يا الجمعة الجامعة

عمّنا الجميل هذا كان يملكُ دكانًا رائعًا بساحة أتنيه؛ في البلوك الثاني شمالًا مِنْ تقاطع شارع الجمهورية مع شارع القصر -تحديدًا- بالركن الجنوبي الغربي مِنْ الساحة. كان محلّه غنيًّا بأنواعٍ فريدةٍ مِنْ التُحف والمشغولات اليدوية. دكانه -بالنسبة لي- الموقع السرّي الذي اقْتني مِنْه ما أعجبني مِنْ بين: التُحَف، والانتيكات الخشبية، الطوابع البريدية وعملات معدنية وورقية قديمة. وأعمال فنية مِنْ: خزف، وجلد، ونحاسيات، وتماثيل، ومجسّمات، ورسومات قماشية.. وانتخبُ مِنْه -كذلك- الهدايا لأحبائي وأصدقائي. وبالرغم مِنْ صداقتنا الطفيفة التي كان عمادها الونسات اليسيرة -فعمّنا هادئ؛ قليل الكلام لا يميلُ للثرثرة.. تحيطه هالة بهيّة مِنْ الوقار والحضُور الجليل- كان يدلّني على أماكن القطع المميّزة بالدكان، والتي عادةً ما تُخبأُ عن الانظار. كذلك كان يُرشّح لي قطعًا أو يُساعدني في المفاضلة بين قطعةٍ وقطعة حين أطلب منه ذلك؛ بفعل الحيرة. لا أذكرُ في مرّةٍ أنّ عمّ محمد الجميل منعني مِنْ أخذِ قطعةٍ أعجبتني لأنّ ما لدي مِنْ نقود لا يكفي؛ كان على استعدادٍ دائمٍ لتخفيض السعر إلى أدنى قيمة؛ للدرجةِ التي استحي عندها -أحيانًا- مِنْ أخذِ قطعةٍ -إذا استشعرت فارقًا كبيرًا بين قيمتها وما في جيبي- مخافة أنْ أحصل عليها دون ثمنها الحقيقي؛ فأتجوّلُ آنئذٍ في دكانهِ لاختيارِ قطعةٍ أُخرى بديلة -أقل سعرًا-.
مُنذ وقتٍ قريب رفعت صورتي معه على حالة واتساب. علّق أحد الإخوة الأصدقاء: “يا سلام عم محمد!”
– معقولة يا الحارث أخوي بتعرفه؟!
– الحارث: “كيف ما بعرفه؛ عم محمد اللورد جاري وأبو صحبي. جيرانا في الكلاكلة من سنة هُس”.
– على ما أذكر مرّة في الونسة عرفت إنّه جعلي من المحمية.
– الحارث: “بالحيييل”.
– جارك راجل فاضل والله يا الحارث.
– الحارث: “راجل ماف منو اتنين.. ياخي جيرة عُمُر!
زول كارب مع السُغَار قبل الكُبار ياخ”.
شعرتُ لحظتئذٍ بسرورٍ غامِر؛ أنّني أمسكتُ بكلتا يديَّ بشئٍ مِنْ ماضٍ زاهٍ أوشكت أنْ تطوي صلاته أحداثُ الفوضى والشتات القسري. أو كأنّما بصيصُ ضوءٍ أطلق ومضةً مِنْ تحت الرماد! والحمد لله.. طمأنني صديقي الحارث عاصم على عمّنا محمد، وأنّه وفد إلى عطبرة بعد الحرب. طلبتُ منه أنْ يربطني به أو بأحدِ أبنائه لأسلّم عليه لو ساقتني الدروب إلى هناك.. كتّر خير الحارث؛ أرسل لي على الفور رقم عمّ محمد. والدروب ساقتني بالفعل، لكن أمضيتُ ساعاتٍ قليلة بالمدينة؛ لم تسعفني للوفاء بما عقدت عليه العزم والنيّة.
الحارث كمان فوق أنّه جار لعم محمد هو أيضًا زبون دائم عنده. ويهوى جمع المقتنيات الفنيّة.. وهو مِنْ الأصدقاء الذين يُقال في شأنهم “فلان بحب الحاجة السمحة”.
