شاهدتُ قبل أيام على قناة الجزيرة الوثائقية برنامجًا عن تجربة فيتنام المريرة والمشرّفة في آنٍ واحد؛ صراعها الوجودي ضد الاستعمار الفرنسي لثماني سنوات، ثم حربها الضروس ضد القوة الأمريكية التي امتدت لعشرين عامًا، بقيادة الزعيم التاريخي “هو شي منه” الذي خُلّد اسمه بإطلاقه على مدينة “سايغون” لتصبح اليوم العاصمة الاقتصادية النابضة للبلاد.
أثار هذا البرنامج فضولي للبحث بعمق في أرقام هذه الدولة، فأدهشني كيف تحوّل بلد أنهكته الحروب إلى واحد من أسرع الاقتصادات نموًا في العالم. إنها مفارقة تستحق التأمل عند مقارنتها بواقعنا في السودان؛ لا من باب جلد الذات، بل لاستلهام طريق النهوض من وسط الركام.
لكن ما جعل هذه التجربة أكثر إلهامًا هو أنها لم تتوقف عند حدود النصر العسكري في “ديان بيان فو” عام 1954، ولا حتى عند توحيد البلاد عام 1975 بعد قهر الآلة الحربية الأمريكية، بل خاضت حربًا ثانية ضد الفقر والجهل. وبينما يمتلك السودان موارد طبيعية وإمكانيات أراضي زراعية تفوق فيتنام بأكثر من ثلاثة أضعاف (مع إمكانيات تصل إلى 200 مليون فدان محتملة مقابل حوالي 16 مليون فدان مستغلة في فيتنام)، فإن النتائج تختلف جذريًا؛ إذ يبلغ الناتج المحلي الفيتنامي اليوم حوالي 485 مليار دولار، مقابل حوالي 36 مليار دولار في السودان حاليًا (حسب تقديرات 2025، بعد أن كان حوالي 52 مليار دولار قبل اندلاع الحرب في 2023).
السر في هذا التحول المدهش هو الاستقرار والإرادة السياسية. فقد جعلت فيتنام التعليم سلاحها الأول، حتى خفّضت نسبة الأمية إلى حوالي 3-4% فقط، بينما تجاوزت في السودان 39% (مع احتمال ارتفاعها بسبب الظروف الحالية).
كما واجهت الفساد بصرامة، فخاضت ضده حملات تطهير جذبت بها كبريات الشركات العالمية مثل “سامسونج” و”أبل”، في حين لا يزال الفساد في السودان يبتلع موارده ويطرد استثماراته.
إن استلهام التجربة الفيتنامية في السودان بعد الحرب يتطلب أولاً مصالحة وطنية شاملة لا تستثني إلا من يرفع السلاح ضد الدولة، وثانيًا ثورة في التعليم الفني لتحويل طاقات الشباب من وقود للحرب إلى قوة إنتاج. كما يحتاج السودان إلى سياسة إصلاح اقتصادي جريئة — “دوي موي” سودانية — تنفتح على العالم بعقلانية، وتتبنى مبدأ “صديق للجميع” من أجل الإعمار.
و”دوي موي” (Đổi Mới) كلمة فيتنامية تعني التجديد أو الإصلاح، وهي اسم السياسة التي أطلقتها فيتنام عام 1986 لفتح اقتصادها أمام الاستثمار، وتشجيع المبادرة الفردية، وتحويل البلاد من اقتصاد موجه بالكامل إلى اقتصاد سوق اشتراكي، فكانت نقطة التحول الكبرى التي مهدت لنهضتها المعاصرة.
إن رؤية مدينة “هو شي منه” اليوم بأبراجها ومصانعها تمنحنا الأمل في أن الحرب، رغم قسوتها وطول أمدها، قد تكون “نقطة الصفر” التي تنطلق منها نهضتنا، إن امتلكنا الإرادة للاستثمار في الإنسان قبل البنيان.
عمر محمد عثمان
