من السبق إلى السقوط: تقرير (الحدث) عن البشير وانتهاك معايير الصحافة

(1)
لا أظنُّ أن أيَّ متابعٍ حصيف ستفوت عليه مظاهر الإخفاق التحريري والمهني التي شابت الحوار الذي أجرته قناة (الحدث) لمناقشة نتائج تقريرٍ أعدَّته الصحفيَّة لينا يعقوب عن أسلوب حياة الرئيس السابق عمر البشير وبعض مرافقيه في مقرِّ إقامتهم الذي تقول إنها كشفته؛ فبدلًا من أن تقدِّم القناة سبقًا صحفيًّا موثوقًا، تحوَّل التقرير وحواره إلى مثالٍ صارخ على كيفية تحوُّل النزعة إلى الإثارة واللهاث وراء الانفراد مع ضعف الإعداد التحريري إلى عبءٍ يمسُّ مهنيَّة أيِّ مؤسَّسة إعلامية.
لقد كان التقرير أقرب إلى مهزلةٍ تحريرية حفلت بتوليفةٍ من التناقضات والأخطاء الفادحة، والترويج لمعلوماتٍ بصيغةٍ تقريرية جازمة بلا أسانيد ملموسة.
استهلَّ المذيع المصري محمود الورواري النقاش بعباراتٍ جازمة لا تترك أيَّ مجالٍ للتأويل، نقتبس منها:
“إذن، نجحت الحدث في كشف معلوماتٍ خاصة وحصريَّة عن حياة الرئيس السوداني المعزول عمر البشير، فبعد احتجازه بسجن كوبر ونقله أيضًا إلى المستشفى لاحقًا، علمت الحدث أن البشير يعيش حاليًا في مجمعٍ سكني بقاعدة مروي الطبية، ويمتلك هاتفًا نقالاً، ويتابع تطوُّرات الأحداث في السودان”.
غير أن الورواري تراجع على سبيل الاحتراز في ختام النقاش قائلًا:
“هو مجرَّد نقاش الحقيقة بناءً على المعلومات المتوفّرة لدينا. لم ندَّعِ أننا نعرف الحقيقة، أو أين يُقيم البشير، ولماذا تمَّ التعامل معه بهذه الطريقة، لكن على الأقل نحن تعاملنا مع المعلومات. يعني لمَّا يكون هناك معلومات أجدّ من التي نناقشها، سيكون لدينا نقاش. لسنا طرفًا في أيّ شيء”.
يفضح هذا التناقض الفجّ التخبُّط في الهدف وضعف الإعداد التحريري؛ فلا يمكن لقناةٍ أن تبدأ بالتباهي بأنها “كشفت معلوماتٍ حصريَّة” ثم تعود لتتنصَّل من مسؤولية الحقيقة التي كشفتها. يقوِّض مثل هذا الازدواج في الخطاب الصدقيَّة، ويعكس ارتباكًا مهنيًّا، ويعطي الانطباع بأن القناة تلعب على الحبال.
وممَّا أضعف النقاش أيضًا اختلالُ توازن الاستضافات؛ إذ شارك اثنان من أصل ثلاثة (الكاتب والمحلّل السياسي طاهر المعتصم، والناطق الرسمي باسم لجنة الاتهام في انقلاب 1989 معز حضرة) لتقديم مقاربةٍ قانونية سياسية اتهاميَّة، في مقابل صوتٍ صحفي واحد، وهو أسامة عبد الماجد، الذي استُضيف لتحقيق توازنٍ ظاهري. في نقاشٍ بهذه الدرجة من الحساسيَّة، يكون التوازن ضرورةً لا غنى عنها، لكن غيابه جعل الحوار أقرب إلى محكمةٍ إعلامية جاهزة لتلقين سرديَّة مسبقة، وهي أن البشير ورفاقه ينعمون بالرفاهية بعيدًا عن المساءلة، وأن الحكومة تتلكَّأ في محاكمتهم وتمنحهم معاملةً خاصة. وهكذا، بدلاً من أن يثري النقاش الرأي العام بتعدُّد الأصوات، انزلق إلى تثبيت مفاهيم مُعلَّبة سلفًا.
