تحقيقات وتقارير

انفصال الجنوب .. الفتنة النائمة

إذا لم تكن الوحدة جاذبة سيكون الانفصال فكلا الخيارين مطروح في الاتفاقية وساد الاعتقاد ضمناً بأن الشمال هو الذي عليه ان يحقق بعض مطلوبات (الجذب) ورغم ان هذا الأمر هو الاكثر اهمية في بنود اتفاقية نيفاشا لارتباطه بحسم صراع دموي استمر لأكثر من نصف قرن أكبر قطر في افريقيا ليصبح (ملطشة) لكل شامت او متسلط او متطلع ، رغم ذلك فإن هذا الامر لم يحط بالآليات المناسبة للتنفيذ من قبل كل الاطراف المعنية في الشمال والجنوب – وكان طبيعياً ومتفقاً مع منطق الاشياء ان نتابع هذه الايام عبر الاعلامين الداخلي والخارجي والتحركات السياسية من قبل نخبة نافذة في قيادات الحركة الشعبية لخط الانفصال وتأطير هذا الأمر الخطير في جدلية صراع طبقي ان يكون المواطن الجنوبي مواطناً من الدرجة الاولى اذا صوت لصالح الانفصال ومن الدرجة الثانية اذا صوت لصالح الوحدة، لا أقول يجب ان ننسى ان هناك حسابات أخرى لا بد ان نراجعها بدقة وحيادية وبروح وطنية متجردة، ان القرارات المصيرية لم تعد شأنا محلياً في عالم العولمة الذي جعل السيادة الوطنية مسألة شبه هشة السياج يمكن ان تخترق من القاصي والداني هذا الواقع شكل زخماً اعلامياً نشطاً متنامياً بفعل بعض القوى الكبرى ومن نافلة القول التأكيد على ان عدم وضوح الرؤية وتعمد طمسها في القضايا المصيرية بهدف تصفية حسابات سياسية مهما كان حظها من الصواب او الخطأ سيفضي بلا شك الى فتنة لا تصيبن الذين ظلموا خاصة وقد حذرنا الله سبحانه وتعالى من مغبة ذلك في القرآن الكريم، ان التاريخ به كثير من الشواهد التي تدل على ان التمادي في لعبة التكتيكات في القضايا ذات الحساسية العالية ينتهي دائماً الى نتائج كارثية خاصة اذا كانت الاهداف الاستراتيجية نفسها تبنى على اوهام وضعف معرفي بحقائق المرحلة والله سبحانه وتعالى يحذرنا (كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون) اذا كان هذا في سياق تجنب الكذب بين الناس في التعاملات الحياتية اليومية فكيف يكون في مصائر الأمم؟
نهدف من وراء هذه الخلفية المطولة ان نقول بأن انفصال الجنوب لم يكن في الاصل مطلباً جنوبياً وان كان الاستعمار البريطاني قد خطط له ورسم ونفذ بسياسات خبيثة نجني ثمارها المرة الآن، هذا وحتى الدكتور قرنق كان يقول حتى أيامه الاخيرة بأن حركته تسعى لقيام سودان جديد علماني التوجه فكراً وفهماً ونظام حكم، ولعل المسألة برمتها في ثوبها الجديد لا تحتاج الى تسليط ضوء عليها فهي تتطلب في هذه المرحلة الاهتمام الامريكي بالشأن السوداني الاهتمام الامريكي فيما يتصل بمصالحهم كما هو معلوم يطرحونه من (شدة التعالي والغطرسة بلا مواربة.. انهم يدعمون الانفصال «وكجزرة» بمليار دولار سنويا«العصا» للشمال ويبدو ان الامر يسير في هذا الاتجاه ولكن سيصيبها الفشل عاجلاً او على المدى الطويل، هنالك حسابات اخرى كما قلت لا نشك بأنها لا تخفى على حكومة الرئيس اوباما او الاخوة الجنوبيين المتحمسين للانفصال. -إن الرؤية التحليلية المحايدة لهذا الامر الخطير بل الاشد خطورة لنا طوال تاريخنا الممتد لأكثر من خمسة آلاف سنة ولدول الجوار وللقارة الافريقية برمتها لا بد ان نأخذ في الاعتبار ثلاثة محاور:
1/ المحور المحلي القومي.
2/ المحور القاري.
3/ محور الصراع الدولي.
