في الجزيرة نزرع أسفنا

قبيل الحرب الحالية بسنوات قليلة بعثت شركة دال بمناديب لها إلى شمال الجزيرة، تحديداً القسم الشمالي والشمالي الغربي، عرضوا على المزارعين فكرة زراعة عدة آلاف من الأفدنة بمحصول الذرة الرفيعة لحاجتهم لها في مطاحن سيقا… عن طريق الشراكة أي ما يسمى بالزراعة التعاقدية أو التشاركية … التي كان معمولا بها في مشروع الجزيرة… ويمكن تلخيصها في أن تقوم الشركة المتعاقدة بالتمويل ويقوم المزارع بالعمليات الفلاحية… وبعد الحصاد تأخذ الشركة ما دفعته عينا بالسعر المتفق عليه… وللمزارع بقية المحصول يبيعه لها أو يتصرف فيه كما يشاء…. وهناك عدة صيغ تمت ممارستها وبأشكال مختلفة… المهم فيها أن التعاقد يتم بين المزارع مباشرة والشركة… وتقوم إدارة المشروع بالإشراف والامداد بالمياه وتأخذ أجراً مقابل ذلك..
اجتمع مناديب دال بمناديب مزارعي القسم الشمالي الغربي في ري كاب الجداد… وبمناديب القسم الشمالي باستراحة الروابي الواقعة على طريق الخرطوم مدني في منطقة الجديد الثورة… وعرضوا صيغة ممتازة تقوم بموجبها الشركة بكافة العمليات الآلية من التحضير إلى الحصاد… وتجلب التقاوي المحسنة والمخصبات والمبيدات… وكلها سوف تنفذ آلياً .. ويقوم المزارع بالعمليات الفلاحية مثل (مسك الموية) أي الري والحش أي إزالة الحشائش… وكلاهما سوف يكون خفيفاً جداً لجودة التحضير المتوقعة في القنوات الداخلية مثل أبوعريش وأبوستة…. واستخدام المبيدات.. وقال لهم أحد المهندسين إن شاء الله سوف نرفع لكم إنتاجية الفدان من خمسة جولات إلى خمسة عشر جوال على الأقل..
لقد كانت سعادة المزارعين بهذا العرض المغري… لا توصف لما لشركة دال من إمكانيات وسمعة ممتازة في الإنتاج الزراعي… وفوق ذلك لها قدم راسخة في العمل في مشروع الجزيرة…. إذ كانت من أوائل الشركات الوطنية التي كانت تقوم بعمليات الحرث في مشروع الجزيرة منذ نشأته… والأهم في الموضوع أن الصيغة تجاوزت الشراكات التي كانت سائدة قبلها…إذ التزمت الشركة بإدخال آخر التقانات والدعم الفني.. والمعروف أن ميزة الزراعة التعاقدية أن فيها حفظ لحقوق كافة الأطراف ….ومدتها مؤقتة لموسم واحد …الحكومة تأخذ ضريبة المياه والإدارة تأخذ تكاليف الإشراف …والمزارع يأخذ نصيبه من إنتاج أرضه… والشركة تأخذ تكاليفها مع هامش أرباحها …وكل مدة التعاقد حوالي مائة يوم تقريبا في محصول الذرة وثمانية أشهر في محصول القطن… أي تختلف المدة حسب المحصول وبعدها كل قرد يطلع شجرته… المزارع محتفظ بحواشته والحكومة بقنواتها …والإدارة بمكاتبها والشركة بإلالياتها دون أن تخسر في البنيات الأساسية فلساً واحداُ .. يعني زيرو مخاطر. وفوق كل ذلك المزارع حر ويمكنه أن يزرع على حسابه ويشتري مدخلاته ويبيع محصوله في سوق الله اكبر….
