فكرا وثقافة ، ومدرسة متفردة في السياسة وفن القيادة ، والعمل التنظيمي المتقد داخل أطر الحركة الإسلامية السودانية .
كما هو الأعلى ذكرا بين أقرانه – منذ بواكير صباه – في مدينة الأُبَيِّض التي ولد فيها بتاريخ ( 1 يناير 1964م ) .
نشأ وترعرع في كنف أب فقيه ، عالم بإصول الدين ،
باذخ في استنارته ،شيخ عابد زاهد ، وداعية خير وصلاح ، اسمه : ( محمد هارون محمد ) .
ﻭمن ﺗﺤﺮَّﻯ ﺃﺧﺒﺎﺭ تلك العائلة الكريمة ،
عرف ﺃﻥ ﻛﻼ ﺍﻟﺮﺟﻠﻴْﻦ – الأب محمد – بوقاره وعلمه وصلاحه وابنه أحمد صاحب الذكاءات المتعددة ،
قد جاهدا وقدما ، ما يجعل لنفسهما ﻣُﻘﺎﻡَ ﺍْﺣﺘﺮﺍﻡ بين الناس في موطنهم الأصل .
فقيمة الإنسان هو ما يقدمه للناس من صلاح نفسه ، ﺩﻋﻮﺓُ ﺻﺪﻕٍ ﻭﺣﻖ ، وﺍﻟﺴَّﻴﺮ ﻓﻲ ﻃﺮﻳﻖٍ ﺃﻓﻀﻞ ،
وإن أحاطت به الأشواك .
فالإنسان لم يخلق عبثا ، إنها المسؤولية ، وما ﺍْﺳﺘﺸﻌﺮﺕ ﻧﻔسه ﺧﻮﻓﺎً من الله .
فإن كان أخبار الأمس من تاريخ أحمد هارون ، هو محور القول .
فقد عجبت له يوما ، وهو يتحدث عن الماضي بالنسبة للحاضر ، ونحن يومذاك في داره بمدينة الأبيض – 2016م عهد ولايته شمال كردفان – إذ كنت وقتها عميدا لكلية الموسيقى والدراما بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا .
فحللنا ضيوفا لديه مع ( كورال كلية الموسيقى والدراما ) بدعوة خاصة منه لإحياء حفل غنائي لجمهور مدينة الأبيض ثالث أيام عيد الأضحى المبارك .
وأذكر قوله وهو يتحدث لجمعنا عن فضيلة التفكير للمستقبل ، إذ ليس من الحكمة التشبث بالماضي والتغني به في كل الأحوال .
فالماضي ليس إلا كمثل المرآة التي تعكس ما خلف السيارة للسائق ، ينظر إليها لإستكشاف الوراء ، ليتبين الطريق في تقدمه إلى الأمام .
وأغلب الظن ، أن ذلك المعنى ، هو الجوهر في تكوين شخصية أحمد محمد هارون محمد ، ذاك الرجل الذي اشتهر باسم مولانا أحمد هارون .
والذي بدأ مراحل تكوينه بقراءة وحفظ القرآن الكريم .
ثم التحق بمدرسة الأبيض الإبتدائية ، ومن ثم انتقل إلى المدرسة الأميرية المتوسطة في الأُبَيِّض .
3
الأُبَيِّض تلك المدينة التي منحته الشموخ والإباء ،
والبديهة المترصدة .
فكل شجرة ( تبلدية ) ارتمى في حضن ظلالها يوما من أيام عمره ، يعرف جل أهلها البسطاء ، وطرائق حيواتهم ، طرب لإيقاعات أنغامهم ، عرف كيف يتحابون ، وكيف ويتخاصمون ، وكيف يجاهرون بكلام الريد والوله في هسيس إغنياتهم ،
فهي حاضرة إقليم كردفان الكبير ، وهبته نصاعة الإبتسام .
