رأي ومقالات

السلام في السودان .. الاتجاه أهم من التوقيت

إن المقولة التي تفيد بأن “البوصلة اخْتُرِعت قبل الساعة، والاتجاه أهم من الوقت” تحمل في طياتها حكمة عميقة، لا سيما عند تطبيقها على الأزمة السودانية الراهنة والسعي المضني نحو السلام. صحيح أن النزيف مستمر والمعاناة مستدامة، والأصوات تتعالى بضرورة إنهاء الحرب فوراً، لكننا يجب أن نتوقف ونتساءل: ما هو ثمن “السلام السريع”؟ إن استعجال السلام بأي شكل وبأي كيفية، هو في حقيقته مجرد تأجيل للحرب التي ستندلع لا محالة.

لا يمكن أن يكون الهدف هو مجرد توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار أو ترتيبات سياسية سطحية تُرضي الرأي العام العالمي، بينما تظل جذور الأزمة ووقودها الكامن حياً تحت الرماد. الاتفاق الذي لا يعالج حقيقة المشكلة، ولا يفكك هياكل القوة الموازية للدولة، هو سلام هش. إن الخطر الأكبر يكمن في ترك وميض مليشيا الدعم السريع المتمردة والإرهابية تحت الرماد. هذه المليشيا، التي أثبتت التجربة أنها كيان مارق يعمل خارج سياق الدولة ومؤسساتها الوطنية، لا يمكن استيعابها أو “تدجينها” باتفاق يُبقي على قوتها ونفوذها وذخائرها. إن الضغط لأجل إيقاف الحرب غداً أمر مفهوم إنسانياً، لكن إذا كان هذا الإيقاف يعني إبقاء كيان الدعم السريع كقوة مسيطرة أو كشريك قسري، فإننا نكون قد ضحينا بـ “اتجاه السلام الدائم” مقابل “توقيت الهدوء القصير”.
في خضم هذا الصراع، تبرز أهمية تصحيح بوصلة السلام عبر التدخلات الإقليمية والدولية الفاعلة. إن التحركات المكوكية لسمو الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، وجهود القيادة المصرية الحكيمة، وتجاوب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب (في سياق دوره المحتمل أو المؤثر على المدى الطويل)، كلها تمثل إشارات قوية نحو ضرورة إعادة توجيه الجهود من التركيز على “التوقيت” إلى التركيز على “الاتجاه”. هذه القيادات، من خلال ثقلها السياسي وتأثيرها الاستراتيجي، تستطيع أن تفرض أجندة تضمن بناء دولة المؤسسات الواحدة (جيش وطني واحد ومؤسسات أمنية واحدة)، والتفكيك الكامل للمليشيات المتمردة، وترسيخ مبدأ العدالة والمحاسبة؛ لضمان إزالة هذا الوميض المهدد للاستقرار الإقليمي بأكمله.

على القوى الوطنية السودانية والمجتمع الدولي أن يدركوا أن السلام العادل والمستدام قد يتطلب وقتاً أطول. وكما قيل: “نحن مدعوون لنكون مهندسي المستقبل، لا ضحاياه.” (We are called to be architects of the future, not its victims.) يجب على صانعي القرار أن يركزوا على هندسة مستقبل مستقر يتضمن تفكيك النزاعات الهيكلية (الاتجاه)، بدلاً من الاستجابة لضغوط اللحظة والوقوع ضحية الحلول المؤقتة والهشة (التوقيت). البوصلة يجب أن تشير بلا مواربة نحو الدولة المدنية الموحدة ذات الجيش الواحد. وعندما يكون هذا هو الاتجاه، فإن التوقيت يصبح مسألة تكتيكية لا استراتيجية.

عميد شرطة (م)
عمر محمد عثمان