ولا بد أن نبدأ بالمحور القارى الذي تكمن في إطاره شرارة الانفجار الكبير للقارة الافريقية برمتها ونبدأ بالقول ان فتنة الصراعات القائمة الآن بدولة ارتريا بتداخل العوامل الجغرافية الطبيعية في تقسيم البلد الى منطقتين متابينتين تماماً- ارض المنخفضات التي تعرف بمنطقة بركة /سيتيت وهي ذات مناخ شبه صحراوي تسكنه قبائل رعوية في اغلبها ذات ثقافة عربية اسلامية يضاف الى هذه المنطقة السهل الساحلي للبحر الاحمر ومعظم سكانها من قومية العفر ذات الاصول الحامية المسلمة وتشكل امتداداً نسبياً مع المنطقة المنخفضة المشار اليها – ثم منطقة المرتفعات وهضبة الاكلوزيا التي يغلب على سكانها عنصر التقراي حامي المسيحية مع وجود بعض عناصر تنتمي للاسلام بعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة الاستعمار الايطالي في البلد فرضت عليه وصاية من الامم المتحدة ليدير شئونها البريطانيون منتدبين من حكومة السودان المستعمرة في ذلك الوقت- وحين جاء وقت تقرير المصير للاريتريين قامت احزاب وطنية وكان من بين الخيارات التي كانت تتبناها الادارة البريطانية ان تضم المنطقة الغربية (القاش سيتيت / بركة) الى السودان وتضم المرتفعات لدولة اثيوبيا وسقط هذا الخيار واضيفت ارتريا بكاملها تحت الحماية الاثيوبية، هزم الجيش الاثيوبي وانفصلت ارتريا عن اثيوبيا بعد استفتاء معروفة تفاصيله، من أهم فعاليات ثورة الشعب الارتري انها وحدته وقفزت به فوق الفوارق الاثنية والعرقية الى حين – والجبهة الشعبية التي تولت زمام السلطة بعد نجاح الثورة ما لبثت ان واجهت قوة منشقة حملت السلاح ورغم انها في كثير من مداخلها في المواجهة كانت قومية المنحى والتوجه يقودها مسلمون ومسيحيون وكل القوميات إلا انها اخذت مؤخراً منحى اسلامياً فكراً ومنهجاً – إلا انها ووجهت بحكومة مركزية فولاذية القبضة على زمام الحكم مما أدى فيما يبدو الى ضعفها وتلاشي نشاطها العسكري وتساءل البعض هل الاستقرار السياسي والأمني الذي تعيشه ارتريا مرهون بشخصية الرئيس أفورقي القوية؟ ام ان الامر يختلف اذا غابت هذه الشخصية المحورية في الدولة الناشئة لأي سبب من الاسباب؟ وما علاقة كل هذا بانفصال جنوب السودان؟
نقول بلا تحوط بأنه يقدم النموذج والحافز للدعوات الانفصالية خاصة في المناخات الملائمة المتحصنة بالتشرذم العرقي والاثني بجانب التفاؤل الجيوبولتيكي وغيرها وما اكثرها في قارتنا المستهدفة.
أما اثيوبيا فقد أكدت موقفها الرافض تماماً لانفصال الجنوب لاسباب موضوعية، فالذي يقرأ كتاب بروفيسور سيمون (SEMON) ومرقريت بر هام المصنفة كاحدى ركائز الامبراطورية البريطانية في عهدها الذهبي وهي بالمناسبة التي تبنت مواصلة دراسة د. مكي عباس في الجامعات البريطانية وقد أصدر كتابه المسألة السودانية (SUDAN QUSTION) الصادر في بداية الخمسينيات، من يقرأ هذا الكتاب للمؤلفين المذكورين مختصر لتاريخ الحبشة
(Ashort History Of Abyssina) الصادر في ثلاثينيات القرن الماضي يخرج بدهشة كبرى ان تظل (الحبشة) كدولة موحدة ورغم انه مضى الآن على صدور هذا الكتاب خمسة وسبعون عاماً حيث جرت مياه كثيرة تحت الجسر كما يقولون ورغم سقوط دولة الامهرة بالاطاحة بقائدها المقدس الامبراطور هيلا سلاسي إلا ان الفوارق العرقية والاثنية ظلت قوية ومتماسكة ومتحكمة في الحراك السياسي الاثيوبي .
هذا البلد العريق والفاعل بتأثير كبير في حركة تاريخ العالم القديم اذ كان يشكل القوة الثالثة بعد دولتي الرومان والفرس وظلت التركيبة السكانية وما زالت تتقدم على العرقية والجهوية المتمثلة في المجموعات الثلاث الرئيسية التقري- الامهرا – القالا ومنهم قومية الارومو وعلى امتداد تاريخ هذه الأمة العريضة ظل الخيط الرفيع الذي يربطها في حزمة القومية المتحدة وهو ان العلاقة الجيوبوليتيكية كانت تقوم على الكونفدرالية القبلية مما أدى الى حروب لا تنتهي مما جعل من رؤساء هذه المجموعات أمراء حرب وقد يسود الاستقرار عندما يتحقق نوع من توازن القوى بين القوميات.
