تحقيقات وتقارير

نادية .. والدة حبيسي القيود: حبسي.. لعبد المنعم والغزالي..(شفقة) لا (قسوة)


ما أن علمت بخروج (نادية)، والدة (عبد المنعم) و(الغزالي) حبيسي القيود (13) سنة، حتى انطلقت لمنزلها بالثورة الحارة السابعة، في الثالثة من عصر الجمعة، رابع أيام عيد الأضحى المبارك.. طرقت باب المنزل فتناهى لاسماعي صوتها الذي اعرفه تماماً، ولكن هذه المرة ليس كسابقه في المرة الأولى قبل تحرير ولديها، حيث كان وقتها يمتزج بنبرة حادة من التوجس والحذر والعدوانية.. قالت لي: من؟.. قلت: أنا التاج.. قالت: أهلاً.. أهلاً… يا أستاذ.. مرحباً بك، وفتحت الباب مباشرة وصافحتني بابتسامة تعكس سعادتها.. ثم دلفت للداخل..
…..
11232010105946AM1 جلسة ونسة
فوجئت اولاً بتغير شكلها وهيئتها إذ بدت أكثر صحة وعافية، وبشوشة لا تفارق الابتسامة وجهها.. واختفت النظرة المتشككة العدوانية التي استقبلتني بها اول مرة.. تجولت بنظري داخل المنزل وفوجئت أيضاً بنظافته.. شاهدت امرأتين تجلسان أمام الغرفة الشمالية قرب باب المنزل مباشرة، عرفت احداهما، انها الأستاذة (إحسان النصري) جارتها مباشرة – الحيطة بالحيطة – من الناحية الشرقية وهي التي اتصلت بي قبل أكثر من شهر وابلغتني بحبس (عبد المنعم والغزالي) بالسلاسل داخل المنزل لثلاثة عشرة سنة.. أما المرأة الثانية فعرفتني بها نادية قائلة: هذه «سعاد» جارتي من الناحية الغربية.. شاهدت سريراً مفروش بملاءة جديدة، وأمامة تربيزة صغيرة عليها كبابي وثيرمس ويبدو انهن كن في جلسة ونسة مع شرب الشاي، وهناك حفاظة مياه.. رحبت بي نادية بحفاوة لم أكن اتوقعها بعد ان طردتني في المقابلة الأولى بعدائية واضحة ولها العذر وطلبت مني الجلوس فجلست على (بنبر)، فقدمت لي كوب ماء بارد افرغته في جوفي وطلبت منها كوباً آخر قدمته لي وهي تبتسم.. ثم قدمت لي طبق حلوى قائلة.. كل سنة وانت طيب يا استاذ «تاج» قلت لها: وانتي طيبة يا نادية.. وحمد الله على سلامتك ما شاء الله أصبحت بصحة جيدة
لقاء مع نادية
? سألتها: متى خرجت من المستشفى؟
– قبل عيد الأضحى بخمسة أيام.
? كم مكثت بها؟
– شهر وسبعة أيام.
? لاحظت انك سلمت على باسمي فهل تتذكرين أين تقابلنا أول مرة؟
– قالت: أجل سبق ان حضرت لايجار الجزء الغربي من منزلي، إلاّ انك قلت لي بعدها انك صحفي ولا ترغب في ايجار المنزل، بل انقاذ ابنيّ «عبد المنعم والغزالي» وطلبت مني رؤيتهما والاطمئنان عليهما، إلاّ انني رفضت.
? لم ترفضي فقط، بل حاولت منعي بالعكاز وطلبت مني الخروج من المنزل؟
– ضحكت ضحكة طويلة وقالت: آسفة يا أستاذ تاج.. فقد كنت اخشى عليهما فاعذرني.. ولكن من اخبرك بحبس الولدين داخل المنزل.
? حقيقة باغتني نادية بالسؤال، فترددت في الاجابة وألجمني الصمت ونظرت للأستاذة «إحسان النصري» والحمد الله فهمت مغزى نظراتي فانقذتني من الموقف وقالت: بصراحة يا نادية أنا الذي اخبرته رغم انني لا اعرفه من قبل، ولكن قرأت كثيراً من الحالات الانسانية التي يعرضها بصحيفة (الرأي العام) والحمد الله حضر بسرعة لم اتوقعها، وكنت ارغب في مصلحتك وعلاج ولديك.
? قالت نادية وهي تبتسم: انت وكل الجارات لم تقصرن معي، فشكراً لكن.
عبد المنعم والغزالي
? ما رأيك الآن بعد ان نشرت القضية بـ (الرأي العام) وما تبع ذلك من تفاعل الشرطة والجهات الرسمية مع حالتهما ونقلهما الى مستشفى «عبد العال الادريسي« للامراض النفسية والعقلية ببحري (مصحة كوبر سابقاً)؟