وهكذا بعد انقضاء أجل دراسته ، واتمامه للمرحلة المتوسطة ، بدرجة نجاح باهر وعظيم ، انتقل أحمد هارون إلى المرحلة الثانوية ملتحقا في مدرسة خور طقت وهي مدرسة لا يدخلها إلا التفوقين .
دخل مع أقرانه المتفوقين من طلاب الإقليم في مدرسة خور طقت الثانوية ، على الرغم من حداثة دخوله المدرسة ، وصغر سنه .
إلا أنه شع نجما وسط الطلاب ، قوي الحجة ، يصارع أبناء جيله ، وثاب في طرائق التفكير ،
وقد كان بلا مراء ، أميرا من أمراء البيان .
اضف إلى ذلك خصائصه المائزة المتمثلة في حيويتة الظاهرة ، وكارزميته الآسرة الأخاذة .
فتوحد رأي الطلاب أن يتولى احمد هارون رئاسة داخلية المدرسة .
ولم يخيب الفتى ظنهم ، فأمسك أعنة شؤونهم بالعزم المرجو ، وعلا كعبه درجا أثر درج ،
وأحسن أيما إحسان ، حكمة ورشد في القيادة ،
ونصاعة فكر ، وجمال بيان بين الناس .
ووضح جليا ( ظاهرا وباطنا ) مستقبليته كقائد قادم يمشي في الطريق .
فلم يمضي على حاله حتى جذبته التوهجات الفكرية للطلاب السائرين في الإتجاه الإسلامي ، وهو التنظيم الطلابي للحركة الإسلامية داخل المدارس والجامعات – عهدذاك – فانضوى أحمد هارون تحت لواءها .
لم يمضي وقت طويل حتى انتخب أحمد هارون رئيسا لاتحاد طلاب مدرسة خور طقت الثانوية .
وهنا هب صاحبنا ، بموكب إمكانات ثورية ، كما تهب الأعاصير في صحراء التمور .
والزمان مطالع الثمانينيات ، وللطلاب نزوعهم الخاص ضد حكم المشير جعفر محمد نميرى .
وأهل مدينة الأُبَيِّض لهم حالة خاصة فى ذلك الشأن .
والطلاب خور طقت بقيادة أحمد هارون يصغون لدقات قلوب الناس ، يفرحون في أفراحهم ويحزنون في أحزانهم ، يثورون في ثورتهم ، حتى قد اطاروا النوم من أجفان رجال جهاز أمن الدولة .
وكان أحمد هارون سباقا في ساحات المسؤولية الوطنية .
4
ثم انتقل إلى جمهورية مصر العربية بعد إعلان جامعة القاهرة قبوله للدراسة في كلية الحقوق .
فيها أظهر أحمد هارون عبقرية باهرة ، وحزمة ذكاءات متعددة ، وحيوية نشاط حركي عظيم الاتقاد ، فارتقى مدارج أبنية الإتجاه الإسلامي ، درجا إلى درج أعلى ، حتى دفع به في موقع رئيس الإتحاد العام للطلاب السودانيين بمصر .
وبعد إكمال دراسته للحقوق في جامعة القاهرة عام 1987م ، عاد إلى السودان ليعمل في السلك القضائي قاضيا لفترة من الأعوام .
ثم غادر منصة القضاء ، بسبب صدور قرار تنصيبه وزيراً للشئون الاجتماعية في ولاية جنوب كردفان ، كأول موقع تنفيذي عال له في عهد حكومة الإنقاذ ، بداية عقد التسعينيات .
ثم صعد مرة ثانية إلى وظيفة أعلى ، بتعيينه منسقاً عاماً للشرطة الشعبية ، التابعة لوزارة الداخلية .
وفي تلك الأثناء قرر الرئيس عمر البشير تعيين أحمد هارون وزير دولة بوزارة الداخلية في العام 2003م بعد اشتداد أوار تمرد الحركات المسلحة في إقليم دارفور .
