القرضاوي: من لم يستطع حفظ نفسه وأسرته بالغرب فليرجع
أكد العلامة الدكتور يوسف القرضاوي أن الأقليات المسلمة هم أولى الناس بالتيسر والرخص، وأنهم في حاجة لفقه غير فقه المجتمعات ذات الغالبية المسلمة، موضحًا أن من يعيش في مجتمع غير مسلم يكون في محنة، ويحتاج إلى من يعينه على أداء واجباته، ومن حقه أن نيسر عليه.
وأشاد بدور الصحوة الإسلامية في حماية الأقليات المسلمة من الذوبان، حيث عمقت إحساسها بذاتها وهويتها، وذلك بعدما تلاشت الأجيال الأولى التي هاجرت إلى استراليا وأمريكا اللاتينية، لافتًا إلى أن المسلم في غير بلاد الإسلام يحتاج إلى التعاون مع إخوانه والعمل بشكل جماعي، للحفاظ على هويته، وتدبير الأمور العامة للأقلية المسلمة.
وشدد القرضاوي، خلال حلقة الأمس من برنامج »فقه الحياة« الذي يستضيف العلامة القرضاوي طوال شهر رمضان على قناة »أنا« الفضائية (تردد 12226 أفقي نايل سات) ويقدمه أكرم كساب، على أن زواج المسلم في الغرب من غير المسلمة مقيد بعدة قيود، وهي أن تكون كتابية ومحصنة وألا يكون هناك خطر على نفسه أو ضرر على ذريته، وألا يكون ذلك سببا في بوار المسلمات.
وأوضح أنه لا بأس من مشاركة الأقليات المسلمة في الحياة السياسية من أجل الحفاظ على مصالحهم، ومنع صدور قرارات أو قوانين تمس حرماتهم، بينما يمكن للمسلم أن يعتذر عن عدم الالتحاق بالجيش إذا استشعر في ذلك مخالفة لضميره.
——
** أنتم من العلماء الذين كان لهم اهتمام منذ فترة طويلة بالأقليات المسلمة، ولكم كتب ورسائل في هذا الموضوع، فما المقصود بالأقلية؟
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا، وإمامنا، وأسوتنا، وحبيبنا، ومعلمنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد..
فالأقلية هي تلك الفئة التي تعيش مع أغلبية مخالفة لها، سواء في الدين، أو العرق، أو اللغة، فأحيانًا تكون هناك أغلبية عرقية مثلاً عربية، وأقلية كردية، أو أمازيغية، أو يكون الخلاف في اللغة، أو الدين، مثلاً أغلبية مسلمة والأقلية نصرانية أو العكس، وفي بلادنا العربية الأغلبية مسلمة، وتليها في الغالب أقلية تكون مسيحية.
والأقلية يفترض أن تتعايش مع الأكثرية، سواء كانت هذه الأقلية مسلمة تعيش مع غير المسلمين، أو أقلية غير مسلمة تعيش مع المسلمين، وأنا لي قديمًا كتاب اسمه »غير المسلمين في المجتمع الإسلامي« أو ما يسمونه بلغة الفقه »أهل الذمة« وأنا تركت هذا التعبير؛ لأن كلمة »أهل الذمة« يستاء منها غير المسلمين، وسيدنا عمر حذف ما هو أهم منها، فقد حذف كلمة الجزية، وهي مذكورة في القرآن، وذلك لما شكا إليه عرب بني تغلب، وقالوا نحن نصارى ونحن عرب نأنف من كلمة الجزية، خذ ما تأخذ منا ولو مضاعفًا، ولكن باسم الصدقة أو باسم الزكاة، فرفض في أول الأمر، ثم راجعه بعض الصحابة، فقبل وقال: هؤلاء القوم حمقى رضوا المعنى وأبوا الاسم، فالمقصود من الجزية هو الخضوع لسلطان الدولة، وسلطان أحكام الإسلام المدنية، بغض النظر عن المسمى.
** تقولون إن الأصل بين الأقلية والأكثرية هو التعايش والتسامح، فهل من الممكن أن تكون هذه الأقلية من أصل البلد؟
نعم يمكن أن تكون من أصل البلد، فالأقلية البوسنية في أوربا هي من أصل البلد، وكذلك في الجبل الأسود وبلغاريا، وهناك أيضا الأقلية المسلمة في الهند وهي من كبرى الأقليات في العالم، حوالي مائتي مليون مسلم، هم هنود أصلاً، وكانوا يضمون عناصر أخرى استقلت وكونت دولاً، مثل باكستان وبنجلاديش، وهؤلاء كلهم هنود.