ثم توالت الانتهاكات المهنيَّة على الهواء؛ ففي لحظةٍ ما ضحك الورواري ساخرًا وهو يقول:
“الرجل ليس في سجن ولا في مستشفى، عنده موبايل، وهناك من يطهو له أكله، ويعمل رياضة… الأمور تمام يعني”.
يكشف هذا التهكُّم انحيازًا واضحًا، ولم يكن سلوكًا غير لائقٍ من صحفي فحسب، بل كان محاولة مبطَّنة لتوجيه الرأي العام بدلًا من ترك الوقائع تتحدَّث عن نفسها.
أما الخرق الأخطر فكان أخلاقيًا؛ إذْ لم يراعِ التقرير الأبعاد الأمنية والسلامة الشخصية؛ فإذا صحَّ أن البشير يقيم بالفعل في (قاعدة مروي الطبية)، إنْ كان هناك كيانٌ بهذا الاسم، فإن إعلان موقعه وتفاصيل تحرُّكاته في ظلّ حربٍ مفتوحة تُستخدَم فيها الطائرات المسيَّرة سلاحًا مؤثّرًا من شأنه تعريض حياته وحياة مرافقيه للخطر المباشر. هذا انتهاكٌ لا يُغتفر لواجب الصحافة الأول، وهو عدم تسبيب الضرر. فسواء كان ذلك عن قصدٍ أو جهل، فقد تحوَّلت القناة عمليًّا إلى كاشف هدفٍ للطائرات المسيَّرة.
ويُضاف إلى ما سبق ذلك الغياب التام للأدلَّة الداعمة؛ إذْ لم يقدِّم التقرير أيَّ صورٍ أو تسجيلاتٍ أو حتى إفادات من مصادر معلومة، بل اكتفى باعتمادٍ كامل على رواياتٍ مجهولة، وصورٍ مُولَّدة بتقنية الذكاء الاصطناعي، وسردٍ أشبه بالقيل والقال، في تعارضٍ واضح مع أبسط مبادئ الصحافة الموثوقة، التي تقوم إمَّا على وثائق ملموسة، أو على سياقٍ يتيح للجمهور تقييم صدقيَّة المصادر. أمَّا الاكتفاء بمصادر حصريَّة بلا أيِّ تفاصيل أو أدلَّة مساندة، فهذا مناقضٌ تمامًا لمعايير المهنيَّة الصحفيَّة.
(2)
وممَّا يفاقم الالتباس تلك الفجوة بين مضمون التقرير ومسار النقاش الذي دار بشأنه، إذْ ركَّز التقرير على تحديد مكان إقامة البشير ورفاقه، وقد صوَّرته مُعِدَّته كما لو كان لغزًا عصيًّا على الكشف، في حين أن الرأي العام لم يكن منشغلًا أصلًا بهذه المسألة في ظلّ تسارع الأحداث واستعار العمليات العسكرية. ومن البداهة، أن السبق الصحفي لا يتحقَّق بالسرعة وحدها، بل بوجود قيمةٍ مضافة للخبر.
