تحقيقات وتقارير

الواضح مافاضح .. علل الخدمة المدنية

[JUSTIFY]كتب عبدالمحمود الكرنكي في «ألوان» عن سفير هرب من سفارته في هولندا بربع مليون دولار في نهاية فترة خدمته ولم يعد إلى السودان حتى اليوم وعن أن ذات الرجل كان قد «لطش» نصف مليون دولار إبّان فترة عمله مستشاراً في سفارة السودان بألمانيا قبل عشر سنوات من ابتعاثه سفيراً إلى هولندا وأن الرجل ظلَّ في وزارة الخارجية بالخرطوم طوال فترة العقوبة هذه لا هو بالمدان ولا هو من تمّت تبرئة ساحته!!
الغريب في الأمر كما قال الكرنكي أن السيد «ع» لم يغادر ويختفي في «سراديب» أوروبا إلا بشهادة بل بتصريح عالي المستوى يوضِّح «حسن سير» السفير وأنه من أنشط السفراء وأن «لكل جواد كبوة» والأدهى والأمرّ أن التصريح قال إن مبلغ ربع مليون دولار «مبلغ غير كبير»!! ولست أدري هل هي تبرئة لساحة السفير أم للوزارة جراء اختياره بعد فعلته الأولى في ألمانيا أو عدم اتخاذ إجراء عقابي بحقه بعد أن أقدم على اختلاسه الأول!!
ذلك السفير أيها الإخوة وعشرات من كبار المسؤولين شاركوا في دورة الفاروق «4» للدفاع الشعبي بالقطينة في يونيو 1992م وكنت ضمن من كانوا في تلك الدورة التي قيل إنها وغيرها هدفت إلى تثوير الخدمة المدنية ولست أدري ما هو «التثوير» الذي حدث للسيد «ع» وعشرات غيره كما لا أدري ما هي الفائدة التي جنيناها من كثير من الدورات التي تنظِّمها إدارة الخدمة الوطنية لطلاب عزة السودان من خريجي المدارس الثانوية التي لا تزال الحكومة تصر عليها وتهدر فيها سنوياً المليارات التي تحتاج إليها للنهوض بالتعليم وغيره من الخدمات؟!
لو كانت منسقية الخدمة الوطنية تكتفي بدورة عزة السودان ولا تلزم الشباب بالخدمة الوطنية «الجد» لكنت من أكبر المساندين لتدريب طلاب الثانوني لكن لا أجد في استمرارها مع وجود الخدمة الوطنية أي مبرر غير انفعال بتجربة «الكديت» التي كان طلاب الخمسينات والستينات يخضعون لها ولا يخضعون لشيء سواها بعد ذلك.
ساقني لهذا الاسترسال والاستطراد قصة صاحبنا السفير الهمام الذي لم يستفد وعدد غيره غير قليل من تلك التجربة في الدفاع الشعبي فقد كنت أقول إن من يذهب إلى الدفاع الشعبي من المجاهدين كانوا يفعلون ذلك اختياراً لا إكراهاً ومن تلقاء أنفسهم ابتغاء التدريب ثم يندفعون إلى ساحات القتال والفداء التي شهدت أعظم الملاحم في تاريخ السودان الحديث وما «الميل40» وصيف العبور وجبل الملح إلا نماذج وضيئة لتلك الملاحم التي سُطِّرت بأحرف من نور.
لو كان ذلك السفير خضع لدورة قلّ فيها الجانب العسكري الذي كان مهيمناً على تلك الدورات وكُثِّف فيها الجانب التربوي والتثقيفي والعِبَادي لربما كانت مُجدية أكثر في كبْح جماح تلك الرغبة العارمة في نهب المال العام وفي معاقرة ملذّات الدنيا في تلك البلاد المتبرِّجة بمفاتنها لكن الوجه العسكري للإنقاذ هو الذي فرض ذلك المنهج على تنفيذيين وسفراء ومحافظين ما كانوا في أعمارهم ومواقفهم تلك في حاجة إلى التدريب العسكري بقدر حاجتهم إلى جرعات من التربية الروحية التي تُعينهم على تحمل أعباء التكليف والوظيفة.
أما الجانب الآخر من المسألة فهو ما يتعلق بالخدمة المدنية التي لم تأخذ من نَمَط الإدارة الغربي الذي أنجز كل هذه الحضارة الحديثة إلا القشور، فربع مليون دولار ليس مبلغًا كبيرًا وكذلك نصف مليون دولار قبله بأكثر من عشر سنوات، أما في أوروبا ذات الموارد الهائلة فإن دولارًا واحدًا يُصرف في غير وجهه يعتبر كبيرًا يستحق العقاب «الأبدي»، ولطالما تجاهلنا مبدأ الثواب والعقاب في خدمتنا المدنية بالرغم من أنه من الأسس العقدية لديننا بل من أركان الإيمان، وهل يتسابق الناس إلى مرضاة الله إلا تجنباً لعقابه وطمعًا في ثوابه؟! تأمَّلوا قول الله تعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وهو من هو «قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ».