وفي الصين هناك أقليات مسلمة كثيرة تنتمي إلى قوميات عدة، وإن كانوا في الصين لا يحبون تصنيفها تصنيفات إسلامية، ولكن يقول هذه عرقية كذا وكذا، ومنهم الأقلية التي ثارت مشكلتها في الفترة الأخيرة في تركستان الشرقية، فهؤلاء مسلمون أصليون في بلادهم.
تركستان الشرقية
** على ذكر الأقلية المسلمة في »تركستان الشرقية«، هل ترون أن الأمة قامت بواجبها تجاه هذه الأقلية التي قتل منها المئات وسجن الآلاف؟
للأسف أنا أقول لك بكل صراحة: الأمة لم تقم بواجبها ولا بعشر واجبها، ولا بعشر معشار واجبها، حتى أن منظمة المؤتمر الإسلامي، وهي منظمة إسلامية فيها أكثر من خمسين دولة مسلمة، وأمينها العام أخونا الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلو، طلب من وزراء الدول الإسلامية أن يجتمعوا للبحث في هذا الأمر، فمعظمهم رفض، واعتذروا بصيغة فجة وغير مقبولة.
** هل لأنها الصين؟ وهناك حسابات لهذه الدول معها؟
وإذا فرضنا أنها حسابات، فلماذا لا نقول لها: إن هؤلاء إخواننا، ويؤذينا ما يؤذيهم، ويسيئنا ما يسيئهم، وهم منا ونحن منهم، وحين ذلك الصين تحسب لهم حسابًا؛ لأن الصين إما لها استثمارات في كثير من البلاد، ففي السودان لها في البترول، وإما أن بعض البلاد تصدر لها بترول، والبعض الآخر يشتري منهم بالمليارات، فلو أنه هدد بشيء من هذا؛ لكي فقط يعرفون أن هؤلاء يهمون هذه الدول، لكن للأسف كان هناك تبلد وكأن الصلة الإسلامية لا قيمة لها، كأن الله لم يقل: (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وكأن الرسول لم يقل: »المسلم أخو المسلم«، ولم يقل »المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم« واعتبر المسلمين في تعاطفهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد.
** نعود لموضوع الحلقة، كما تعلمون في القرن الماضي بدأت الهجرة من بعض الدول العربية والإسلامية إلى ديار الغرب، واستوطن بعض أهلنا في هذه البلاد، فما حكم هذا الاستيطان؟
عصرنا هذا فرض أوضاعًا لم يكن يحلم بها المسلمون، وأصبحنا نجد الإسلام في كثير من البلاد دون جهد منا، فمثلاً أوربا احتاجت إلى العمالة من البلاد التي من حولها، فذهبت العمالة من شمال إفريقيا إلى فرنسا، وذهبت العمالة من تركيا إلى ألمانيا، وذهبت العمالة من الهند وباكستان وغيرهما إلى إنجلترا، واستقرت هذه العمالة واستوطنت، وأكثرهم أخذ الجنسية، ونشأ أولادهم يحملون جنسية هذه البلاد، ويتعلمون لغتها ويتعلمون في مدارسها، وأصبحوا جزءًا من المجتمع، فكان لابد لهم من فقه غير فقه المسلمين في المجتمعات الأخرى.
وأنا أذكر أنه لما صدر كتابي »غير المسلمين في المجتمع الإسلامي« قابلني أحد الإخوة الهنود، وقال نحن في حاجة إلى كتاب آخر يكمل هذا الكتاب، قلت له وما هو؟ قال: »المسلمون في غير المجتمع الإسلامي«، فنحن نعيش في مجتمع غير إسلامي ولنا مشكلاتنا، ولنا إخوة يعيشون في أوربا وأمريكا ويحتاجون إلى فقه خاص.
وهذا ما تنبه إليه إخواننا في اتحاد المنظمات الإسلامية في أوربا، وهذا أيضا من آثار الصحوة الإسلامية، حيث شعر المسلمون بوجودهم، بينما بعض الأقليات التي نشأت في بلاد غير الإسلام، ذهبت الأجيال الأولى منها وانتهت تمامًا، فمثلاً في أستراليا ذهب أناس من أفغانستان وأنشأوا مساجد رأيتها بعيني، مساجد وليس حولها مسلمون؛ لأن أهلها تزوجوا من الأستراليات، ولم تكن معهم زوجاتهم، ونشأ أبناؤهم على دين أمهاتهم، وضاع هذا الجيل، وهو نفس ما حدث في أمريكا اللاتينية، ففي الأرجنتين الجيل الأول ذهب وانتهى.