الحقيقة بتُّ مفتونًا بالحقيقة الجارية على الألسُن “السودان ضيِّق”! إنّها معجزة حقًّا؛ كيف أنّ وطننا على اتساعه ضيِّق -كأن جميع مَن فيه أبناءُ حيٍّ واحدٍ بينما هُم أُمَمٌ وقبائِل؟!-
والحقيقة التانية: أنّ الخرطوم مدينة لا ولن تغادرني؛ لم أعش فيها بأعينٍ معصوبة؛ بل بأعينٍ مُتسعةٍ رُبّما بأكثر مما يجب.. للدرجة التي تحملني الآن على الهوس وأنا -مِنْ وقتٍ لآخر- اتفحّصُ بحرصٍ بالغ ماضيَّ الجذِل معها؛ مخافة نسيانه دون إرادتي! القلق البالغ -إزاء تحوّل الذاكرة لأحداثٍ هشّة قابلة للتفتُّت- تدفعني لأتساءل: هل نسيتُ شارعًا أو بناية مميّزة؟ هل أذكرُ جيِّدًا ليالي الأُنس على النيل؟ هل لازلتُ قادرًا وبوضوح على استرجاعٍ أحداثٍ أصبتُ حيالها بالخرس؟ هل لا زلت أذكرُ أجمل أكواب الشاي بالنعناع أو القرنفل شربتها في صباحاتٍ غائمٍة منخفظة الحرارة؟! مواقع “الأزيار” المُكتشفة -أزيار عادةً ما تمتاز بمائها البارد -دون غيرها-.. كنت قد أفلحتُ في تعيينها خلال المشي المتكرّر في دروبٍ معتادة؛ نوع الدرب المألوف الذي تسلكه باستمرار وتحفظُ كل شاهدٍ فيه عن ظهر قلب-؟
هكذا تطفح الأسئلة.. و”يجرُّ السؤال السؤال”!
عمّ محمّد -الله يديه الصحة والعافية- كان بالنسبة لي مثلهُ مثل شارع الجامعة، ومكتبة المين، وأشجار اللبخ والجميز على شارع النيل القديم، والعلم المرفرف أعلى سارية القصر الجمهوري.. علامة بارزة في وجداني. كل ذلك وأكثر كان مّما يُقدّمُ لنا العون المُستمر خلال معارِكنا الصعبة ذات الطبيعة المُستديمة، أو -على أقل تقديرٍ- ما أسْبغ علينا مِنْ فضل.. فضل الحصانة المعنويّة؛ أنْ نلبث لنكون على شئٍ مِنْ استعداد لقبول الخسارة؛ “الخسارة” وهي عاريةٌ مِنْ مضمون النهاية أو المأساة أو اللعنة الأبدية.. تغدو أمرًا هائفًا؛ يسهل قبوله والتعاطي معه، وربما -في لحظةِ جنون- تعمّده!
حقًّا لا أدري! ما أذكر الآن وما أنسى وما يقفُ غامضًا مُلتبسًا بين الذكرى والنسيان! لكن إلى وقتٍ قريب كنت اتذكّر جيِّدًا كل شئ تقريبًا؛ حتى ملامح الشحاذين والمتسوّلين.. خصوصًا ممّن يحملون مِنْ بينهم محيًّا مُميَّز أو إعاقة بارزة!
روحي مدبّجة بكم هائل مِنْ الذكريات في الخرطوم؛ في كل ركنٍ مِنْ أركانها وفي كل شارعٍ وزقاق مِنْ شوارعها وأزقّتها “فالمنظرُ البحريُّ والسور المدافع عن خسارتنا، ورائحة البخور تقول: مازلنا هنا. حتى لو انفصل الزمان عن المكان!”. لذا فأنا مدينٌ ما حييت لكل مِنْ قاتل وبذل في سبيل تحريرها مِنْ أدران البرابرة.. كلّ مَن طردوا -بفضل تضحياتهم- شبح التيه والشتات الأبدي؛ أنْ نكون شعبًا بلا أرض!
كما أنّ الحرب في فصلٍ مِنْ فصول معاركها القاسية تحومُ حول قدرتنا على هزيمة النسيان؛ القدرة على قولِ: كانت لنا حياة -بكل ما تعنيه كلمة “حياة” مِنْ معانٍ-.. وحياة أقل ما يمكن أنْ توصف به أنّها -بلا جحود أو لؤم- جميلة ومشرقة ورحبة -رغم كل شئ وأيّ شئ-.. ليكن الفردُ منّا -بعد الافاقة مِنْ غيبوبة النكسة المروّعة- قادرٌ على أنْ يُشير إلى نفسه -باعتداد- مِنْ بين الحُطام: أنا “القادمُ عند الفجر”.
حفظ الله العمّ/ محمد قسم السيد.. وجميع أحبابنا أينما كانوا. وجمع شملنا وشتاتنا على أفضل حال.
على الهامش:
يا ناس الفوتوشوب.. عاوز واحد منكم يفتّح لي عيوني ديل.. ههه!
محمد أحمد عبد السلام

Exit mobile version