هذا يقودنا إلى الثورة الإدارية التي يعمل الوزير النشط كمال عبداللطيف على إنفاذها بحزمة من القوانين واللوائح التي تأخذ بتجارب غيرنا من الدول المتقدِّمة فقد قرأتُ خبراً يقول إن الحصول على زمالة الإدارة العليا سيكون شرطاً للترقي وهذا كلام في مظهره جميل لكن كيف بمخبره؟!
العبرة يا أخي كمال ليست في الزمالة أو الشهادة وإنما في محتوى منهج تلك الزمالة تمامًا كما قلنا ونحن نتحدث عن دورات الدفاع الشعبي لكوادر الخدمة المدنية باعتبار أن السفير ليس محتاجًا لتدريب عسكري بقدر ما هو محتاج إلى تدريب آخر يتّسق مع طبيعة ومتطلبات مهنته.
أقسم بالله إن إحدهم، والشهود موجودون، جاء إلى مكتبي حاملاً ورقة أُدخلت عليَّ أنه طالب «دكتوراه» ويريد أن يستفسر عن وجهة نظري حول قضية معينة واطّلعتُ على رسالته المكتوبة بقلم الحبر والتي لا تتجاوز ستة أو سبعة أسطر فوجدتُ الرجل يخلط بين التاء المربوطة والتاء المفتوحة فصحّحتُ الخطأ ودفعتُ به إليه بدون أن أراه حتى اليوم!!
المنهج أخي كمال هو ما ينبغي أن تضمّه هذه الزمالة ولست أدري من أين تبدأ «صناعة» المنهج؟! ثم يأتي التطبيق.
في دولة الإمارات العربية المتحدة التي كانت ولا تزال تحرص على الدفع بمواطنيها لتقلُّد المناصب العليا خاصة الأمر الذي جعلهم عند إنشاء جامعتهم يتساهلون في القبول عمدوا إلى تجربة التأهيل قبل الانخراط في الدراسة الجامعية بمعنى أن يخضع الطلاب الجدد إلى دورات تأهيلية مكثفة في المواد الأساسية واللغات قبل أن يلتحق الواحد منهم بكليته.
هل كنا نحتاج إلى إخضاع طالب الدكتوراه الذي تحدثتُ عنه إلى تلك الدورة التأهيلية قبل أن يدخل الجامعة وهل نعترف بجامعة تجعل خريجها يخطئ في ما ينبغي أن يكون قد تعلمه في السنوات الثلاث الأولى من مرحلة الأساس؟!
في دولة الإمارات العربية المتحدة التي ذكرتها قبل قليل كان مديرو بلديات إماراتها الثلاث الكبرى، أبوظبي، ودبي والشارقة، من السودانيين ومدير البلدية كان هو بمثابة رئيس الوزراء من حيث السلطات والمسؤوليات الإدارية، والسودانيون في الخليج كانوا، وربما لايزال كثير منهم، يحتلون مواقع متقدمة في شتى المرافق ويحظون بالاحترام بينما تعجُّ حتى مكاتبنا الحكومية ناهيك عن المنازل والقطاع الخاص بالفراشين والشغالات والعمال الأجانب في وقت يعاني فيه ملايين السودانيين من البطالة!!
أين تكمن العلة؟! إنها باختصار في النظام الإداري السائد!!
لماذا قفزت جنوب إفريقيا أيام كان يحكمها المستعمِرون البيض وتطورت، ولماذا تردَّت روديسيا «زيمبابوي» بعد أن جثم مواطنها موغابي على أنفاسها ولماذا ولماذا ولماذا؟!
لماذا أعيت علة احتقار الوقت عند السودانيين الطبيب المداوي، ولماذا عجزنا عن استئصال ثقافة «ضل الضحى بطوِّل العمر»؟! وكيف أثَّر سلوكُنا الاجتماعي في تردِّي خدمتنا المدنية؟!
إن معالجة هذه الآفات تُعتبر هي المحك الأخطر والأهم هذا علاوة على التشريعات وأذكر أنني نصحت سلفا كير حيث لا دولة أن يبدأ بإرساء أسس الدولة من خلال الاستعانة بوكلاء وزارات أجانب يضعون أسس الخدمة المدنية ويبدو أننا لسنا بعيدين عن الانتصاح بما نصحنا به سلفا كير!! وليتنا نمتلك من الجرأة ما يجعلنا نُقدِم على الاستعانة إلى حين بالأجانب في المواقع العليا بدون أن نستحي أو نخجل أو نجبُن عن اتخاذ القرار.
وهل نهضتْ دبي وغيرها إلا بهذا النَمَط من التفكير؟!
[/JUSTIFY]

زفرات حري – الطيب مصطفى – الانتباهة

‫2 تعليقات

  1. هذا الكلام حقيقه وحقيقه مره ولاكن لابده من العلاج ودليل علي حسن الاداره الاجنبيه مجموعة شركات اسامه داود