توثيق مهم لجرائم وانتهاكات الجنجويد منذ ايام (الجهادية) الأولى والسلب والنهب عام 1890م

توثيق مهم لجرائم وانتهاكات الجنجويد منذ ايام (الجهادية) الأولى والسلب والنهب عام 1890م (سنة ستة)..
نضد الله قلم الاخ الكريم يوسف عمارة أبوسن
👇
البطانة .. حوبات النوازل وجراتق السيوف
يوسف عمارة أبوسن
من الزاكي عثمان أمير بربر إلى الخليفة عبد الله التعايشي
بعد السلام اللائق بشريف المقام نعرض لجنابكم بالأدب والخضوع سيدي، أن الحاردلو إبن أبي سن والذي هو الآن بتوكر مع المكرم عثمان دقنة في أيام المضايقة ألجاته الضرورة إلى أن باع سيفه الأصيل الشهير بأبي نامة لمن لزم بثلاثة أرباع عيش وقد تداول بأيدي البائعين إلى أن وصل للمكرم عمر كشة بمائة ريال ، وقد أشتريناه من عمر المذكور على ذمة إرجاعه لصاحبه نظرا لأن الحاردلو من رجال الدين المعول عليهم ..
الزاكي عثمان _ أمير بربر
2 يناير 1891 ميلادي
كان رد الخليفة ود تورشين بخطاب يفيد بإرجاع السيف للحاردلو مع هدية مائة ريال ، وقد وُصف الحاردلو في حطاب الخليفة بأنه من (رجال الدين المحبين) ، أنشق لاحقا الشاعر الحاردلو عن المهدية في العام 1895 بعد اتهام قبيلة الشكرية بالمشاركة في مؤامرة الاشراف ، ومن قبل توسط الحاردلو للخليفة عبد الله أن يطلق سراح الخليفة محمد شريف وقال للخليفة :
فوقْ لَقَى فوق مَحَنْ في الجَّاية ما بتتمحَّنْ
وفرَّاج كُربة الهمَّ القَبايلُو يزحَّنْ
وَكِتْ حَسناتك السيتن قِبيل ما صَحَّن
صَبر أيوب بتتقلبُو الليالي إن شَحَّنْ
ولكن الخليفة لم يستجيب له، لاحقا تم وضع الحاردلو في الإقامة الجبرية وفر من أم درمان مع عدد من آل أبوسن في العام 1896 ، لكن أخيه الشيخ عبد الله ظل في الإقامة الجبرية ملازما ل محمود ود أحمد حتى استسلام الأخير في موقعة النخيلة / عطبرة في العام 1898 ، ومن هناك عاد الشيخ عبد الله إلى ريرة بوسط البطانة، وقال الحاردلو لأخيه بعد عودته :
يا عبد الله أخوي سيتو الدحيح والدي
قطعتوا الاتبراوي لا سعن لا ري
قايلنو كسير خمامير وشراب عجينا ني
ده طرش الحديد الجانا من بومبي
وقال في ود تورشين التعايشي :
ما قلت الخدر البارح معاك في الخلوة
وماقلت أرواح الترك عندي تحت الفروة
تتسوَّد عليك المن الكضب ما بتروي
درب السبعتين سويتو ضحوة وسروة ؟
***
وقال بعد كرري :
يبهت في الرسول قال الأمر بي ايدي
يجمع في الديوش قاليهم اتو عبيدي
جيداً جو الانجليز وروني جرية سيدي
اضحك وانبسط كل يوم اجر في قصيدي
..
في العام 1891 والبلاد قد خرجت لتوها من مجاعة سنة ستة ، هجم جنجويد التعايشي على منطقة البطانة ونهبوا وسلبوا وسبوا وقتلوا معظم من قابلهم من أهل قرى العاديك على الضفة الشرقية للنيل الأزرق ، فوصلوا لقرية أم رقاريق (ود عركي) 35 كلم شرق تمبول ، وكان سكان أم رقاريق من ذرية الفارس عركي ود الصالح ود الضو ود حمدنا الله وأولاد محمد ود الضو ود حمدنا الله الشكري العيشابي (خال أب سن) ، والمشهور عن هؤلاء أنهم طوال ضخام عمالقة أشداء ولذا سموا ب (الطُوال الزُرْق) ، وفيهم قال الأمين ود خير :
أخ يا أم رقاريق شبتي كترة شيبة
فاتتك مجاقنة وخلوةً تاتيبة
وقال أيضا:
الدوب لي أم رقاريق الجنينها أتنقّوا
ناس فراج كربة الضيق وسلفاق حقّو
قبال الزمان يمسخ ويكتر لقّو
بي خُمش النقود بسطوا المحدق دَقّو
..
ومن الطوال الزرق أن الصالح ود الضو كان معسكرا في مكان ما، فأمر قومه فأوقدوا نارا للأكل والقهوة ، فأنكر أحدهم عليه هذا الأمر، متعللا بأن النار سترشد عليهم العدو ، فقال له الصالح:
مِطَلِّق ما بكاتل بي ناس متعوجين ومتقرْيَفين ..
