التعاقدية.. علاقة مصلحة لكنها شعبية

قبل عدة سنوات وزير التجارة المصري قال إن مصر أكبر مستورد للقمح في العالم… وبالتالي لديها تحكم في أسعاره … والسودان هو الآخر من مستوردي القمح… فلو أضاف السودان كوتته إلى مصر سوف يزيد من تحكم مصر في السعر العالمي … ويحصل عليها بسعر أقل (انتهى)…
أذكر أنني عندما قرأت هذا الكلام كتبت قائلاً… إن كلام السيد الوزير كلام عقلاني ومن خارج الصندوق… ولكن دعوني أكمل الصورة.. وطالما أن الكلام كله أمنيات.. أقول إن مصر تتصدر العالم في إنتاج البرتقال أبو صرة.. وإلى حد ما التمور والمانجو وفواكه أخرى … وفي إمكان السودان أن ينتج أضعاف ما تنتجه مصر من كل هذا… فهل سيقبل السيد الوزير أن نجمع إنتاج البلدين وندخل السوق كبائع واحد؟ (انتهى)…
الأمر المتفق عليه أن الأسعار لا يتحكم فيها المنتج فقط بل المشتري هو الآخر شريك في السعر… طالما أن الحكاية عرض وطلب…
هذة رمية أولى ومنها نذهب إلى رمية ثانية… وهي أن تصنيع المنتجات الزراعية سوف يعطيها قيمة إضافية هذة حقيقة لا تحتاج إلى درس عصر… ولكن هناك الكثير المنتجات الزراعية مطلوبة على حالها الطبيعية… فكل الفواكه اليوم مع تطور تقانات التبريد والنقل الجوي.. مطلوبة طازجة.. السمسم والفول السوداني ليست كلها مطلوبة للزيت والذي منه… بل أحيانا كثيرة مطلوبة على حالها… كل الخضروات المستخدمة في الطهي والسلطة..بفتح السين… مطلوبة كما هي.. كل الذي يطلب من المنتج مراعاة الجوانب الصحية والنظافة وجودة التغليف… أو ما يسمى بالمعالجات Processing.
حتى الحيوانات من أبقار وضان أحيانا كثيرة مطلوبة حية… كتلك التي تذبح في الهدى (الأضاحي) والمناسبات الاجتماعية …كالأعراس والسمايات… فعريسنا حالف يضبح تور… ليست عادة حكراً على السودان… هناك شعوب لاتطمئن للحوم المجمدة أو تلك مجهولة المصدر… أهمية الجلد والرأس ليست حكراً على السودانيين…
أردت من الرميتين أعلاه القول أن هناك أفكاراً اقتصادية كنا نظنها من الثوابت أصبحت قابلة للتغيير… فالرمية الأولى تقول إن تضامن المشترين أو المنتجين البائعين يزيد من تحكمهم في السوق، والرمية الثانية تقول إن المنتجات الزراعية الخامة مطلوبة مثلها مثل المصنعة… فكل المطلوب اعدادها جيدا للسوق لزوم المنافسة… وهنا تأتي أهمية الجغرافيا، فكلما كانت المسافة بين المنتج والسوق قريبة كلما كان ذلك أفضل…النقل بالبر أو البحر أرخص من الطيران..
أها تاني فضل نطلع من التجريد وندلف إلى الواقع…. ونقول إن مصر والسودان يمثلان حالة نموذجية لما قلناه.. وهنا نرجع لما ذكرناه في المقالات السابقة عن الزراعة التعاقدية… والتي في رأينا تهيئ وضعا مثاليا للتشارك بين البلدين… فمصر بما لديها من خبرات زراعية متطورة وطبقة رأسمالية زراعية وسوق جاهز… والسودان بما لديه من إمكانيات زراعية وتجارب لدرجة أن الآليات الزراعية الحديثة المطلوبة موجودة.. ففي قرى الجزيرة تنتشر اليوم الآليات الزراعية الثقيلة وعلى أحدث موديلات عالمية.. ناهيك عن الشركات… كل هذا يمكن البلدين من البدء اليوم قبل الغد في هذا المشروع…. طبعاً بعد توفر الارادة السياسية وهذة لا تحتاج إلى (لت وعجن)… إنما قناعة وتخطيط وتدبير وطق حنك و لا يلزمها قيد زمني…