لكن مع الصحوة الإسلامية، شعر المسلمون بذاتياتهم، فبدأوا يبحثون عن إنشاء منظمات تمثلهم، وتحفظ هويتهم، مثل اتحاد المنظمات الإسلامية في أوربا، الذي أنشأ بدوره عدة مؤسسات منها: المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث.
حفظ الدين والهوية
** لكن ماذا تقولون في حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: »أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين«، وقوله: »من جامع مشركًا فهو مثله« فهذه الأحاديث بعض العلماء يتعللون بها ويقولون إنه لا يجوز للمسلم أن يقيم في بلد الكفار؟
أولاً هذه الأحاديث غير صحيحة، وثانيا من ناحية تأويلها فإن حديث »أنا بريء« هذا قاله الرسول في مناسبة معينة، حيث إن مسلمًا قتل أثناء القتال؛ لأن المهاجمين من المسلمين ما كانوا يعرفون أنه مسلم؛ لأنه كان يفترض أن يهاجر من هذه الأرض إلى المدينة، فقبل الفتح كان من الواجب على كل من أسلم أن يهاجر إلى المدينة المنورة، والله تعالى يقول: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا)، فهؤلاء الذين بقوا في ديارهم وجاء المسلمون يغزون قومهم، ما الذي يعرفهم أن هؤلاء مسلمون؟ ولذلك فإن براءة النبي هي براءته من ديتهم؛ لأنه لم يهاجر من بلاد الشرك إلى بلاد التوحيد أو دار الإسلام في ذلك الوقت، وقد ألغيت هذه الهجرة بعد الفتح »لا هجرة بعد الفتح«.
فهذا معنى الحديث، ولو كان صحيحًا، فكيف ينتشر الإسلام في العالم؟ إذا كنا نبقى نحن المسلمين في ديارنا لا ندخل بلدًا إلا إذا كان مسلمًا؟ فالهجرة في سبيل الله أمر مهم، ولذلك نقول من كانت له حاجة إلى هذه البلاد فليذهب، فهناك من يذهب ليتعلم، الكثيرون تعلموا في أوربا أو أمريكا، أو للاستشفاء من بعض الأمراض لا يوجد لها علاج إلا في هذه البلاد، أو للعمل، حيث تضيق كثيرًا بعض بلادنا ولا يجد الناس فيها عملاً، والله تعالى يقول: (ومَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) .
وعلى المسلم الذي يذهب إلى هذه البلاد أن يتعاون مع إخوانه حتى يحافظ على هويته، وأنا لي محاضرة قديمة اسمها »واجبات المسلم المغترب« وأجملتها في خمس واجبات: يحافظ على دينه، وينمي حياته الروحية والثقافية والفكرية، ويحافظ على أسرته؛ زوجته وأولاده، ويتعاون مع إخوانه المسلمين من حوله، فـ »كل غريب للغريب نسيبُ«، ولا يستطيع المسلمون أن يؤكدوا وجودهم إلا من خلال عمل جماعي، فكيف يبنون مساجد لعباداتهم، وكيف يبنون مدارس لتعليم أولادهم، ويقيمون أندية لأنشطتهم الاجتماعية والترويحية، ثم هناك واجبه نحو الذين يعيش من حولهم، سواء كانوا أمريكيين أو أوربيين، في أن يدعوهم إلى الإسلام ويعرفهم به من خلال أقواله وأفعاله وسيرته وأسوته، وأخيرًا واجبه نحو الأمة الإسلامية، فهو جزء من الأمة الكبرى وينبغي أن يعنى بقضاياها.
وأذكر أنني قلت للإخوة في تلك الأيام إن من لم يستطع منكم أن يحافظ على نفسه وأسرته، وأولاده، وذراريه، وخاف أن يضيع دينهم، فليبدأ رحلة العودة لبلده من الغد، وأذكر أن أحد الإخوة في القاهرة جاء بعدها بسنتين، وقال: أنا فلان الفلاني، وسمعت محاضرتك في نيوجيرسي حيث قلت لنا إن من لم يستطع المحافظة على دينه فليبدأ رحلة العودة من الغد، وأنا لم أستطع أن أحافظ على أبنائي خصوصًا بناتي، وكدن يضعن مني، فبدأت رحلة العودة وربنا فتح لي هنا.