فأمسك بالمسؤولية المباشرة في إدارة معالجة أزمة دارفور ، منذ بداية عهد صرخة صراعاتها المسلحة ،
ووضعياتها الإنسانية بمأساويتها السوداء .
إذ عانت دارفور التفكك والانهيار الإجتماعي ،
فلاقى ما لاقى من نصب التقاطعات الحادة والتعقيدات المتشابكة .
وعلى الضفة الأخرى تقف الدوائر الغربية بمجموعة أنساق منظومات مؤسساتها المدنية المتعددة ، الخالية من كل أوجه البراءة ، تتربص وتتشفى من حكومة الإنقاذ ، أصبح أحمد هارون الهدف المباشر ،
ومرمى سهامهم المسمومة .
بيد أنه صمد وقارع الذين يقفون في أعلى منصات الغرب ، بنزعاتهم الإستعلائية ، فثبت لهم بأقدامه في تربة وطنه ، وما تززح قط .
وقد تكون أشرس حملة شنت على مسؤول حكومي في السودان ، من تجاه الدوائر الغربية مناهضة للتوجه الإسلامي ، ومساومة قيادة البلاد واحتيالها .
وأحمد هارون ، بينه وبين الركون لتلك المساومة مسافات بعيدة ، فالمجد للمقاومة ، ولراية الإصرار شاهقة ، ولليد الطّليقة المجاهدة .
كيف لا ؟
وهو الذي مذ أدرك كينونته ، ظل وباستمرار ، في اعتداله ، مستقيما ، مثابرا ، بساما أمام الشدائد .
5
مولانا أحمد هارون ، تراه كأنه الملتقط الوحيد لفرائد فلسفة شاعر الهند ، الباكستاني المسلم ( محمد إقبال ) الذي قال عنه الدكتور ( عبدالوهاب المسيري ) :
هل يُدرك الإنسان المعاصر ما أدركه شاعر الهند العظيم محمد إقبال عندما التقط من الحضارة الغربية خيرها وأفلت من شباكها .
قال محمد إقبال :
( التقطت الحبة وأفلت من شبكة الصياد ، يشهد الله أني كنت في ذلك مقلداً لإبراهيم ، فقد خضت في هذه النار واثقا بنفسي وخرجت منها سليماً محتفظا بشخصيتي )
وما ارى في إعتداد أحمد هارون بدينه ، وسط تلاطم أمواج الشدائد إلا صورة محمد إقبال الأديب الفيلسوف ، الذي كان ولا يزال واحداً من الوجوه الخيرة والكريمة ، التي عرفها الفكر الإسلامي والتنويري في القرن العشرين وهو القائل :
( دع الشطآن لا تركن إليها
ضعيفٌ عندها جرس الحياة
عليك البحر ، صارعْ فيه موجا
حياة الخلد في نصَب تواتى )
من ذلك المعنى أخذ أحمد هارون طريقا في الحياة ، شجاع بامتياز : ما اكترث يوما قط ، غشيان الأهوال والبلايا ، ولا ركوب الأنواء وأخطارها .
سياسي راجح العقل ، تمكن وبحذق من إمساك ناصية التوازن الخلاق بحنكة باهرة ، في علاقته بذوات الآخرين ، مع علاقته بذاته ، دون أن ينزلق إلى مواضع الإهتزازت الرجراجة .
أكثر ما يميزه ، قدرته الفائقة على الصمود أمام التحديات مهما جمحت ، بل أن ذلك هو الجزء الأصيل في تكوين شخصيته .
فما اكترث يوما قط ، غشيان الأهوال والبلايا لساحته ، ولا ركوب الأنواء وأخطارها .
هو سياسي تقرأ في شخصيته ، تاريخ الأمة ببعدها الحضاري .
إذ استطاع أن يرتحل بالمفهوم المسطح للسياسة ، إلى جذره الأصيل ، مستندا على المأثور الشعبي والثقافة المحلية ، بحدود قيمها العليا .