فقال عن هذه الحادثة أحد شعراء الشكرية :
صبر أيوب على البلا صالح أيّا صبرو
في الليل يوقد النار لي خصيمو يخبرو
عندي وصية بديها البدور يختبرو
كضاب البقول داير يقيسو يعبرو
أعود لقصة أهل أم رقاريق مع الجهادية، فعندما سمع أهل أم رقاريق بتقدم جنجويد ذلك الزمان أعدوا العدة فأحكموا الدفاعات وقاموا بإخفاء المؤن في المطامير والسعية في العلاو ، فأستعدوا للقتال وتسلحوا بالحراب والسيوف وحراحيف الشجر ، ويوم اللقاء كان النساء والأطفال خلف آبائهم واخوانهم فتجلى الطوال الزرق فأستشهد منهم من أستشهد وجرح من جرح لكنهم صدوا العدو وحموا ديارهم ، يحكى عن تلك المعركة أن الرجال يومها عندما وجدوا أن بعض خيالة الجهادية كانوا يحملون البنادق كان أحدهم يتقدم ليأخذ الرصاصة في صدره ليتمكن أخيه من الوصول لصاحبها قبل أن يلقمها بأخرى فيرديه قتيلا، وآخرين كان يقذفون قوائم الحصان بالحرحاف ليسقط هو وصاحبه ، ومنهم من كان يصارع الخيل ويرميها بمن فيها .
أنتصر أهل أم رقاريق نصرا عظيما وهزموا عدوهم شر هزيمة ، فخلدوا أسمائهم في سجلات التاريخ، من عاش منهم عاش كريما ومن مات مات شهيدا فورث أحفادهم خير ذكرى وخير شرف ، وقيل فيهم من الشعر الكثير .
في العام 1896 هجم جنود الخليفة ود تورشين على منطقة البطانة بغرض التجنيد القسري الذي كان يجريه الخليفة إستعدادا لملاقاة القوات الإنجليزية ، وصل الجنود لجبل الأبايتور وسط البطانة حيث يتمركز الشكرية النوراب بقيادة الشيخ محمد ود حسب ربو الملقب بــ (الرهينة) ..
عرض الجنود على الشيخ محمد ود حسب ربو الرحيل معهم لمدينة أم درمان هو وقومه لتجنيدهم في حملة قتال الإنجليز ، وافق ود حسب ربو وأقترح على أمير القوة أن يأخذوه رهينة إلى أم درمان ويتركوا الجنود مع الأهالي ليتحركوا من بعدهم ، معللا أن حركة العرب والجنود ستكون بطيئة وستؤخرهم عن مقابلة خليفة المهدي ، وافق الأمير على العرض ، فنادى الشيخ إبنه عوض الكريم ليوصيه أمام الجنود فأودعه الوصية التاريخية :
أسيادك دول ، أكرمهن ، وسمحلهن المقام ، وفرقهن في الرقاد ، وبعد تعشيهن أديهن كأس كأس بي (ود أب كاقوم) .. ومن باكر .. يومين لي دبغ الني .. ويومين لعكاية الري .. والبخات ديل .. البخيتة إن طلعت في مناسمهن ، وإن طاحت في عناقرهن .. والهورما ..
غادر الجنود ومعهم الشيخ مكبلا كرهينة .. وعندما حل المساء بدأ إبنه بتنفيذ الوصية ، أكرم الجند وهيأ لهم مراقدهم وفرق بينهم في الأماكن ، ثم أعمل فيهم سيف والده (ود أب كاقوم) وذبحهم جميعا .. فمكث يومين ذبح فيهما أبقاره ودبغ جلودها ويومين أُخر جهزها دِلاءً وملأها ماء ، وتوجه شرقا نحو قلعة (الهورما) ..
تم إعتقال الشيخ محمد ود حسب ربو (الرهينة) في أم درمان ، وظل في سجن الجنجويد حتى سقوط دولتهم ، وغير بعيد عن ذلك، ما فعله جنجويد ذلك الزمان في أهل البطانة بدءا من مقتلة الأقوياب الشماشة الذين فنوا إلا قليلا ، وتعذيب الشيخ ود مادا وسلخ جلده حتى الموت وهو القائل (أهدر جمل يوم ولا أعوعي ديك سنة كاملة) ، ثم سجن محمود ود زايد ومشايخ السناب ومقتلة البطاحين وغير ذلك كثير من المخازي .
ومن قبل تركت سنة ستة 1306 هجرية _ 1890م في أهل البطانة جرحا كبيرا وفقدا عظيما ، فغير الجفاف كان النظام المهدوي التعايشي جاثما على صدور الناس قتل وأباد كثير من الخلق من قبائل الشكرية والبوادرة ، ومن قول الشاعر الزين ود ضقيل عن تلك الأيام :
لوَّاك حنضل القيزان بِطَرّشو ضوقنا
بنفِشْ عِلَّةْ المضيوم غبينتو مِحـوقنا
كان ما سـتة والمهدية عقلن فـوقنا
كان شمس الله بتغتِّيها مرحات نوقنا
والزين (عقاب كتلة) كما نسميه، فقد قُتِل ثلاث أرباع أهله الأقوياب الشماشة في حروب المهدية ، وكذلك فنيت قبيلة الطُرُق الشكرية ولم يبق منهم غير بيت واحد ، وقتل كثير من الحمداب في القضارف والضباينة في عصار ، وغيرهم الكثير ممن أفنتهم المجاعة والجدري وجيوش الزاكي طمل وحمدان أبو عنجة .