** البعض يتوهم أن ما يحتاجه هؤلاء الإخوة من الأقليات التي تعيش في الغرب هو مجرد معرفة ما يجب عليه من الوضوء، والصلاة، والزكاة؟
لا، هو يحتاج إلى ما هو أكثر من هذا، يحتاج أن يعرف دينه، خاصة الجانب الأخلاقي والقيمي والتعاوني، وأن يعرف أن عليه دورًا مهمًا جدًّا، وأنه لا ينعزل عن المجتمع، ولا يذوب فيه، ونحن ركزنا على هذه القضية في مجلسنا الأوربي للإفتاء، وقولنا إن على المسلمين هناك أن يحافظوا على أنفسهم، أي: استقامة بلا انغلاق واندماج بلا ذوبان، فلابد أن نندمج في المجتمع ونؤثر فيه كما نتأثر به، وكذلك نظهر لهم أننا أصحاب دعوة وأصحاب رسالة، وهذه معادلة صعبة.
** كيف يستطيع الإنسان أن يوازن بين الاندماج وأن يعطي هذا البلد حق المواطنة؛ لأنه أصبح مواطنًا، وبين أن يحافظ على هويته وعقيدته ودينه؟
هو لوحده لا يقدر، إنما مع إخوانه يقدر من خلال المؤسسات الإسلامية، وأنا في فترة من الفترات كلمت الأخ الحبيب ـ رحمه الله ـ حسان حتحوت وكان أستاذًا جامعيًا في الكويت، وقد ترك الأستاذية وترك البروفيسورية وذهب ليتفرغ للإسلام في أواخر حياته، وسألته: ما نشاطكم يا دكتور حسان؟ قال: نشاطنا الأكبر في بناء المدارس، فالجيل الذي قبلنا كان نشاطه في بناء المساجد، وقد اشترينا مراكز وبعضها كان كنائس، وحولناها إلى مساجد، ونحن نخشى إذا لم نؤسس أبناءنا أن يأتي جيل يبيع المساجد التي أسسها آباؤهم وأجدادهم للنصارى كما اشترينا منهم كنائسهم.
وهذا لا يكون إلا ببناء مدارس، تعلم الإسلام مع التعليم المطلوب للمسلم، فالمسلم الأمريكي يتعلم المواد والمقررات الضرورية في بلاده، ويتعلم معها الإسلام، وبهذا نحافظ على هوية أبنائنا.
مسائل فقهية
** هناك بعض المسائل الفقهية التي تتعلق بالأقليات، فمثلاً لأن إخواننا هناك يعملون في يوم الجمعة، فقد يتعذر عليهم أن يصلوا الجمعة في وقتها، فهل لهم أن يبكروا بها أو أن يؤخروا بها؟
نعم، هناك من المذاهب، وهو مذهب ابن حنبل، من يبكر بالجمعة وهناك من يؤخر الجمعة حتى بعد العصر، ولنا أن نأخذ بهذه الآراء، كذلك في الجمع بين الصلوات أنا أفتيت من قديم إخوة سألوني في أوربا بأنه يجوز أن يجمعوا بدون سفر ولا مطر، وهو ما جاء في الحديث الصحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جمع في المدينة بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، وقالوا لابن عباس راوي الحديث، ماذا أراد بذلك، قال: أراد ألا يحرج أمته، أي أن يرفع عنها الحرج، فإذا كان العشاء بعد الساعة الحادية عشرة، والفجر الساعة الثالثة أو الثانية صباحًا، فمتى ينام ومتى يستيقظ؟ فأفتيتهم في هذه الحالة بأنه يجوز له أن يبكر، ويصلي العشاء مع المغرب، وفي بعض الأحيان يجد أنه أيسر له أن يصلي المغرب مع العشاء، ولو بصفة دائمة؛ لأن هذه ليست كالبلاد المعتدلة التي نزل فيها الوحي وأقيم فيها التشريع الأول، فلابد أن نفتي هؤلاء بالرخص رفعًا للحرج كما قال ابن عباس عن النبي: أراد ألا يحرج أمته.
