تحقيقات وتقارير

حينما كان الترابي حبيساً..اتصال خلف الاسوار


حوالي الساعة الخامسة صباحاً ليوم الثلاثين من يونيو للعام 1989م، توقفت في حي المنشية الراقي بالخرطوم عربة جيب تقل ضابطين بزيهما الرسمي، وعدد من الأفراد تعكس طبائعهم الصارمة إنتماءهم لإحدى الجهات الأمنية، أما وجهتهم فكانت منزل د. حسن عبد الله الترابي زعيم الجبهة الاسلامية القومية ، الكتلة الثالثة في إنتخابات 6891م التعددية.
ولم تك القوة سوى مجموعة صغيرة، ضمن منظومة كبيرة ابتعثها إنقلابيو مجلس قيادة الثورة يونيو لاعتقال قادة البلاد من السياسيين، ولصالح قطع الطريق أمام أي تحرك مضاد داخل القوات المسلحة أو في الشارع على غرار ثورتي أكتوبر وأبريل بإيعاز من رموز الديمقراطية الثالثة.
وعندما أشرقت شمس الجمعة، كانت معظم الوجوه الحزبية وقادة الصف الأول داخل سجن كوبر العتيد بصحبة د. الترابي، مولانا محمد عثمان الميرغني رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي، والأستاذ محمد إبراهيم نقد سكرتير الحزب الشيوعي، بينما جاء رأس الديمقراطية الثالثة الإمام الصادق المهدي رئيس حزب الأمة بعد فترة من الزمن والجهد إضافة لغيرهم من الوجوه المعروفة في مضمار الحكم والمعارضة.
وشكّل وجود الأربعة الكبار، مع بعضهم البعض، داخل زنازين كوبر، حالة من الإرباك بالنسبة للمتتبع العادي، بل وحتى لمحيط السودان الإقليمي والدولي وليصبح السؤال الذي أطلقه الأديب الراحل الطيب صالح -وإن في سياق مختلف- (من أين أتى هؤلاء؟) على كل لسان معبراً عن حالة الحيرة فيمن يقف وراء تحرك جماعة الثلاثين من يونيو.
وبعد فترة من الزمان، ظلت الإنقاذ تنكر أية علاقات تجمعها بالحركة الإسلامية، خرج د. الترابي للملأ ببزته الحقيقية كعراب للإنقاذ، واستبان أن الانقلاب تمت طباخته داخل شورى الحركة الإسلامية وكان من المقرر له تاريخ الثاني والعشرين من يونيو للحيلولة دون تحرك (المايويين) وقتها، وتأجل لغياب العميد عمر حسن البشير في الجنوب.
وعقب انقطاع شعرة معاوية بين الإسلاميين في رمضان العام 1999، ظهرت المقولة الأشهر التي تدمغ الحركة الإسلامية بتدبير انقلاب يونيو وخرجت من فم الترابي »ذهب البشير إلى القصر الجمهوري رئيساً، وذهبت أنا إلى كوبر حبيسا«.
وبعد أن تكشف الحبل السري الذي ربط بين الإسلاميين من جهة وقادة مجلس قيادة الثورة من جهة ثانية كحلف اشترك في القضاء على ديمقراطية 1986م بدعاوى تم قبولها لدى البعض، بينما جابهها آخرون بشدة وصلت حد المناداة بانتفاضة شعبية مدعومة بالسلاح، بعد كل ذلك تبرز الحاجة ملحة لضرورة الإجابة عن تساؤل الكيفية التي كان د. الترابي يتبعها في التواصل مع مجلس قيادة الثورة من قلب محبسه الطوعي في كوبر.