ان اثيوبيا اليوم دولة موحدة رغم وجود النفوذ العرقي الجهوى الممثل في القوميات لهذه الدولة.
إلا ان الدستور الجديد اعطى حق الانفصال للقوميات ويبدو جلياً ان الحلقة المعنية في هذا النسيج السياسي هي قومية الارومو التي حملت السلاح.. مواجهة الدولة لسنين طويلة – ان واقع هذه الصيغة الحضارية لوحدة الدولة الاثيوبية – سيكون مآلها الانهيار والانفجار الدامي مرة أخرى اذا انفصل جنوب السودان ليقدم النموذج المثالي، ومن هنا جاء حرص اثيوبيا الشديد لرفض الانفصال.. واثيوبيا لها حدود تمتد لاكثر من الف كيلو متر مع الجنوب. لقد وضح من الانتخابات الاخيرة انها تبنى مثل كثير من دول الجنوب الافريقي نموذج(WEST MINISTER) الديمقراطية شكلياً وعملياً تحركها دوافع ومؤثرات قبلية فما ان تنتهي الانتخابات حتى يقوم احد الاطراف باحالة الساحة السياسية الى حلبة صراعات وحروب قبلية لا مجال فيها للقضايا القومية وانفصال الجنوب تحت هذه الظاهرة المتباينة التي تغذيها اطماع دول الاستعمار الجديد.
ووسائل اخرى، ستكون نموذجاً وحافزاً مثالياً لانتكاسة الى ما قبل التاريخ وقيام الممالك القبلية .. ثم غرب افريقيا وشمالها والصراعات العرقية والدينية الساخنة التي تحمل دلالات مرعبة ببعث وتنامي الانتماء للعرق او الجهة على آصرة الانتماء القومي او الديني المتسامح وقارتنا السمراء هي الآن الاكثر تأثراً بهذه الظاهرة المدمرة. لقد فشلت الثقافة الفرانكفونية والانجلوفونية لدى النخب المشبعة بثقافتيهما في حسم مسألة الهوية بكل مكوناتها الشاملة، قد يمكن هذا الضعف او الفراغ في الشعور بالانتماء القومي ان يملؤه الانتماء للجهوية والقبلية وقد نرى في مقال يأتي ان الانتماء الديني المتسامح الذي تبنى فيه الشخصية السودانية بخط التربية التي تقدمها الخلاوى خلق سياج قوى ضد العنف الذي يطفو على السطح بسبب التناقض بين الثقافة الوافدة وضبابية الهوية.
قصدنا من وراء كل هذا التطويف ان نؤكد ما هو مؤكد بأن المناخ الآن في هذه القارة مهيئاً لانشطارات خطيرة يعد ويرتب لها استعمار جديد في إطار ما يعرف بالفوضى الخلاقة.. اما على المستوى المحلي فان انفصال الجنوب سيبقى على نزعة الانشطار نار تحت رماد بسبب ثقافة التهميش التي تصدرت ادبيات الحركة الشعبية تغذيها وتعمق آثارها آلة الاعلام الغربي الجهنمية ونسارع ونؤكد بأنه حق اريد به باطل وهذا يفرض على الحكومة المركزية ان تكون قوية وعادلة ومنصفة وحاسمة وديمقراطية، على مستوى القارة هناك واقع جديد يتمثل في ان قيادة القارة النافذة او معظمها لم يعد مسكوناً بموجهات وأفكار ايدولوجية تنطلق من الفكر والمنهج الماركسي اللينيني تسنده المنظومة الاشتراكية واسعة النفوذ في تلك الحقبة تسنده قوتان عظيمتان (الشرقي والغربي)، اما عالم اليوم الذي تتحكم في مصائره الامبراطورية الامريكية صاحبة نظرية الفوضى الخلاقة والعصا والجزرة وسياسة التعالي واساليب رعونة القوة كل هذا أدى الى بروز قيادة افريقية تنطلق من مبدأ افريقيا اولاً وتمضي بخطوات ثابتة في بناء الذات لمواجهة المؤامرة وعدم تكرار مقررات مؤتمر برلين عام 1844م حيث ولد الاستعمار القديم.
ان قيام الاتحاد الافريقي بشكله الجديد وسياساته المعلنة ومواقفه هو تأكيد لمبدأ للوحدة وليس الانشطار وعلمه الرمز ذي الدباجة الخضراء و(53) نجمة هو أهم معلم في طريق وحدة واتحاد القارة وتحت كل هذه العوامل فان انفصال الجنوب لن يجد مناخاً مناسباً لقيام دولة وان وجد قبولاً مؤقتاً، اننا نثق في وطنية اخواننا الجنوبيين وانتمائهم العميق لتراب هذا الوطن الذي كان من بين ما ثبت اركانه متماسكا آباؤنا جميعاً علي عبد اللطيف وألماظ وحضور مؤتمر جوبا 1947م.
ونواصل
والحمد لله رب العالمين