** هل نبحث لهم دائمًا عن الرخص، فيكون هذا الفقه قائمًا على الرخص فقط؟
نحن لا نبحث دائمًا عن الرخص، ولكن يجب أن يكون في نظرنا وفي مخيلتنا أننا نبحث لجماعة يعيشون أقلية في وسط مجتمع غير مسلم، فالمسلم الذي يعيش في المجتمع المسلم يجد من يعينه على أداء شعائره وواجباته والامتناع عن المحرمات، لكن من يعيش في مجتمع غير ملتزم بالإسلام يكون في محنة، فمن حقه أن نيسر عليه، والتيسير يكون في موضع التيسير، وهذا هو موضع التيسير، وموضع الرخص، إنما تبقى الرخصة أمامي، وأبحث له عن الأحوط، هذا لا يجوز، وأنا أقول إن التيسير مطلوب في كل وقت، ولكن أكثر ما يكون مطلوبًا في عصرنا هذا، لقلة الدين وضعف اليقين، وأكثر ما يكون مطلوبًا بالنسبة للأقليات التي تعيش في مجتمعات غير إسلامية.
المشاركة السياسية
** بعض الإخوة ينأون بأنفسهم عن المشاركة في الحياة السياسية في داخل بلاد الغرب، فهل هم محقون في ذلك؟
لا أوافقهم على هذا، على اعتبار أن في الغرب شيئًا مهمًا اسمه الديمقراطية، والديمقراطية معناها أن الناس هم الذين يصنعون حياتهم السياسية بأيديهم، وهم يختارون الحكام، ويختارون المجالس التشريعية، فمادامت هناك حرية فيستطيع الإنسان أن يدلي بدلوه، أما في البلاد التي لا مجال فيها للحرية فلا أنصح المسلمين أن يشتركوا.
إنما في الغرب توجد الحرية السياسية، والديمقراطية السياسية، ويتاح لأي إنسان أن يشترك في حزب، أو يؤسس حزبًا، أو يكون مع الآخرين كتلة يكون لها تأثيرها، فالأقلية لا تستطيع أن تنشئ حكومة، ولكن تستطيع أن تؤثر في بعض الدوائر الانتخابية؛ حينما يكون المرشحون فيها متقاربين، فإذا جاءت أقلية إسلامية وساندت أحد المرشحين أخذ أغلبية، وهنا يكمن تأثيرها؛ فيخطب ودها المرشحون من الأحزاب المختلفة.
** لكن البعض ربما يقول إن هذه البلاد غير إسلامية، فكيف نشارك أصلاً في الحكم؟
لكننا نعيش فيها، ولنا فيها حقوق، ولنا فيها مطالب، ويهمنا أن يكون لنا مندوبون ممثلون عنا، حتى لا يقر البرلمان قرارات أو قوانين تمس حرمات المسلمين، ولا يوجد من يقول: لا، هذا يضر المسلمين، ويضر الأقلية الإسلامية، ولذا فمن المهم أن يكون هناك صوت يعبر عنا، ثم ما دخل نحن مسلمون وهم غير مسلمين في هذا، فهذه مشاركة سياسية في مصالح بعضها عام للمسلمين وغير المسلمين، وبعضها قد يخص المسلمين وحدهم، فمساجد المسلمين، ومدارسهم وأنديتهم، ربما تمس بسوء إذا لم تجد من يدافع عنها.
** وماذا عن دخول الجيش في هذه الدول، هل يجوز؟
إذا كان دخول الجيش فيه خطر فيمكن أن يعتذر، والمعروف أن هذه البلاد يمكن للإنسان أن يعتذر فيها عن عدم المشاركة في معركة، إذا كان يراها مخالفة لضميره، وهذا حدث في حرب فيتنام وغيرها، فمن حق المسلم أن يعتذر في هذه الحالة.
الزواج بغير مسلمة
** أحيانا لا يجد المسلم في الغرب المسلمة التي تصبو إليها نفسه، فهل له أن يتزوج من يهودية أو نصرانية؟
أنا لي فتوى مفصلة ومطولة من سنين نشرتها في كتابي »فتاوى معاصرة« وقيدت زواج المسلم بغير المسلمة بعدة قيود، فأولاً ينبغي أن يفضل المسلمة باستمرار، وليس فقط المسلمة، بل يفضل المسلمة الملتزمة على غير الملتزمة، لأن هذا أولى وأريح لنفسه ولضميره، ويطمئنه على مصير أولاده.
