رأي ومقالات

هل الفيل كفيل؟

تميزت تعليقات الكثيرين من قادة الشرطة على دفاتر الأحوال بجزالة العبارة التي تجمع بين الحكمة والمهنية والطرافة. ومن بينها ما خطه قلم الراحل السيد المقدم شرطة سيد الحسين عثمان – الفريق أول لاحقًا ونائب مدير عام الشرطة الأسبق – حين كان رئيسًا للقسم الأوسط الخرطوم (الجنوبي سابقًا).

فعند اطلاعه على دفتر الأحوال في الصباح، وجد قيدًا يشير إلى توزيعات قوة الدوريات الراجلة، ومن بينها الشرطي “الفيل” في دورية سوق السجانة، فعلق سعادته قائلًا: “وهل الفيل كفيل؟!”، ويعني هل الشرطي الفيل وحده كفيل بتغطية سوق السجانة على كِبَر مساحته؟!

هذا التعليق الطريف والعميق في آنٍ واحد يحمل روح الدعابة، لكنه يثير تساؤلًا مهنيًا جادًا يمكن إسقاطه على واقعنا اليوم: هل التحول الرقمي كفيل؟

خطوة حكومة الأمل، بتوجيه رئيس مجلس الوزراء د. كامل إدريس نحو تفعيل منصة “بلدنا”، تُعد خطوة مهمة في طريق الإصلاح الإداري ومحاربة الفساد. فالعالم اليوم يتجه نحو الرقمنة لترسيخ الشفافية وضمان عدالة الخدمات، وقد أحسن رئيس الوزراء حين ربط التحول الرقمي بالحد من الفساد، فالمعاملات الورقية المعقدة لطالما كانت مدخلًا للمحسوبية وتعطيل مصالح الناس.

غير أن التجربة أثبتت أن التقنية وحدها لا تكفي، فالنزاهة لا تُنتجها الأجهزة ولا تُولدها المنصات. التحول الرقمي يمكن أن يضيّق منافذ الفساد، لكنه لا يغني عن إصلاح إداري وتشريعي يعيد الانضباط للمؤسسات، ويُرسخ قيم العدالة والمساءلة، ويقوِّي الأجهزة الرقابية ويمنحها استقلالها المهني.

ومن واقع التجربة، فإن محاربة الفساد لا تبدأ من الرقابة فقط، بل من تحسين الظروف المعيشية للعاملين، وهو ما انتبهت إليه المواثيق الدولية. فالسودان طرف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد منذ عام 2014، وهي التي وضعت معايير لتعزيز النزاهة في الخدمة العامة، من بينها ضرورة توفير مرتبات مناسبة ونُظم أجور عادلة تكفل حياة كريمة للعاملين، كما ورد في المادة (7) من الاتفاقية. وهي ذات الفكرة التي أكدها قرار الإنتربول في دورته الحادية والسبعين عام 2002 حول مكافحة الفساد داخل أجهزة الشرطة، حين دعا إلى اتخاذ خطوات عملية لضمان مستوى رواتب يتيح لضباط الشرطة والموظفين الحفاظ على مستوى معيشي معقول دون الاضطرار إلى ممارسة عمل آخر أو اللجوء إلى الفساد.

وإلى جانب هذه الجوانب المعيارية، فإن توقيع السودان على الاتفاقيات الدولية لمكافحة الفساد يتيح له الاستفادة من الدعم الفني والمادي وبناء القدرات المؤسسية، عبر برامج تدريب وتأهيل، وتبادل خبرات، وتطوير نظم استرداد الأموال المنهوبة، وهي فرص يمكن للحكومة توظيفها في دعم التحول الرقمي ومكافحة الفساد بصورة عملية ومستدامة.

إن تطبيق مثل هذه المعايير لا يحتاج سوى إرادة سياسية جادة تدرك أن مكافحة الفساد تبدأ من تحصين الموظف ضد الحاجة والإغراء، لا بمطاردته بعد الوقوع في الخطأ. ومن هنا، فإن على حكومة الأمل أن تُفعّل هذه التدابير الوقائية في الخدمة المدنية وأجهزة إنفاذ القانون، وأن تُراجع سلم الرواتب والحوافز بما يحقق التوازن بين الواجب والمسؤولية.

وعلى المستوى الوطني، فقد نصت الوثيقة الدستورية لعام 2019م على إنشاء المفوضية القومية لمكافحة الفساد واسترداد الأموال العامة، وصدر قانون ينظم أعمالها وسلطاتها، وهو إنجاز يمكن البناء عليه بتطوير القانون بما يواكب المستجدات، ويضمن أن تكون المفوضية أداة للعدالة لا ساحة لتصفية الخصومات السياسية.

إن التحول الرقمي سيكون خطوة ناقصة إن لم يُرافقه إصلاح مؤسسي ومناخ وظيفي كريم يضمن كرامة العامل العام. فحين يشعر الموظف بأن الدولة تحفظ حقه وتكافئ جهده، يصبح هو نفسه خط الدفاع الأول ضد الفساد، لا طرفًا فيه.

وعودًا على ذي بدء، وعلى نسق عنوان المقال، نعيد طرح السؤال إلى السادة المختصين والمهتمين: هل التحول الرقمي كفيل؟

عميد شرطة (م)
عمر محمد عثمان