منى سلمان

الجديّة الجعليّة

[ALIGN=CENTER]الجديّة الجعليّة[/ALIGN] جاءت (الجدية) للدنيا في ليلة مقمرة، شديدة البرودة من ليالي الشتاء في الشمالية، في واحد من بيوت تلك القرية الوادعة التي تنام متوسدة شط النيل .. نشأت على المحنّة وتربت بفضل نعمة الستر والصبر والعشم في بكرة التي ينعم بها الناس في قريتها ..
تميزت بين رفيقاتها في المدرسة بالتفوق والذكاء، وزاد التفوق من تميزها بين أترابها ونديداتها وسط الأسرة الكبيرة .. كانت (بكر) والديها التي جمعت بين ثلاثية حلاوة الخلقة والأخلاق وبريق التفوق، فحق لجدتها أن تتعوجب بها وتدللها بـ (الجداية الشاطرة في القراية) ..
موقعها المتقدم على بقية أخواتها أتاح لها فرصة المشاركة في رعايتهم وتلبية احتياجاتهم صغارا، والاشراف والمتابعة المباشرة لكل ما يعترض سبيل حياتهم من مشاكل عندما كبروا، وكانت الأقرب إليهم طوال سنين نشأتهم فنالت بذلك القرب نصيب الأسد من احترامهم وتقديرهم قبل محبتهم التي غمرتها وفاضت حنان ومحنّة ..
ولكن لأن دوام الحال من المحال، فقد تغير الحال مع (الجديّة) بين ليلة وضحاها، فبعد أن كان حلم حياتها الالتحاق بالجامعة وقضت سنواتها الدراسية في تفوق وامتياز وهي تحلم بالقدلة بين ردهات جامعة الخرطوم، جاءتها الرياح بما لا يشتهي السفن، عندما توفت والدتها وهي تضع مولودها التاسع والحتالة، كما وعدت الطبيب عندما حذّرها من مغبة الحمل والولادة لمن في سنها، وشاءت الأقدار أن تفي بوعدها بصورة مغايرة فغادرت الدنيا في لحظة دخول مولودها الأخير إليها ..
اضطرتها الظروف لترك المدرسة والبقاء في البيت والعناية باشقائها وحضانة أصغرهم .. مرت السنوات وتعاقبت على (الجديّة) وهي شغل عنها بمسئولياتها الجسام، وتغيرت بمرورها طبيعتها الهادئة الوديعة، وحلت محلها أخرى قوية صلبة هميمة مهمومة بغيرها .. رفضت كل العرسان الذين تقدموا لها خشية من أن تلهيها الحياة الزوجية الخاصة عن واجبها تجاه اشقائها، ولتكون بجانب والدها تآزره في المحن وتتحمل عنه عبء المسئولية، عندما تآمر حزنه على شريكة حياته مع هم (الرباية) وتعبها فأقعده قبل الأوان، في الوقت الذي كان فيه أنداده يزرعون ويقلعون في أمانة الله ..
مرت سنوات العمر سريعا، ورسمت سكين الزمن بقسوة خطوطها على ملامح وجه (الجديّة) الوضيئة، ولم ترحم دواخلها من تلك التغيرات والخطوط، فقد قست (الجديّة) وصارت بحكم مسئولياتها صعبة المراس، حادة الطبع، حارة النفس سريعة الغضب، وزادتها يدها المبسوطة في تصريف شئون أسرتها جبروت ومنعة، فصارت لا ترضى عن من يراجعها أو يناقش لها أمرا، فولّدت سخونة طبعها لها لقبا ردده من حولها بـ (الدس) ثم مع مرور الوقت صار اللقب (علنا) لا تنادى إلا به .. وذلك عندما صار الجميع ينادونها بـ (جديّة الجعليّة) ..
لم تغضب (الجديّة) من لقبها بل اعتبرته وسام شرف على صدرها، يرمز لاستقامتها على صراط الحرارة والحرورية وطريقتها المستقيمة التي لا تتحمل اللف والدوران في معالجة الأمور .. كما أنه لا ينقص من كيل المحبة التى يحملها لها البعيد قبل القريب، فهي لم تقصر برّها على والدها القعيد بل شملت بها كل كبير في القرية، ولم تفرد ثوب أمومتها على اشقائها بل تعدتهم لتغطي به كل مكشوف ظهر وفاقد دليل من أقرانهم في أسرتها الكبيرة ..
قبل مغادرة آخر اخوانها القرية ليلحق بركب الدارسين من أولاد القرية بالخرطوم، تقدم لـ (الجدية) عريس أرمل مقاس (خمسين) من نواحي شندي .. كان كث الشارب موفور العافية قوي البنية عريض المنكبين، لا يعيبه – كما أخبرها من توسط له في الخطبة – سوى أنه يسرع للتفاهم باليد عندما يستفز أو يعجزه المنطق، وذلك من ما لا يعد عيبا مع فيض الرجالة الذي يسري في عروق أهالي تلك المنطقة المتحمشن أهلها ..
كان زواج (الجديّة) فرحة عاشها جميع أهل القرية .. أقيمت الأفراح وأضاء السرور فضاءات القرية فسهرت تغني وتعرض و(تباطن) لمدة أسبوع حتى أقبلت الليلة الكبيرة .. جلست (الجديّة) تغالب الضحك والبكاء وتتجمل بالهدوء والروقة خاصة بعد أن جاء العريس محاطا بأصحابه ويحمل سوطه الطويل، فأفرد له ليجلس بجوارها ..
بدأت الحفلة وصدح الفنان فتقافز الشبان وتسابقوا للعرضة، وهنا تقدم من (الجديّة) ابن واحد من أقربائها، وكان فتا يافعا نحيفا هزيل البنيان .. تقدم ناحية العروسان وهو يبشر ضاحكا، فهب العريس واقفا لملاقاته وبشّر معه (بشرة) واحدة، قبل أن يهوى بسوطه على ظهر الشاب فجأة، تكوم بعدها المسكين على الأرض كـ (الدلقان)، فلم يكن يخطر ببال (الفتى) أن التقدم للعرضة مع العريس، يعني في عرف أهل العريس طلب لـ (البطان) !
انتفضت (الجديّة) يسبقها قلب الأم التي تعرض صغيرها لاعتداء غاشم، والتفتت إلى العريس بكل مافيها من ثورة وغضب وأمسكت بتلاليبه وهزته بعنف حتى طارت طاقيته وسقطت من فوق رأسه، وقالت:
ماحط الولد ده مالك ؟ قدرك وللا لحم سدرك ؟!!
تخريمة:
لم تتسبب غضبة العروس المضرية في فرتقة الزواج، فقد اعجب العريس بتغلب طبع الأم في (الجديّة)، فهذا القلب الحنون هو بالضبط ما كان يبحث عنه ليحتوى صغاره الايتام .