ثم إن لم تكن مسلمة، فعليه أولا أن يستوثق أنها كتابية، فربما تكون ملحدة وليست نصرانية، فالبعض يكون من أسرة نصرانية وتقول أنا لا أؤمن بأي دين، وبعضهم يقول هذا صراحة، فهذه ليست كتابية، فعلاً أحدهم قال لي لما زرت أمريكا، أنا تزوجت امرأة أحسبها مسيحية ثم ظهر لي أنها بهائية، فهذه لا تدخل في أهل الكتاب، وديانتها غير معتبرة عندنا نحن المسلمين.
** إذن أنتم ترون أنه لا يجوز الزواج من البهائية؟
هي ليست من أهل الكتاب إطلاقًا، والزواج منها لا يجوز لا في الغرب ولا في الشرق.
أما الشرط الثاني فهو أن تكون محصنة؛ لأن القرآن يقول (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ) والإحصان هنا يعني العفاف، أي ألا تكون زانية ولا من أهل الزنا، وإذا حدث هذا منها من قبل فلابد أن يطمئن إنها تابت توبة نصوحًا، ولذلك سيدنا عمر لما تزوج سيدنا حذيفة يهودية، طلب منه أن يطلقها، فقال: أهو حرام يا أمير المؤمنين، قال: ليس حرامًا، ولكن أخشى أن تواقعوا المومسات منهن، ولا تتحروا في شرط الإحصان.
الأمر الثالث: ألا يكون هناك خطر على المرء، أو على ذريته؛ وهذا الذي خشيه سيدنا عمر، لأنه إذا كان المسلمون أقلية في بلد، والمسلمة لا يجوز أن تتزوج إلا بمسلم، فلو فتحنا الباب لكل الشباب أن يتزوجوا غير مسلمات، فمعنى هذا بوار المسلمات، وكساد سوقهن؛ خصوصا أن هذه البلاد لا تبيح تعدد الزوجات، ولذلك بعض المفتين في بعض الأقليات أصدر فتوى بتحريم زواج المسلم من غير المسلمة، وهذا من حقهم.
الشرط الرابع : ألا يكون هناك ضرر على الذرية.
** بمعنى؟
في بلادنا إذا تزوج المسلم من غير المسلمة، فإنها تكون تحت سلطان الأسرة المسلمة، فأبوه مسلم، وأمه مسلمة، وأخته مسلمة، والمجتمع من حولها مسلم، فتتأثر بالإسلام ولا تؤثر، خاصة إن كان زوجها يعاملها معاملة جيدًة، وأهله مسلمين جيدين، وكثير منهم يتحول من المسيحية أو اليهودية إلى الإسلام.
ولكن المشكل حينما تنقل المسألة إلى مجتمع آخر، فالصورة معكوسة، والأسرة غير مسلمة، والمجتمع غير مسلم، واللغة غير لغة الإسلام، والبيئة كلها؛ العادات، والمفاهيم، والتقاليد، غير إسلامية، كيف ينشأ الاولاد، ثم إن الأب مشغول إما بالدراسة، إذا كان طالبًا يدرس دراسات عليا، أو بالتجارة والعمل، الذي يستهلك الإنسان من الصباح إلى المساء، ويعود مكدودًا مهدودًا، أولاده من يربيهم؟ امرأته وأهلها والمجتمع من حوله، فهنا تكون الخطورة، وهنا أقول لا يجوز له أن يتزوج غير مسلمة في هذه الحالة.
الاقتراض بالربا
** تحدثتم من قبل عن جواز الاقتراض من البنوك لبناء بيوت السكنى، ولكن ماذا لو كان هذا الاقتراض لغير بيوت السكنى؟
المجلس الأوربي للإفتاء أفتى بجواز الاقتراض من البنوك لبيوت السكنى؛ لأننا وجدنا فيها فوائد كثيرة، وأجزنا هذا بناء على الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، وبقيود وشروط منها أن يكون المسلم لا يستطيع أن يشتري هذا البيت نقدًا، وأن يكون هو البيت الوحيد الذي له، وليس عنده بيت آخر.
** لكن في غير بيوت السكنى هل يجوز الاقتراض؟
نحن نشدد في هذا إلا إذا وجدت ضرورة أو حاجة، والمفتي ينظر في هذا الأمر إذا شخص سأله عن قضية معينة، ووجد أن هذا الأخ محتاج إلى هذا يفتيه نظرًا لأن الضرورات تبيح المحظورات والحاجات تنزل منزلة الضرورات، خصوصًا إذا عمت، والتيسير مطلوب على المسلمين في هذه البلاد (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ) والإسلام يسع المسلمين في كل البلدان وفي كل الأزمان والحمد لله رب العالمين.
الراي العام