عمر أحمد جعفر
إداري بالمعاش – كسلا

صحيفة الراي العام

‫2 تعليقات

  1. وكعادتنا احنا الشعب السوداني , أنجح شعب في التنظير والفلسفه
    وللأسف أفشل شعب في التطبيق

    يا عمنا عمر أحمد والله آخر حاجه كنت أتوقعها اني حأفكر في كلام المخرف اللي اسمو الترابي مرتين ,, لما قال انو السودان مصيرو حيتقسم لي دويلات صغيره

    و أحسب واحد

  2. مشكلتنا في السودان أن سياسيينا و مفكرينا لم يفهموا عقلية قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان حتى الآن !! ولو تمعنوا جيدا في إسم الحركة ( وهو عنوانها ) لعلموا أن المسألة لا علاقة لها بالحقوق و المراتب الأجتماعية . في فكرهم و منهجهم قناعة بأنهم يخوضون صراع حضارات و عليهم المضي قدما في ذلك حتى ولو كان الثمن سيكون زوال السودان من على وجه الأرض !! دعك من الإنفصال أو التشرذم وألا ما معنى أن يحرر السودان؟؟ !! ومن من و من ماذا يحرر . أن ما تتفوه به الحركة من مسائل التهميش و الظلم ما هو إلا إلهاء للناس لكسب الوقت فقط وأن المسالة لن تنتهي بالأنفصال … بل أن الإنفصال سيكون البداية !!!