السودان الآن مقبل على مرحلة جديدة متولدة من الحرب الجارية … ولابد له من الإنتاج الزراعي اليوم حتى يستقر الموجودون فيه الآن خاصة الذين عادوا بعد أن شردتهم الحرب… ويحتاج إلى إعادة إعمار بعد نهاية الحرب ويحتاج إلى بناء من جديد في كثير من الأوجه… باعتبار أن التخلف والتردي كان موجودا قبل الحرب.. ليس هناك منح أو معونات متوقعة فكل المتاح الآن هو الاستثمار… عدم الاستقرار لا يشجع على جذب مستثمرين كبار أي رساميل ضخمة…. فبالتالي تصبح الزراعة التعاقدية هي الخيار الأمثل لأنها لاتحتاج إلى بنيات أساسية… ولا تحتاج إلى شراء أو نزع أرض…. بعبارة أخرى لن تواجه العقبات التي واجهها المستثمرون الذين دخلوا السودان وهربوا منه… فهي قليلة المخاطر مما جميعه…. مما يشجع على ما ذكرنا أن الزراعة التعاقدية أصبحت معروفة في السودان بكل نقاط قوتها ونقاط ضعفها… اما في مصر فالزراعة التعاقدية هي صاحبة الفضل الأول في جعلها في مصاف الدول الزراعية التي يشار إليها بالبنان… فمصر اليوم توضع مع إسرائيل والهند والبرازيل وكندا… ولولا كثافتها السكانية لأصبحت الأولى في تصدير المنتجات الزراعية… وهذة الكثافة السكانية قد تكون هي المحفز لها للاتجاه نحو السودان بخبرتها الكبيرة… أما رأس المال في التعاقدية ليس كبيرا كما أنه مسترد وفي موسم زراعي واحد…
قد يقول قائل أين الشركات الوطنية التي ابتدرت الزراعة التعاقدية والتي قد تقف عائقاً أمام القادمة من الخارج؟… وهنا يجب ألا نضيق واسعاً، فالمساحات على قفا من يشيل… فالجزيرة وحدها بها اثنين مليون ومائتي ألف فدان…. ناهيك عن المشاريع الأخرى… كما أن بعض الأجزاء من القطاع المطري لها قابلية لذلك النمط من التعاقدية… لابل حتى الحيازات الصغيرة على ضفاف الأنهار وهذة ما أكثرها يمكن أن تكون فيها زراعة تعاقدية … ثم ثانياً يمكن لهذة الشركات الوطنية أن تدخل في شراكة مع الشركات المصرية لتكون وسيطا… وأصلا كانت هذة الشركات تشتري من مصر معظم المدخلات من اسمدة ومبيدات وخيش… حتى التقاوي أحيانا تشترى من مصر… ليس هذا فحسب بل كل القطن الذي زرعته أو اشترته الشركات السودانية المتعاقدة كان سوقه مصر… فإذا وجد المزارع السوداني المسكين فرصة للشراكة المباشرة مع الذي يبيع المدخلات ويشتري المنتجات فلماذا نحرمه منها؟
الزراعة التعاقدية لا تحتاج إلى قومة وقعدة… وليس فيها شكوك أو ظنون سيئة… فهي واضحة وضوح الشمس… أمسك لي وإقطع ليك… ولا تحتاج لحكومات ولا حتى وجود للمستثمر بشخصة كل المطلوب نظام إداري يقوم على موظفين محليين وربما بنك وشوية لوجستيات…. الزراعة التعاقدية ليست لها علاقة بالحكومات ولا السياسيين….ولا تحتاج لشعارات مثل التكامل والمصير المشترك ووحدة وادي النيل والأمن القومي و…. و… كل تلك الاكليشهات السياسية التي تفتح الباب للمتربصين والذين لايعجبهم العجب… فالزراعة التعاقدية علاقة بين اتنين والتالت بره… فهي بين المزارع صاحب الأرض والممول صاحب الفلوس… أي أنها علاقة شعبية محلية في أسمى معانيها…
الحكومات مطلوب منها الارادة السياسية وهي تتمثل في إعطاء الموافقة (التابلت) ثم التشجيع والحماية من تغول طرف على الآخر… والأهم ألا تتدخل في التفاصيل ولاتطمع في المكاسب التي يحقهها الطرف الذي يليها… إنما تأخذ كل مكوسها من ضرائب وجمارك ورسوم على دائر القرش (في تشجيع يا اخوانا اكتر من كده؟).. إنها علاقة بين الطبقة الوسطى في البلدين… الطبقة الوسطى هي التي تجاوزت الدولة في أوروبا وصنعت السوق الأوروبية المشتركة… وبدلت العلاقة بين الدول من تنافسية إلى تكاملية… وأجبرت الحكومات على الانصياع إليها…
وأخيرا ليس آخرا… نحن في السودان نهوى اوطانا…هذة واحدة و الثانية إن رحلنا بعيد نطرأ خلانا.. أما الثالثة فإننا محتاجين للخروج من قوقعتنا ومن موروثاتنا الفكرية البالية…. ومن الصندوق ذات نفسه.
د عبداللطيف البوني