– الحمد الله، ما قمت به عملاً انسانياً كبيراً، جعله الله في ميزان حسناتك، فهما يحظيان الآن بعناية صحية وطبية فائقة، واتقدم بالشكر لكل العاملين بالمستشفى للعناية والاهتمام بي وبولدي مما اوصلهما لهذه المرحلة.
? كيف؟
– كانا مثلاً قبل العلاج لا يتفاعلان مع الغير، والآن هما في مرحلة التأهيل وأصبحا يتفاعلا مع العاملين بالمستشفى من اطباء وغيرهم.. خاصة (الغزالي)، حيث أصبح يتكلم ولكن بصعوبة، ويقرأ كتاب الله، ويصلى الصلوات الخمس، وهو تقدم جيد في حالته بعد ان كان صامتاً، شاردا (13) سنة كاملة.. أما شقيقه (عبد المنعم) والذي كان يتحدث كثيراً كلاماً غير مفهوم أصبح الآن افضل حالاً.
? وما هي علتك حسب تشخيص الاطباء بالمستشفى؟
– الاكتئاب.
? ما السبب؟
– بسبب ظروف ولدي الاثنين المرضية.
? لكن بحبسك لهما طيلة ثلاث عشرة سنة تأزمت حالتهما النفسية أكثر فكيف طاوعتك نفسك كأم وامرأة متعلمة خريجة جامعة على فعل ذلك؟
– لا تلوموني على حبسي لهما، فقد كنت خائفة عليهما.
? من أي شيء كنت تخافين عليهما؟
– أنا أم، وقلبي ليس قاسياً اذ فارقنا زوجي – والدهما – عندما كانا يبلغان بضعة شهور ورعيتهما حتى هذا العمر ولن أتخلى عنهما وقدمت لهما كل ما املكه.. فكيف أتخلى عنهما واقسو عليهما.
? ولماذا حبستيهما إذن طيلة ثلاث عشرة سنة مقيدين بالسلاسل داخل المنزل؟
– قيدتهما خوفاً عليهما من الاذى فقد كانا يخرجان من المنزل ويتجولان في الشوارع والأسواق لأيام، وذات مرة ذهب (الغزالي) الى منطقة (اللدية)، وتقع بعد محطة الاقمار الصناعية بابي حراز، مشياً على الاقدام.. أما شقيقه (عبد المنعم) فكان كثير الخروج بغيب أياماً ليعود بعدها للمنزل في حالة يرثى لها، ممزق الثياب وكنت اقضي وقتي كله في البحث عنهما، ولذلك قررت تقييدهما بالسلاسل وحبسهما داخل المنزل خشية اصابتهما بمكروه، كأن تدهسهما سيارة مسرعة فافقدهما الى الأبد.
? عندما دخلت الشرطة أول مرة للمنزل لماذا كنت تصرين وتقاومين نقلهما للمستشفى للعلاج؟
– حقيقة اصابني اليأس من علاجهما سواء بواسطة الاطباء أو الشيوخ بعد ان عرضتهما على عدد منهم دون ان تتحسن حالتهما، كما انني عندما شاهدت الشرطة داخل المنزل علمت انهم سينقلونهما للمصحة، ولذلك قاومت ورفضت؟
– لماذا؟
– كنت أخشى ان يتم علاجهما بالكهرباء؟
? الاتعلمين ان العلاج بالصعقات الكهربائية ممنوع حالياً بأمر الصحة العالمية، فالطب النفسي تطور كثيراً في السودان؟
– لا، لم أكن أعلم بذلك.
? هل انت ناقمة على شخصي وعلى صحيفة (الرأي العام) لنشرها حالة ولديك على المجتمع والدولة؟
– ابتسمت ابتسامة عريضة افصحت عن اجابتها قبل قولها، وقالت: ما قامت به (الرأي العام) لا انكره، وجاء في مصلحتهما، وتسبب في علاجي ورعاية عبد المنعم والغزالي، اللذين يتلقيان عناية واهتماماً كبيرين بالمستشفى لأنني في النهاية ارغب في رؤيتهما بكامل الصحة والعافية.
اخيراً قدمت لي بطاقتين وطلبت مني نشر صور ولديهما عندما كانا طفلين، عبد المنعم كان في العاشرة من العمر، ويدرس بالصف الثالث، والغزالي في التاسعة بالصف الثاني ابتدائي، وهما بطاقتا عضوية صادرتان من فرع الرياضة العسكرية – القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة – منشط الألعاب الفردية، طلبت مني نشر الصورتين بالصحيفة، لتؤكد انها كانت تهتم بولديها منذ الصغر مشيرة انهما كانا في منتهى الاناقة يرتديان الكرافتة حتى اصيبا بالمرض.