ومن هذه الناحية ، كأنه الطيب صالح في مجال الإبداع الكتابي ، الذي حقن الأدب العربي بدماء جديدة ، وبكل ما هو حيوي فعال من بيئته الإجتماعية ، فاخترق قبة سماء العالم ، بقوله الوسيم في ضو البيت :
( نحن بمقاييس العالَم الصناعي الأوروبي ، فلاحون ، فقراء ، ولكن حين أعانق جدي أحس بالغنى ، كأني نغمة ..
يا عبد الله : نحن كما ترى نعيش تحت ستر المهيمن الديان ، حياتنا كد وشظف ، لكن قلوبنا عامرة بالرضى ، قابلين بقسمتنا القسمها الله لنا ، نصلي فروضنا ونحفظ عروضنا ، متحزمين ومتلزمين على نوايب الزمان وصروف القدر . الكثير لا يبطرنا والقليل لا يقلقنا ، حياتنا طريقها مرسوم ومعلوم من المهد إلى اللحد ، القليل العدنا عملناه بسواعدنا ما تعدينا على حقوق إنسان ، ولا اكلنا ربا ولا سحت ،
ناس سلام وقت السلام ، وناس غضب وقت الغضب .
الما يعرفنا يظن اننا ضعاف ، اذا نفخنا الهواء يرمينا ، لكننا في الحقيقة مثل شجر الحراز النابت في الحقول .
وانت يا عبد الله جيتنا من أين ؟
لا ندري ، كقضاء الله وقدره القاك الموج على ابوابنا .
ما نعلم انت مين وقاصد وين طالب خير أو طالب شر ؟
مهما كان ، نحن قبلناك بين ظهرانينا ،
زى ما نقبل الحر والبرد ، والموت والحياة .
تقيم معنا ، لك ما لنا ، وعليك ما علينا ،
إذا كنت خير تجد عندنا كل خير ،
وإذا كنت شر ، فالله حسبنا ونعم الوكيل )
6
مثلما قبض الطيب صالح بجوهر الشخصية الثقافية السودانية ، في مجال الإبداع الروائي .
كذلك قبض أحمد هارون بكلتا يديه ، على ناصية فن السياسة فدخل بها إلى إهاب الشخصية السودانية .
منذ إنتماءه للحركة الإسلامية في مطالع شباب عمره ، كان من الرائين إلى ضرورة إلتفات الفرد إلى ذاته ، أن يبحث فيها عن سبل تحسينها .
وذلك الإدراك دفعه للسير على طريق قراءة الأدب بكل أنماطه واشكاله الفنية ، الشعر ، الرواية ، القصص القصيرة ، النثر ، النقد ، التاريخ وفلسفة الفن ، لإيمانه أن للأدب قدرة على تغيير الذات ، ومن ثم تغيير الآخرين .
وبهذا المنظور وكأن أحمد هارون وافق ما ذهب إليه أغلب كتاب الأدب ، وأولهم ( بيتر هاندكه ) الذي قال :
( لطالما كان الأدب بالنسبة لي السبيل إلى فهم نفسي قليلا في الدرجة الأولى .
لقد ساعدني لكي أعي نفسي ، أني أعيش هنا ، ولكي أقبل هذا الوعي دون أن يثقل كاهلي أو يصيبني بالجنون .
الأدب يعنيني ككاتب وقارئ على السواء .
إنه أعمق ما يمكن أن نعيشه .
هو لا يغيير الحياة ، بل يوقظها ، وبذلك يغيير حياتنا . يغييرنا نحن .
مذ أدركت ما هو رهان الأدب بالنسبة إلي ، أصبحت شديد الإنتباه إلى الأدب في ذاته ، وشديد التطلب إزاءه .
ماذا يفعل الأدب ؟
إنه يفجر كل الصور والأفكار النهائية في العالم .
لقد تغيرت بفضل الأدب ، وعندما تغيرت تحت تأثيره ، أدركت أني بدوري أستطيع أن أغير الآخرين .
