لا شك أن الولايات المتحدة تعاني من أزمة سياسية عميقة تتعمق بمرور الوقت، ويُعد العنف المسلح في المشهد السياسي أحد أبرز تجلياتها، مع إنه ليس أخطرها على الإطلاق. فقبل أسابيع فقط من الانتخابات الرئاسية، تعرض دونالد ترمب – الملياردير والرئيس السابق
والمرشح الأبرز حينها – لمحاولتي اغتيال اخترقت إحداهما أذنه برصاصة. ومع ضخامة الحدث، مرّ الأمر وكأنه حادثة عابرة، وطويت صفحته سريعًا في الخطاب الإعلامي والسياسي السائد.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد تم اغتيال تشارلي كيرك، نجم اليمين المتطرف والمؤيد لقمع الأقليات. وتكمن أهمية كيرك في نجاحه غير المسبوق في استقطاب الشباب الصغير سنًا لصالح تيار المحافظين المتطرفين والمسيحيين، متحديًا الحكمة التقليدية التي كانت ترى أن الشبيبة ميالة بطبيعتها نحو الأفكار الليبرالية واليسارية. وهكذا، أسهمت استراتيجيته بشكل مباشر في تعزيز قاعدة ترمب الانتخابية، ودعم فوزه في دورتين رئاسيتين، وتوسيع نطاق حركة “ماغا” عبر الولايات.
في ضوء هذا المناخ المشحون، يرى بعض المراقبين العارفين أن أمريكا دخلت مرحلة “ما قبل الفاشية”، بينما يحذر آخرون من أنها تمر بأزمة “ما قبل ثورية” – علماً بأن “الثورة” هنا لا تحمل بالضرورة دلالة إيجابية، بل قد تعني صعود نظام متطرف يقلب موازين اللعبة السياسية رأسًا على عقب.
ولا يمكن فصل هذه الأزمة الداخلية عن التحول الجيوسياسي الأوسع، المتمثل في أفول الهيمنة الأمريكية الغربية الأحادية وبروز عالم متعدد الأقطاب أو متعدد العناقيد القطبية. وكما هو حال الإمبراطوريات الكبرى في لحظات أفولها، فإن الولايات المتحدة قد تصبح أكثر خطورة وأقل قابلية للتنبؤ، سواءً لأعدائها أو حتى لحلفائها. فإذا عطس هذا الفيل الضخم، فلن يخلو الأمر من ارتدادات تؤثر على الجميع، مما يفرض عليهم التحسب واتخاذ الحيطة ما استطاعوا لذلك سبيلا.
والمأزق الذي تواجهه بعض الدول هو أن أي محاولة للتحوُّط من أفول الهيمنة الأمريكية عبر التقارب مع المحور الصيني-الروسي، قد تُعتبر بمثابة استفزاز للدبّ الأمريكي الجريح، مما يعرّضها لعقوبات وضغوط تكون أشد وطأة من المخاطر التي سعت لتجنبها.
لا يبدو أن للسودان خيارات تتعدد ولكن من المهم مراقبة رمال الجيوبوليتيك المتحركة ورصد التحولات لتصميم تموقع دبلوماسي مرن لصالح الأمن القومي وتعظيم فرص النهوض وهذا يحتاج لمركز فكر إستراتيجي ترعاه وزارة الخارجية ومؤسسات الدولة المعنية.
معتصم اقرع

