(531) مليون دولار لتوسعة شارع النيل :الأولويات قبل الجماليات
النيل.. على ضفافه الخالدة تهدأ الانفاس المتعبة حين تداعب نسماته الرطبة وجوه العابرين راجلين او راكبين تعلو امواجه ثم تهبط كأنها تحكي رحلة المشوار او تعبر عن شوق اللقاء عند الملتقى.. فعلى الضفاف تضحك توتي حين يزفها الازرق درة خضراء تزين الشواطيء يلوح لها الناظرون في اعجاب بتلك الهبة النيلية.
… النيل لم يغير مجراه ولم ترهقه طول المسافة وهو يشق البوادي والحضر حراً طليقاً الى أن وصل ارض الملتقى.. فخرجت الالحان عذبة وهي تنساب بين الازرق الدفاق والابيض الهاديء ..ففي تلك اللوحة الجمالية خرجت تصريحات المسؤولين بشأن النيل وجماله فكانت الابراج المطلة على قبالته والوزارات على ضفافه مسار جدل وخلاف إلا أن كل جديد تأتي به ولاية الخرطوم يخص واجهة النيل يتصاعد الخلاف حولها.. الخرطوم الآن تجاهد للخروج من الوحل.. المجاري مغلقة .. المياه على الطرقات.. والولاية تدخر الميزانيات لتوسيع وتجميل واجهة النيل.
أكثر من حقيقة
الدكتور «الطيب ابراهيم المادح» الخبير في هندسة المعمار وتخطيط المدن والذي واصل حديثه قائلا:
لابد من الاهتمام بالنيل والمحافظة عليه نظيفاً نقياً من التلوث او المساس بتغير مجراه الطبيعي لانه ملك للجميع منذ الازل.
ولكن رغم تميز موقع الخرطوم عند مقرن النيلين فان هذا التميز الفريد لم تستفد المدينة منه لإهمالها التام للقيمة الوظيفية والجمالية، فصارت ضفافه مكاناً للقاذورات والكوش ووكراً للجريمة بل هذه الضفاف لا يمكن الوصول اليها لعدم وجود الطرق المعبدة بجوار هذا المنظر الخلاب.
ويقول المادح: هنالك اكثر من حقيقة توضح ذلك فإذا اخذنا المنطقة الممتدة من جسر المنشية على النيل الأزرق شرقاً، وجسر الصالحة على النيل الابيض جنوباً، وجسر شمبات على نهر النيل الرئيسي شمالاً، والمنطقة حول جزيرة توتي والتي يبلغ طولها تقريباً حوالي «06» كلم، نجد ان الطرق المعبدة فيها بجوار النيل تبلغ فقط حوالي «41» كلم، منها «9» كلم متمثلة في شارع النيل بالخرطوم و «5» كلم في شارع ابوروف بامدرمان والبقية حوالي «64» كلم اي «67%» غير معبدة.
ويواصل المادح كشفه عن الضفاف غير المحمية بطريقة مستدامة وهي تتوسط قلب العاصمة فقال: نجد فقط حوالي «6» كلم محمية متمثلة في الواجهة النيلية الممتدة من القصر الجمهوري وحتى جسر النيل الابيض قبالة الخرطوم ومنطقة السهل الذهبي بين جسر الانقاذ وجسر النيل الابيض، والمنطقة حول المجلس الوطني ومنطقة النقل النهري سابقاً وهذه تمثل «01%» فقط و «09%» من ضفاف النيل غير محمية بطريقة علمية ومستدامة.
بل إن هنالك كثيراً من الانشطة التي لا تتواءم مع النيل وهي تمارس على ضفافه والتي قد تؤدي إلى تلوث المياه فيه مثل كمائن الطوب الأحمر، وبقايا المطاعم ومحطة بري الحرارية ومخلفات المنطقة الصناعية بالخرطوم ومصانع التصنيع الحربي والسبب في ذلك هو عدم وجود قوانين وضوابط كافية تنظم كيفية التعامل مع النيل وضفافه مما جعله مصدراً للشفقة والبؤس بدلاً من المتعة والجمال، هذا الى جانب التعامل الجزئي وغير العلمي لتطوير الضفاف بالخرطوم الكبرى أدى إلى مسخ وتشويه هذا النيل.