وكذلك قتل خيرة أولاد محمد ود أب سن في جبل سوركنة شرق السودان على يد قبائل اللقد والقدين المنضوية تحت راية عثمان دقنة ، وفي سوركنة مات أيضا الدريشاب ولم يبق منهم غير سبعة فرسان أتى من نسلهم الدريشاب الموجودين اليوم وبقي ابراهيم ود قلبوس (سبد مرعفين) في الشرق بعد وفاة قومه إلى أن مات بالجدري ، وقد قيل فيه ..
وقد رثى شهداء سوركنة الشاعر ود ياسين ود الكرار الكردوسي في أبيات تقطع نياط القلب منها :
الشوق على الركب الب البطاين غنا
الشوق للكرنة الدرقها محنّى
جنياتا تحت الصف أب درق تتنى
رقدوا أرموس تحت الجبيل سوركنة
***
طال الشوق على الركب ال بالبطاين لفة
وطال الشوق على درب الجواد الحفة
طال الشوق على الكرنة الدرقها مكفة
قبال ها الوكيت فوق نارنا زول ما أتدفا
***
لم تكن الحرب برغم خسائرها الفادحة هاجسا لأهل البطانة ، وإنما كان هاجسهم الجفاف المفضي ل (البشتون ) وفراق الأحبة وقطع الأرحام والهجرة من الأرض التي أحبوها وأحبتهم ، فلطالما واجه أهل البطانة محن الحرب متوحدين ومترابطين فمات منهم خلق كثير لكنهم أعادوا ترميم ما خسروه وبقيت لحمتهم كما كانت .
في سنة ستة نزح أهل البطانة نحو الجنوب والشمال وبعضهم دخل بلاد الحبشة بحثا عن المرعى ومأمن النعم ، وهنا ترد قصة فرسان وشعراء الشماشة عدلان ود أب إيد (أبّيد) وعلي ود ضقيل والعربي ود رحمات، فقد كانوا متجهين للصعيد عندما اتوا جهة القضارف قصدو سوق تواوا وكان يوجد فيه تاجر عيش من أهل الصعيد اسمه ( الموتِي) يعرفونه وكانوا يقصدونه للتبضع كلما اتوا القضارف ، وعندما رأي ما بهم من عوج أراد ممازحتهم ومداعبتهم فقال :
الليلة الغلا جاء من سافلو
بي جوادو وبي حافلو
شال عربيهو الضافرو
وتلد ام زور بتعافرو
فرد عليه عدلان ود اب إيد :
ان شاء الله العيش يتجاضا
وتقلع شايتو مكادة
تبقي العيشة لكادة
في مِر العضاضة
وقال علي ود ضقيل :
ان شاء الله العيش ما ينكال
ويبقي المِّد بي ريال
نحن نبيع الاعتال
كيف شورة الابلو قلال
ثم قال العربي ود رحمات :
ان شاء الله العيش ما ينلاك
وما نلقاه انا واياك
ننزل في العلوة هناك
ونكمِّش ام الدعاك
ونشوف الأُمُو بتن….
وللفارس عدلان ود أبِّيد مرويات في أحوال سنة 1306 منها :
بعد العب البِجوط
وبعد الخادم البتسوط
بقينا نصاقع الحنتوت
فيها نعيش وفيها نموت
ثم بعد إنقشاع الغمة يأتي ريرة ويقول :
حامد الله البي زلت
و كبدي اليابسة انبلت
دي درشت ودي بلت
دي فقّت و دي سلت
***
أكان بتضل يا أم وادي
ركوب الراسو بحادي
ماني كضاب بي شهادي
وتشهد ريرة ام قلت هادي
وللحروب ذكريات ممتدة يحفظ فيها إسم الشريف البطل والخائن الندل، والتاريخ لا ينسى أسماء القتلة ولا الخونة ، الإنتهازيين والمرتزقة ، فذاكرة الحرب ذاكرة حية لا تنسى أحداً وليس لها مناطق حياد فالأعداء والخونة فيها واضحون وكذلك الأصدقاء والشرفاء ، لذلك تُشكلّ الحربُ وعي الشعوب وعلاقاتها ، وتبقى قصص الحرب حية تتناقلها الأجيال، ويبقى العهد أن : يوم مساللة الدكاكر بنطرأ حديث ببقى باكر ..
الكلام كتييير ، والكتير منو بقطع ريشات القلب ، لكن لا مكان للجنجويد بيننا .. لا أمس ولا اليوم ..
* الصورة للشيخ محمد حسب ربو في العام 1899 بعد أن أفرجت عنه القوات الإنجليزية من سجن الساير ..

يوسف عمارة أبوسن