لطائف – صحيفة حكايات
munasalman2@yahoo.com

‫4 تعليقات

  1. اختي المنينه بت عشه ام الرير جد التضحيات موجودة في الوطن الابي من الجنسين نسأل الله بركة هذا الشهر الكريم ان يحفظ هذا الوطن ويجعل الود والمحبة وإلايثار بين افراد المجتمع ولو سمحتي توضيح لكلمة (ماحط) كثير من الشباب لايعرفون معني تلك المفردة

  2. ماحط الولد ده مالك ؟ قدرك وللا لحم سدرك (ضحك لما دموعي جرت) *******انت مصئبة 😎

  3. الغاليه مني تحيه طيبه
    اكثر اهل السودان هم جديه التي تتحدثين عنها من ناحيه التضحيه ، وبالمناسبه لو متابعه البرنامج البتقدمه قناة الشروق ( مع كل الود والتقدير ) حاتلقي في كل حلقه منه جديه

  4. يا المراقب الزول اللي ما بيعرف كلمة (ماحط) فعلا يستاهل يقولو عليه حنكوش وشهادة عربية زي الولد اللي قال لسيد الدكان عندك كمون اسود قال ليه مافي ، رد الولد ولا أي لون تاني ! والبنت اللي مشت لأهلها في القرية صاحباتها سألوها اكتر شئ عجبك في بلدكم قالت ليهم الملاح البيج والموية من فستان الغنماية