عودة لشركة دال.. بعد ذلك اللقاء التعارفي التفاكري بين مناديب الشركة ومناديب المزارعين… ولتثبيت الفكرة الذهبية هذة تم نشر الخبر في الصحف ومعه ترحيب المزارعين وحماس الشركة… وأخذت تلفون المهندس المسؤول وإن لم تخني الذاكرة اسمه إيهاب… وهو شاب خلوق أبدع في حديثه مع مناديب المزارعين في اللقاءات التفاكرية… طلبت منه مداخلة تلفزيونية وفي بداية برنامج تلفزيوني كنت أقدمه من قناة النيل الأزرق… في استهلالية البرنامج قلت اليوم لدينا خبر سار عن الجزيرة… ويبدو أن مشروع الجزيرة قد هلت عليه ليلة القدر… للأسف لم يفلح فنيو البرنامج في الاتصال بإيهاب لأن تلفونه كان مغلقاً طوال الحلقة.. بعد الحلقة كررت المحاولة دون نجاح.. فأدركت أن الفكرة قد تم اغتيالها مع سبق الإصرار والترصد… ومن يومها وحتى اليوم.. كانت نفسي ومازلت تموت في لقاء السيد أسامة داؤود لمعرفة كواليس ذلك الإعدام لذلك الحلم…
الإنصاف يقتضي أن نذكر هنا أن هناك من بادروا ودخلوا في الزراعة التعاقدية في مشروع الجزيرة دون تردد….. فالسيدان وجدي ميرغني ومعاوية البرير زرعا آلاف الأفدنة من القطن وفول الصويا وعباد الشمس وقفزا بدخل المزارع قفزات كبيرة… وهناك مستثمر سوري له شركة اسمها الثمر الداني كانت متقدمة جدا في وسط الجزيرة… وآخرون أقل حجما منهم عبد الرحمن صاحب مركز السودان للصادرات الذي زرع مئات الأفدنة من البامية في مكتب دلقا واسترحنا للتصدير لأوروبا مباشرة… وكانت حبة البامية (قدر العجورة)… وآخرون زرعوا طماطم فكان الإنتاج مذهلا… صيني زرع بطيخ فسوى العجب.. كلها عن طريق الزراعة التعاقدية…
شخصيا زرعت قطن لموسمين مع معاوية البرير وحققت دخلا لم تحققه الحواشة من قبل أو بعد.. ولولا بعض الاشكالات الأدارية والفنية لفاق الدخل ما حققه والدي عليه رحمة الله من ذات الحواشة في 1953..تلك السنة التي زلزلت ثبات أهل الجزيرة من (كترة القروش)… فمثلا القطن الهندي الذي زرعته مع البرير تستمر دورة حياة الشجرة فيه إلى ثلاث سنوات على الأقل .. حتى لو تركناه بدون ماء في شهري انقطاع الماء عن القنوات… سيعود ويزهر بعد وصول الماء مباشرة… لكن لا… نحن في الجزيرة حكم علينا بإزالة شجرته نهاية مايو لأن الدورة الزراعية (المقدسة) اقتضت ذلك… وبهذا تذهب شجرته للوقود لعواسة الجابري… بعد أن تكون أعطت أقل من عشرة في المية من طاقتها.. وتبكي يا بلدي الحبيب… بهذة المناسبة قابلت السيد معاوية البرير خطفا قبل أيام فسألته هل من عودة للجزيرة فقال لي جاهزين…
إن الزراعة التعاقدية كانت فكرة عبقرية… وكان يمكن أن تكون بلسما يشفي جراح الزراعة في كافة السودان وفي المشاريع المروية بالتحديد… ولكنها لم تجد الإرادة السياسية التي تدعمها وتطورها… فالانقاذ لم تكن مهتمة أصلا بالزراعة… فعباقرتها كانوا يرون في الزراعة تخلفاُ … أما مشروع الجزيرة بالنسبة لهم (حمام ميت)… بعد ذهاب الإنقاذ كانت الحكومة الانتقالية تسير علي ذات درب الإنقاذ في الزراعة… أما في الجزيرة كان عداء صانع القرار للزراعة التعاقدية علناً… ولعل المفارقة أن رئيس الوزراء السيد عبد الله حمدوك في زيارته الوحيدة للجزيرة زوروه وصوروه في حواشة قطن بالتكينة كانت بزراعه تعاقدية بين المزارع حق الله… إن لم تخن الذاكرة… ومعاوية البرير…. وبمناسبة التكينة نقول إنها من أكثر قرى الجزيرة استفادة من زراعة القطن عن طريق التعاقدية… وهكذا هي التكينة حفظها الله ورعاها رائدة سلما وحربا…
الذي أود قوله من كل السردية أعلاه هو إعادة إعمار السودان… أو حتى بنائه من جديد يمكن أن تبدأ من الجزيرة… وبالزراعة التعاقدية اليوم قبل الغد وبدون أي تكلفة من الدولة… هو أصلا الدولة ما عندها التكتح… وبدون معونة أو منحة… وبدون مجازفة تذكر من المستثمربن… فكل المطلوب إرادة سياسية وبعد نظر من الذين يديرون مشروع الجزيرة ووعي من المزارع .. وفي المقال القادم إن شاء الله فكرة في ذات الموضوع لكن من خارج الصندوق.
عبد اللطيف البوني