صيانة المنزل
الأستاذة (إحسان النصري عبد الله) جارة نادية من الناحية الشرقية والتي ابلغتني بحبسهما قالت: عندما غادرتنا نادية للمستشفى برفقة ولديها ودعناها بالدموع، واصبحنا نزورها كل يوم جمعة بالمستشفى ونجلس معها لساعات.. وعندما خرجت من المستشفى، استقبلناها بدموع الفرح والحفاوة البالغة.. والحمد الله عادت نادية لحالها وصحتها الأولى.. وللحق لولا وقفتك معها ونشر مأساة ولديها بـ (الرأي العام) لظلا حبيسي القيود حتى هذه اللحظة – ونيابة عن كل الجيران وسكان الحارة السابعة الثورة نشكرك أستاذ التاج، ونحن حقيقة عاجزون عن شكرك لوقفتك و(الرأي العام) مع نادية وولديها وكان لاهتمامك وتفاعلك السريع مع الحدث مثار اعجاب واستحسان كل الجيران وسكان الحارة السابعة، فلم يكن احد يتوقع حل هذه القضية التي عمرها ثلاث عشرة سنة، خلال ساعة واحدة فقط وفي نفس يوم نشر التحقيق الصحفي بـ (الرأي العام) وتضيف..
نناشد الدولة وأهل الخير صيانة منزل نادية وتقديم ما يتسر لأنه مصدر دخلهم الوحيد، حتى تؤجر الجزء الغربي منه فبحالته الراهنة لن يؤجره احد.. ولقد قرأنا جميعاً تصريح وزيرة الشؤون الاجتماعية (عفاف أحمد عبد الرحمن) بتكفل الوزارة بعلاج عبد المنعم والغزالي ووالدتهما، بجانب تبرعها بصيانة المنزل، وقد حضر فعلاً احد مهندسي الوزارة وقام بمعاينة المنزل، ورفع تقريره للجهة المختصة بالوزارة بتلجين المنزل، ولذلك ينبغي تشييده او صيانته في اسرع وقت ممكن حتى اذا خرج (عبد المنعم والغزالي) من المستشفى بالسلامة ان شاء الله، يجدانه بحالة جيدة، مما سيؤثر حتماً في استقرار حالتهما النفسية.. كما نناشد الدولة وأهل الخير تدبير وسيلة مناسبة لكسب عيش هذه الأسرة.
أما جارتها من الناحية الغربية، «سعاد الأمين بشير» فقالت وهي ترفع يديها للسماء.. الحمد الله، شكراً لله الذي اعاد إلينا نادية، فبعد خروجها من المستشفى استعانت ببعض العاملات لنظافة المنزل، وهذه أول اشارة لعودة العافية لها، وتأكد لنا انها عادت (نادية الزمان) التي تحب النظام والنظافة.. بعدها قامت بزيارة كل جاراتها واحدة واحدة.. وعقبال ولديها.. وحقيقة كل الحارة في غاية السعادة لعودة نادية، خاصة الجارات فهي بحالة صحية ممتازة وخرجت من حالة الاكتئاب التي لازمتها طويلاً بسبب مرض ولديها.. ونيابة عن جاراتها نتقدم بالشكر لاطباء وشرطيات وكادر مستشفى عبد العال الادريسي ببحري لوقفتهم مع نادية حتى تماثلت للشفاء، وعنايتهم الحالية بولديها والجميع يدعو لهما بالشفاء وعودتهما لمنزلهما قريباً سالمين معافيين ان شاء الله.. كما نشكر معتمد كرري الأستاذ محمد عبد الله لتفاعله السريع مع مأساة الشقيقين وزيارته لهما بالمنزل قبل نقلهما للمستشفى، والشكر الخاص لضباط وافراد ومباحث اقسام أم درمان، وكرري والمهدية لاهتمامهم وتفاعلهم السريع مع القضية التي نشرتها (صحيفة الرأي العام).

حوار وتصوير التاج عثمان


تعليق واحد

  1. نفرح كثيراً عندما نرى الشعب السوداني يعود لاصالته ونفرح كثيراً عندما نرى الدولة تهتم بابناء الشعب السوداني المحتاجين للرعاية والعناية نسال الله جلت قدرته ان يجزى الخير لكل من ساهم في انقاذ هذه الاسرة من الضياع والهلاك