جمال الخرطوم بات مطلوباً فالكل يحلم بضفاف غير محجوبة الرؤية سهلة المنال ولكن كيف يكون ذلك؟
دكتور المادح يرى بان الضرورة تقتضي التعامل مع نهر النيل وضفافه كجزء وعنصر اساسي من عمران المدينة وتخطيطها وليس كجزء منفصل أو كعامل عزل بين اجزاء ومكونات المدينة بل ينبغي التعامل معه بصورة متكاملة وهذا لا يكون إلا بعمل الدراسات العلمية والفنية لدراسة الجانب الهيدروليكي والجيولوجي والجيوتكنيكي وعمل موديل Simalation modle لطبيعة النيل خاصة الازرق لانه يحمل «007» مليون متر مكعب في اليوم في فترة الفيضان مشبعة بالطمي بينما تبلغ هذه فقط «01» ملايين متر مكعب في اليوم هذا الفارق الكبير لتدفق مياه النيل الازرق بين فترتي الفيضان والتحاريق تحتاج لتعامل علمي خاصة وان النيل الابيض تتدفق مياهه بطريقة متوازنة بمتوسط «37» مليون متر مكعب في اليوم كما ينبغي عمل دراسة متكاملة لقطاعات مختلفة على النيل الازرق والممرين الايمن والايسر للنيل الازرق عند جزيرة توتي والنيل الابيض والنيل الرئيسي، فبعد الدراسات الكافية يجب ان يوضع تصور كامل لحماية الضفاف دون المساس بمجراه الرئيسي على الاقل بالمنطقة الحضرية السابقة الذكر والتي يبلغ طولها «06» كلم.
هناك عدة طرق لحماية ضفاف الانهار ولكن المادح اختار انسبها وهي التراب المركم والمحمي بحجر الجرانيت المبني بمونة الاسمنت مثل ذلك الموجود بالسهل الذهبي وهذا مناسب للنيل الابيض لتوسعة ضفافه وثبات جريان مياهه الشيء الآخر هو حيطان بخرسانة مسلحة وهذه يمكن ان تكون مناسبة لضفاف النيل الازرق والتي تقابل جرف النهر «Erosion side» بالقرب من المناطق ذات القيمة العالية.
إضافة لوجود نوع آخر وهو حيطان بخرسانة مسلحة ومباني طوب او حجر بمونة الاسمنت كما يوجد هذا النوع الذي ينساب بين ضفاف الازرق والرئيسي وهو حيطان من الطوب او الحجارة او الاثنين معاً كما يوجد نوعان آخران هما حيطان الخشب واخرى من الحديد والاخير يعتبر ذا تكلفة عالية.
لم ينته المادح من وضع بصماته العلمية لتطوير ضفاف النيل، فبعد التصور يقوم بوضع خارطة هيكلية توضح كيفية تنمية وتطوير الشواطيء النيلية مربوطة بالخريطة الهيكلية للخرطوم الكبرى توضح انواع التنمية والانشطة التي تتلاءم وظيفياً مع النيل والتي تؤدي في محصلتها الى تحسين البيئة الحضرية للعاصمة وتجعلها واحدة من مدن العالم المتفردة بجمال نيلها على ان يوضع في الاعتبار عند تنفيذ الخارطة الهيكلية المتكاملة بأن النيل ملك مشاع للجميع فلكل فرد حق في ان يستمتع به دون شرط او قيد والوصول لضفافه بكل سهولة، فالامر يعني اما ان تطور ضفاف النيل بصورة علمية او عدم المساس به وترك تنميته للاجيال القادمة.
فبعد الفراغ من الخارطة الهيكلية يمكننا ان نتصور كيف نستفيد من هذا النيل في عملية التنقل بين احياء الخرطوم الكبرى باتوبيس نهري كممر مائي يؤدي إلى تقليل التلوث وهذا يمكن ربطه بشبكة الطرق بالعاصمة.
فالمحاور الخضراء لم تكن غائبة عن الدكتور فالممر المائي للنيل يمكن عمل كورنش عليه.
إهتمت مصر كثيراً بنهر النيل ووضعت دراسات فنية دقيقة لكل شبر من ضفافه داخل القاهرة وعملت على وضع التشريعات والقوانين المقيدة لعملية البناء وكيفية التنمية على شواطئه مثل قانون السياحة والطيران المدني لسنة «5791» – «7791» – «2891» – «4891» واشتراطات محافظة القاهرة «9991» والدراسة المتكاملة لوزارة السياحة للعام 5002م ونجد أن النيل في القاهرة اخذ كوحدة متكاملة.
لم تكن القاهرة وحدها التي اهتمت بالواجهات المائية فهنالك من المدن مثل ساروال في ماليزيا 3991م حيث قامت الحكومة بتطوير المنطقة المهملة كمشروع خدمي عام للمدينة وعدم السماح لاية جهة خاصة باستثمار الموقع.
توسعة شارع النيل
انتهى حديث المادح قبل ان تنتهي رحلتنا عبر النيل التي اصطحبنا فيها الاستاذ/ نصر الدين شلقامي الناشط في شؤون البيئة لم يبعد كثيراً عن ما قاله المادح حيث اتفق معه بأن النيل ملك لكل الاجيال لذا التصرف فيه يكون محكوماً بقواعد وقوانين صارمة لاي تصرف على مجراه كعمل دراسة جدوى للمردود البيئي للمشاريع الانمائية حسب قانون البيئة، للعام 0002م من المجلس الاعلى للبيئة ويقول ان واجهات الانهار في كل العالم تكون بعيدة عن حركة السيارات ومتاحة في نفس الوقت للجمهور فوجود جهة مسؤولة مسؤولية مباشرة عن حماية النيل باتت مطلوبة.