الأدب يغير فكرتنا عن الحياة ، وذلك في ذاته تغيير للحياة .
الكلمات والصور تشتغل داخلي ، تنحتني ، تلكزني .
هي تضع الحياة في الضوء ، أو على الأقل الأقل تجعلها أقل ظلمة ) ..
منظورا من ذلك المعنى نفسه ، صنع أحمد هارون لنفسه فارقا كبيرا ، بينه وأغلب السياسيين الذين تقلدوا المواقع التنفيذية حتى أصبح النموذج المحتذى .
الإنسان لا يجد حقيقته إلا في الحلم ، أحمد هارون يؤكد على تلك المقولة الأساسية والجوهرية ، وهي أنه بالأدب والتاريخ الإنساني ، يمكن للسياسي القائد أن يختزل أكبر وأخطر كل الأشياء وكل التصورات وكل الاختيارات المصيرية للبناء في الوجود على مستويات الفكر والجمال .
وذلك في تقديري برنامج كامل في الإبداع والوجود .
ومفتاح فلسفة كاملة ومتكاملة . ومفتاح حياة بحجم الوجود وبعمق التاريخ .
7
ولأهمية هذا الموضوع نفسه – أي ضرورة تعظيم أدوار قراءة الأدب – ولأن الشيئ بالشيء يذكر ،
كتب الكاتب الألمعي ( أحمد مولانا ) مقالا بعنوان :
( أثر القراءة في أداء السياسيين : نتنياهو نموذجًا )
وأرى أنه مقال أكثر من مناسب ، للإتكاء عليه إقتباسا منه ، استإناسا حميما به ، إذ قال :
( نشر بنيامين نتنياهو مذكراته في إكتوبر 2022م في 736 صفحة باللغة الإنجليزية تحت عنوان ” بيبي : قصتي ” ، وضمن ثنايا الكتاب تناول نتنياهو دور القراءة في إثراء مقدرته على اتخاذ قرارات في مجالات متعددة .
وأوضح كيف ساهم شغفه بالقراءة في تحقيق تطور نهضة تعليمية انعكست على تطوير القدرات التكنولوجية في تحلية المياه ، والأمن السيبراني )
ثم يستدرك أحمد مولانا ، استدراكا لازما قائلا في توطئة المقال :
( إنَّ الفقرات القادمة ليس الهدف منها الثناء على شخص نتنياهو ، فهو مكروه حتى بين السياسيين في بلده ، فقد انخرط في العديد من الحروب في العالم العربي ، حيث شارك بنفسه في شن هجمات على الضفة الغربية من قناة السويس بمصر وفي الجولان ، وفي إنزال جوي على مطار بيروت وفي معركة الكرامة بالأردن عام 1968، فضلًا عن حرب أكتوبر 1973م .
ثُمَّ قاد سلسلة من الحروب والغارات في غزة والضفة الغربية رئيسًا للوزراء قُتل فيها آلاف المدنيين . لكن الهدف منها هو الإشارة إلى بعض الجوانب التي يهتم بها السياسيون والقادة لتطوير قدراتهم الشخصية والنهوض ببلادهم ، في مواجهة نماذج أخرى ابتلينا بها في بلادنا العربية تستخف بأهمية التعليم ، حتى قال قائلهم ماذا يفعل التعليم في وطن ضائع ؟! )
ثم يدخل أحمد مولانا في الحديث عن دور الأب في الحث على القراءة والتعلم :
( يذكر نتنياهو أنَّ والده بنزايون المولود عام 1910 في بولندا حرص على أن يزرعَ فيه من الصغر حب القراءة وبالأخص في مجال التاريخ ، حيث لقنه درسًا مفاده إنَّ أولئك الذين لا يستطيعون فهم الماضي لا يمكنهم فهم الحاضر وأولئك الذين لا يستطيعون فهم الحاضر ، لن يمكنهم استشراف ما يخبئه المستقبل .