فأين هي القيمة المضافة في هذا الانفراد؟ هل تكمن في أن البشير كان يحمل هاتفًا، أو يمارس الرياضة، أو يتابع الأحداث؟ أم في أنه ورفاقه لم يكونوا في سجنٍ عادي؟ كل هذه أمورٌ كانت معروفة للقاصي والداني، ولا تثير دهشة الجمهور العام؛ بل إن مُعدَّة التقرير نفسها ذكرت أن البشير حاول التواصل مع حميدتي لإثنائه عن مواجهة الجيش، وهو ما يعني أن الدعم السريع كان على علمٍ بأن البشير يمتلك هاتفًا، ويتواصل مع العالم الخارجي، ويُعامَل معاملةً خاصة، ومع ذلك، لم يُشكّل الأمر لديهم أو لدى من يشايعهم أيَّ أهميَّة طوال فترة الحرب. على الجانب الآخر، انصرف النقاش إلى التركيز على تقاعس الحكومة عن محاكمة البشير ورفاقه ومنْحِهم معاملةً استثنائية، وهو ما عمَّق الهوَّة بين التقرير والنقاش الذي تلاه. يوحي هذا الانفصال بأن التقرير لم يكن سوى مادَّةٍ خبرية مفتعلة وُظِّفت لإثارة قضية غياب المحاكمة، وأن النقاش صُمِّم ليُضخِّم التقرير نفسه. وهنا يبرز السؤال المهمّ: ما هو الهدف من نشر التقرير في هذا التوقيت بالذات؟
إن أيَّ جديدٍ يُقدَّم للرأي العام لا بدَّ أن يكون متَّكئًا على متغيِّرٍ ذي علاقة بالسياق، ولا أرى متغيِّرًا حاضرًا سوى بيان الرباعية. ومن هذه الزاوية، يصبح التقرير أقرب إلى حلقةٍ في حملةٍ سياسية إعلامية تستهدف الإسلاميين؛ فهو يهيِّئ المناخ الخطابي لتضييق الخناق عليهم، ويُلقي على عاتقهم مسؤولية إطالة أمد الحرب، ويمهِّد الطريق لاستبعادهم سلفًا من أيِّ مشاركةٍ في المرحلة الانتقالية المقبلة. بهذا المعنى، لم يكن التقرير انفرادًا صحفيًّا بقدر ما كان أداةً لإسناد أجندةٍ سياسية مرسومة، وتغليفها بعباءة (السبق الصحفي).
بعيدًا عن الاختلالات التحريرية، فإن المادَّة الصحفية المعروضة تفتقر إلى التماسك المنطقي؛ فإذا كان البشير ورفاقه يغادرون مقرَّ إقامتهم ثلاث مرات أسبوعيًا لإجراء فحوصٍ طبية، فإن ذلك لا يشير إلى رفاهيةٍ بقدر ما يثبت أوضاعهم الصحيَّة الحرجة وحاجتهم إلى احتجازٍ خاص بظروفٍ معيَّنة. فمن غير المعقول أن تُخاطر السلطات بكشفهم أمنيًّا في ظلّ حرب المسيَّرات إلا لضروراتٍ علاجية مُلحَّة، وهذا ما قد يُفسِّر ما ذكرته مُعدَّة التقرير عن أن الخدمة الطبيَّة باتت تُقدَّم لهم حيث يقيمون عوضًا عن انتقالهم إليها.
الخلاصة أن قيمة الصحافة لا تُقاس بقدرتها على انتزاع السبق أو الزهو بالحصريَّة، بل بمدى دقَّتها في التوثيق، ورصانتها في العرض، وحرصها على التوازن. وبالنظر إلى هذه المعايير، يتبيَّن أن التقرير قد أخفق إخفاقًا ذريعًا؛ إذْ عجز عن تقديم أدلَّةٍ داعمة موثوقة وهدفٍ منطقي، كما فشل النقاش في تحقيق التوازن المطلوب، وانفصل عن صلب موضوع التقرير القائم على الانفراد بكشف مقرِّ إقامة البشير ومرافقيه وظروف معيشتهم. والنتيجة لم تكن سوى فرقعةٍ إعلامية مشوبة بالغرض أضعفت ثقة الجمهور في القناة، وقدَّمت برهانًا صارخًا على أن الصحافة ليست مضمار عناوين مثيرة، بل مهنةٌ تستمد شرعيتها من أخلاقياتها ومهنيَّتها.

خالد محمد أحمد

#السودان #ST_online

Exit mobile version