وكمحاولة للاهتمام بضفاف النيل وتطويره اعلنت حكومة ولاية الخرطوم بعمل توسعة على شارع النيل في اتجاه مجرى النيل الازرق المطل على القصر الجمهوري بميزانية قدرت بحوالي «531» مليون دولار ولكن ثمة جدلاً وتساؤلات حائرة واتهامات من كل الاتجاهات.
الاستاذ شلقامي قال بانه لم تتم دراسة جدوى بيئية لهذا حسبما علمنا بل انه لم يتم تقديم دراسة لوزارة الري حول جدوى المشروع ولم تتم الاستشارة بصورة علمية وقانونية.
فشلقامي رأى بأن الاولوية لمشاريع تنمية أخرى تفرض نفسها بصورة ملحة كالصحة والمياه والصرف الصحي والتعليم ويقول هذا لا يقلل من حرصنا على تطوير الضفاف.
«531» مليون دولار مبلغ خرافي من اجل جزئية صغيرة من النيل كانت كافية بان تجعل الحديث عن الاولوية امراً ضرورياً.
الاستاذ ياسين حسن بشير الخبير الاقتصادي ابتدر حديثه بتساؤلات حيث قال: من الذي يحدد ان مشروع توسعة شارع النيل له اولوية؟ هل هم موظفو ولاية الخرطوم أم وزارة البنى التحتية؟ أم مواطنو الولاية.. اي معايير استندت إليها البنى التحتية بان هذا المشروع له أولوية، فلا يعني ان توفير التمويل لانشاء محطات جديدة لمياه الشرب أو الصحة بمبلغ «052» مليون دولار و «004» مليون جنيه بانها ستنتفي منها الاولوية وانها أبدية ومستمرة حتى الدول المتقدمة فما بالك بنا نحن الذين نقف في نقطة الصفر في هذه المجالات، اي في مدينة يحصل مواطنوها على موادهم الغذائية من بين مستنقعات الوحل المخلوط بالمواد الغذائية المتعفنة في مكان محاط بفضلات البشر المنتشرة بحرية شارع النيل، في رأيي الشارع ليست به أية اشكالية مرورية تقتضي بالحاح توفير «531» مليون دولار تمويلاً اجنبياً لتوسعته لاقامة اعمدة خرسانية لتوسعة الشارع!
وزارة البني التحتية
ما ان اقر بعمل مشروع حول النيل حتى بدأت المغالطات واحتدم الجدل حول ماهية المشروع لنطرق ابواب وزارة البنى التحتية فحاولنا الحديث مع قائد دفتها المهندس حسن عبد الله فضل المولى وزير البنى التحتية والجهة التي يعنيها المشروع ولكنه اعتذر معللاً بان الحديث عن توسعة شارع النيل تم تناوله بصورة «متخلفة» هكذا اغلق في وجهنا باب الاجوبة للاستفهامات الحائرة!
نقطة الأولويات
إتجهنا بمركبنا قبل أن نلوح بالوداع للمهندس «د. يحيى عبد المجيد» استشاري المياه وزير الري سابق الذي قال: النيل لا يحتمل التضييق ولكن قيام هذا الشارع مهم من ناحية سياحة وقد ينعكس على اقتصاد السودان في منطقة لها اهمية قصوى في العالم وهي الملتقى في الخرطوم.
المشروع في بدايته خرج الحديث عنه على أنه ردم لجزء من مجرى النيل الازرق الذي كان سيؤثر على هذه المنطقة في فترة الفيضانات ولكن تشييد الطريق بالصورة التي طرحت اعمدة خرسانة، لايكون فيها تضييق يذكر لذا يمكن ان يجد النيل براحه في الفيضان.لم ينكر عبد المجيد ضرورة تجميل النيل ولكنه عاد واتفق مع ياسين حول نقطة الاولويات للتنمية فهو يرى ان البلاد تحتاج لتلك التي ذكرها ياسين متسائلاً : هل الاستثمار في تلك البلاد للزراعة ام السياحة؟ والواجهات المائية من المسؤول عنها؟ فتجميل العاصمة يجب أن يكون على طبيعتها فالنيل رغم جماله مهمل.
مهندس يحيى وصف التشييد في هذه المنطقة بأن فيه صعوبة لانه لابد ان يكون في فترة التحاريق.
أخيراً:
توقف مركبنا دون أن يتوقف النيل فانه مازال يجري يحمل تطلعات المادح لجماله وخوف شلقامي على بيئته واولوية ياسين في سكوت الجهات المسؤولة عن ما هو ملح، فهل نستطيع ان نرى جمال المشاريع والعاصمة تطفح في مياه الصرف الصحي وتغرق مع الامطار؟
سلمى سلامة:الراي العام