وبعد كثير من العنت، متعلق بإمساك عدد من قادة تلك الفترة عن الكلام للصحف، وتمنع عدد من القادة العسكريين، وقيادات حزبية في المؤتمرين الوطني والشعبي في الخوض بالموضوع لجهة عدم الإلمام، نجحت مرامي الصحيفة في العثور على بعض بصيص من الضوء، ضوء فتح كوته لـ (الرأي العام) د. عبد الرحيم عمر محي الدين القيادي في صفوف الحركة الإسلامية، والمرشح المستقل لانتخابات والي الخرطوم التي تم إجراؤها في إبريل الماضي أما الصفة الأهم التي يحملها محي الدين فتتعلق بأنه صاحب سفر شهير عن الحركة الإسلامية وانقلاب 1989م «الترابي والإنقاذ.. صراع الهوية والهوى».
محي الدين، أكد أن الترابي وقبل أن ييمم وجهه شطر كوبر ولخلق نوع من التعمية والتمويه، ترك وصاياه عند مجموعة تنفيذية محدودة تضم ما بين الخمسة إلى سبعة أعضاء يقودهم نائبه الأستاذ علي عثمان محمد طه لأجل التنسيق بين المجموعتين الحزبية والعسكرية.
وبالرغم من كل ذلك، أوضح محي الدين أن الترابي كان مطلعاً على ما يحدث خارج أسوار السجن، عبر تقارير راتبه تأتيه أثناء زيارات الأعضاء الأصيلين في الحركة الإسلامية، فضلاً عن طريقة ثانية كشف عنها وتتعلق بإرسال رسائل خاصة متعلقة بالأوضاع، داخل دفات كتب كان يطلبها رأس هرم الإسلاميين.
وفي الصدد روى محي الدين أن أحد ضباط السجن – من غير العالمين ببواطن الأمور- أعترض ذات مرة رسالة في طريقها للترابي وطالب بتشديد الرقابة عليه، ما أضطر قادة السجن المتماهين مع فكر الإنقاذ للتعامل معه بحزم للحيلولة دون تكراره لفعلته تلك.
وفي ذات السياق، أكد العميد أمن (م) حسن بيومي أن اتصال الترابي بقادة مجلس الثورة إبان احتجازه، من أبسط الأمور وأيسرها، وقال بيومي لـ (الرأي العام) أن قادة أي انقلاب يلجأون لتسليم مقاليد الأمر للموالين لهم وأضاف: من الطبيعي أن يكون قادة سجن كوبر وقتها من التابعين للمجموعة المنفذة للانقلاب وفي أسوأ التقديرات منصاعين لأوامرها وهو أمر أوضح أنه يمثلّ قناة مباشرة للحوار المتبادل بين الترابي ومجلس ثورة يونيو.
وفي طريق مطروق، أختاره د. معتصم أحمد الحاج مدير معهد محمد عمر بشير للدراسات السودانية بجامعة أم درمان الأهلية بالقول إن زج الترابي في السجن كان مجرد مسرحية لإبعاد الشبهة عن الحركة الإسلامية كطرف محتمل في هدم نصب الديمقراطية القائم في 1989م، وأضاف: الترابي يمثل -فقط- دور المرشد للثورة، ورضي أن يكون بفعل الضغوط كبش فداء للمحركين الفعليين لعجلات الانقلاب، وأبعدوه بصورة عنيفة عن اللعبة عقب مفاصلة الإسلاميين.
وعلى الرغم من التأكيدات والدلائل العديدة التي ساقها المؤرخون لتلك الفترة، وتقول بعلم قادة الأحزاب بأمر إمساك الحركة الإسلامية بخيوط الانقلاب، يبقى اعتقال الترابي من الخطوات الذكية لجهة أنه حقق هدفه في منع وأد الثورة -الانقلاب- الوليدة في مهدها لعلمه بكل خطوات وتحركات زملائه من السجناء السياسيين، كما وشكل حاجز حماية لزعيم الإسلاميين من الردات المحتملة حال فشلت المحاولة الانقلابية، وذلك بغض النظر عن طريقة الاتصال طالما وصلت الحركة لهدفها المنشود .. سدة الحكم.

مقداد خالد
صحيفة الراي العام


تعليق واحد

  1. كىف يمكننا ان نصدق هذا الشخص وفخامة الرئيس بعد كل هذا الكذب على الشعب