ولذا قرأ نتنياهو في شبابه كتابات ميكافيلي وهمنغواي وكتاب قصة الحضارة للمؤرخ ويل ديورانت .
كما شارك في المدرسة الصيفية بجامعة هارفارد حيث حضر في عام 1973م ندوة لكارل دويتش عن القومية وفي مرحلة الجامعة درس الهندسة المعمارية ثُمَّ إدارة الأعمال في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا .
إنَّ تشجيع الأبناء على القراءة ظل ملازمًا للأب ، فعندما بلغ التسعينيات من عمره ، أعطى ابنه كتابين قرأهما للتو .
الأول يصف تطور القنبلة الذرية والثاني يتناول سيرة حياة ريتشارد فاينمان الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل .
وفي موقف كاشف عن حجم تأثير والده عليه ، يقول نتنياهو أنَّه سأله حين فاز للمرة الأولى برئاسة الوزراء في عام 1996، ما الميزة الأساسية التي ينبغي توافرها لشخص ما كي يشغلَ منصب رئيس الوزراء ؟
فأجابه : ما رأيك أنت ؟
أجاب بنيامين :
رؤية واضحة للمكان الذي تريد أن تقود إليه البلاد والتزام قوي بتلك الرؤية ومرونة كافية في السير نحو تحقيقها .
قال والده :
هذه سمات ينبغي توافرها لشاغل أي منصب قيادي .
فرئيس جامعة أو رئيس شركة أو قائد عسكري سيجيبون جميعًا بهذه الإجابة نفسها .
ثُمَّ أضاف المهم هو التعليم ، تعليم واسع وعميق ، وإلا فسوف تكون تحت رحمة موظفيك .
يضيف نتنياهو ، على مر السنين تبين لي أنَّ رئيس الوزراء دون فهم أساسي للاقتصاد والعمليات العسكرية والتكنولوجيا والعلوم ، يصبح عاجزًا أمام الخبراء .
أما الأهم فهو التاريخ ، فكيف يمكنك أن تعرف إلى أين تذهب إذا كنت لا تعرف حتى كيف وصلت إلى هنا ! )
8
أن تعيش مع نفسك أولا لتصوغها ، وأن تحارب ضد نفسك ، ذلك أهم حرب يخوضها المرء حتى يكون مصلحا للناس .
حدثني أقرب الناس إلى مولانا أحمد هارون ،
أنه شديد الإلتزام بالقراءة والمعارف الإنسانية ،
يقف كثيرا مع نفسه ، ولنفسه ، ليمنحها القوة ،
فالثعابين التي لا تقوى على حفر جحورها ،
تحتل المرآب السفلي للمنفذ ، حسب الشاعر الجنوب سوداني تعبان لولينغ .
ظل أحمد هارون ، يقف على أرض خصيبة ،
بقوس قزح من المهارات الإبداعية في التخطيط والتنفيذ ، وفوق هذا وذاك فثمة مذهب جميل آخر يميزه ، وهو التجديد ، به يقفز باستمرار عاليا ، متخطيا العادية والمألوف من الأشياء :
( له نقشٌ يجدَّدُ كل حين ،
فلا تبقى الحياة على غرار ،
فإن صوَّرت يومك مثل أمس ،
فما يحوي ترابُك من شرار ) .
وبذلك يعد المثال النابض ، لتعبير الأديب عباس محمود العقاد :
( ما الإرادةُ إلّا كالسيفِ ، يُصدئُهُ الإهمالُ ، ويشحذهُ الضّربُ والنّزال ) .
سياسي خصب المخيال ، وافر بقيم المعاصرة لأزمنة الناس ، وأمكنتهم ، والتحليق في فضاء أمزجتهم .
خضّب ثقافته الإدارية ، بكم هائل من مأثورات المجتمعات السودانية التقليدية وأعرافها السمحة ، مثل ثقافة النفير المستنهض للهمم ، الباعث لمعاني إنتماء الناس لبعضهم البعض والأرض .
ارتفعت شارة شخصيته من فوق قمة الجبل الذي صعده بهمته العالية ، تاركاً بوناً شاسعاً بينه والذين جاءوا من بعده والذين سيجئون .
ما وقف أحمد هارون في موضع من مواضع المسؤولية التنفيذية ، إلا وترك أثرا جميلا باقيا .
فالإنجازت التي بلغها ، تعبر عن شخصيته ، عظمة أعماله ، ما كانت لتكون لولا قوة شخصيته أولا ،
ويمكن للناظر المتأمل أن يستنتج ذلك من خلال آثاره التنموية في شتى ضروب الحياة ،
أي من خلال معطيات منجزاته الفعلية ( المادية والمعنوية ) بشكل مباشر وخطي .
خاصة بعد إعفاءه من منصب وزير دولة بوزارة الداخلية وتعينه مباشرة وزير دولة بوزارة الشئون الإنسانية سبتمبر 2005م في حكومة الوحدة الوطنية التي تكونت بموجب اتفاق السلام في نيفاشا .
فما انجزه في فترة ولايته لجنوب كردفان
( 2009 – 2013 ) ، ثم إنتقل بعدها واليا لولاية شمال كردفان ( 2013 – 2019 ) .
ذلك الحشد من المنجز المادي في التنمية العمرانية ، والمعنوي في التحولات الإجتماعية والتنمية البشرية ، هو المعبَر الفعلي والحقيقي إلى شخصيته ودخائل نفسه وبنات أفكاره ، وهمته العالية .
كما أن الإقدام والرفعة والسمو ، فعلًا ، من صفات أحمد هارون النفسية والخلقية ، والأفعال لا تستقل عن الذات ، ففي منظورات أهل الفراسة ، أن عظمة فعل المرء هي من عظمة شخصيته ، الفعل العظيم ، لا يصدر إلا من شخصية عظيمة بصفاتها .
وامتاز بفكر وافر من قيم المعاصرة ، لأزمنة الناس ، ومعياشة أمكنتهم ، والتحليق في فضاءات أحلامهم وأمزجتهم .
ولربما تناوله ، أو يتناوله المختصون في السياسة بشئ من التفصيل المستحق .
غير أن تأملاتي في التاريخ الشخصي له ، هي الدافع الملحاح لكتابة هذا المقال ، وسيرته المترعة ولهاً بأهل السودان .
9
أظهر أحمد هارون منذ بدايات مسيرته اللامعة ، ثباتا وصبرا ، وعدم إكتراث لأي شكل من أشكال الإستفزازات المثبطة ، بل مضى متحديا ذاته ، في الإخلاص للبلد والناس .
وكلما إزداد خصوم الحركة الإسلامية في جعله هدفا مباشرا لسهامهم ، إزداد هو لمعانا وبريقا في أعين البسطاء والعامة من الناس ، حتى جعلوا منه أمثولة للإداري المحنك والقائد الملهم المبدع .
وكلما نهض خصوم الإسلاميين في إزدراء سيرته ، ونفثوا نيران الغل كذبا وافتراءا عليه ، يشع أسم أحمد هارون كالشهاب على غير ما ينتظرون .
كتبنا هذا المقال ، في لحظة تفكير عميق ، لنفتح نافذة تأمل سيرة رجل سياسي ، هو من أنقى حراس الفضيلة ، الذين قدمتهم الحركة الإسلامية في مسيرتها لقيادة البلد .
فقد تعلمنا منه جراء تأملنا في مسيرته العملية الممتدة حتى الآن ، الثبات في الإيمان ، ونقصد تحديدا إيماننا بمستقبلية الحركة الإسلامية في السودان ، وبقدرته على الصمود أمام كل ما يهدده .
وعلى النهوض أيضا برغم الويلات والبشاعات المهددة في الطريق .