مشوار في حياة امرأة سودانية (1/5): زكية مكي عثمان أزرق
النشأة :
نشأت في أسرة متوسطة الحال ، عريقة الأصل ، أهلها أهل دين وكرم. وأسرتي مكونة من والدتي وعمتي أم إخوتي وجدتي وعماتي وأشقائي التسعة عشر ، تسع بنات وعشرة أولاد ، نشـأنا مترابطين متحابين في ود وتعاون وصداقة ، فمنا الأديب والشاعر والفيلسوف الساخر والسياسي المحنك. كانت لنا جمعيات أدبية وفنية ورياضية وجمعية تمثيل ، نمثل بعض الروايات الهادفة والهزلية في الأمسيات ، ولنا جرائد حائط ومجلة ثقافية تصدر شهرياً لازالت باقية. يشاركنا هذه النشاطات بعض الطلبة الوافدين من الأقاليم ، والذين يعولهم والدي ، ولهم سكن خاص في المنزل ، ندَّخر بعض الملاليم من نثريات الفطور لشراء الورق والأقلام وما نحتاج إليه لتمويل جمعياتنا. وعندما يقيم الوالد احتفالاً بفوز فريق الهلال الذي كان يرأسه حينذاك ، وهو أحد مؤسسيه فقد كنا نساهم معه في شراء الثلج تشجيعاً لهم ومشاركة لفريق الهلال في أفراحه .
تربينا على حب الرياضة من الوالد ، وعرف الأخ صديق بمهارته في لعب كرة القدم ، فسموه في الحي “كراع جان”. لنا صلات طيبة بجيراننا الذين هم من أسر كريمة ، أسرة المرحوم إسماعيل الأزهري والشيخ عبد الماجد أبوبلل والشيخ الرفاعي ومولانا القاضي عبد الرحمن الضرير وغيرهم.
العلم والتعليم :
كان الوالد رحمه الله مكي عثمان أزرق يحب العلم والتعليم فلم توقف التقاليد خروجنا عن البنات إلى المدرسة حيث كان تعليم البنات أمراً غير مستحب في ذلك الوقت .
دخلت روضة كلية المعلمات بأم درمان وعمري لم يتجاوز الخامسة ، وحظيت بحب معلماتي وزميلاتي وكنت أعرف بينهن بـ “بنت الأفندي” لأن والدي كان يلبس البدلة والطربوش حسب تفاليد الوظيفة ، بالرغم من أنها وظيفة محاسب في قطاع خاص .
انتقلت إلى المدرسة المتوسطة “أم درمان الوسطى الحكومية” أول مدرسة بنات متوسطة في السودان ، أُفتتحت عام 1940م في مباني معهد تدريب المعلمين الأوسط الحالي. جمعت هذه المدرسة بنات الأسر المعروفة في أم درمان وأخريات حضرن من الأرياف والمدن القريبة من العاصمة ويسكنَّ الداخلية .
كانت الدراسة متنوعة ، فندرس اللغتين العربية والإنجليزية والتربية الإسلامية والرياضيات والعلوم والمواد الاجتماعية والاقتصاد المنزلي والحياكة ، ونمارس بعض الأنشطة الرياضية كالجنباز والروندز بعد الظهر لأن التلميذات الخارجيات يتناولن وجبات الفطور والغداء في الداخلية ثم يرحلن بسيارات المدرسة إلى منازلهن في المساء .
تتكون وجبات الفطور من الفول المصري والجبنة أو العدس والسلطة وأحياناً الأرز وأكواب لبن. والغداء يتكون من الطبيخ والسلطة وموزتين أو برتقالة للتحلية ، ومصاريف الدراسة ستة جنيهات في العام للتلميذة الخارجية وثمانية جنيهات للتلميذة الداخلية .
المعلمون :
تضم أسرة التدريس خيرة المعلمين ، فالأستاذ الجليل الشيخ أحمد إبراهيم أستاذ التربية الإسلامية واللغة العربية والأستاذة نفيسة عوض الكريم التي تدرس المواد النسوية وتشرف على الداخليات ، وهناك معلمات مصريات لتدريس العلوم والرياضيات والمواد الاجتماعية ، ومعلمات بريطانيات يدرِّسْنَ اللغة الإنجليزية والفنون . تعلمنا في المدرسة المتوسطة كل أنواع الحياكة من تطريز وتفصيل وأعمال يدوية ومن الاقتصاد المنزلي ، درسنا طرق الغسل للملابس القطنية والحرير والصوفية وغسل أواني الفضة والنحاس وخلافه ، وأجدنا فنون الطبخ وعمل الحلوى والكيك والمخللات والأصناف الأخرى المختلفة ، كانت لنا علاقة طيبة بمعلماتنا نشكو لهن ونطرح مشاكلنا لهن دون حرج .
الإجازة جات يا ابتدائيات مرح بيها
المتلمذين حلاتهن الاثنين في الخياطة
نقيم مع معلمات من المناظرات والندوات والتمثيليات ، ويشاركننا في المناسبات الأسرية .
واصلتُ الدراسة في مدرسة الاتحاد العليا الثانوية Unity High School لكن المدرسة الإنجليزية التي تضم كل الجاليات الموجودة في الخرطوم وهي عبارة عن هيئة أمم تضم السودانية والمصرية والسورية والأرمنية واليونانية واللبنانية والإنجليزية والهندية وحتى اليهودية . وكانت اللغة المفروضة علينا هي اللغة الإنجليزية للتفاهم والتجاوب بين التلميذات وأسرة التدريس ، وقد ساعدنا في اللغة والتجاوب زميلات لنا سبقننا في الدراسة في هذه المؤسسة العامرة وهن السيدة فاطمة طالب ، والدكتورة خالدة زاهر ، والدكتور نزوري سركسيان ، والأستاذان إنجيل عزيز وإنجيل إسحق ، ومارجريت فانوس “أمنا هيلانة” ، وبفضل الزمالة ورفيقات الدراسة وباجتهادنا تفوقنا وتجلت مواهبنا ، فشاركنا في كل الأنشطة الثقافية والعلمية والرياضية كالتنس والسباحة وكرة السلة والكرة الطائرة ، واشتركنا في جمعيات الفنون والموسيقى والتمثيل والكشافة . أما مهرجانات المدرسة فنحن القائمات بأمرها ، وكان لنشيد فتاة الوطن الذي ألفه الشاعر صديق مدثر ولحنه الفنان أحمد المصطفى صدىً واسعاً داخل وخارج المدرسة :
يا فتاة الوطن يا خير البلاد
أنيري الوطن بنور الرشاد
وفي جمعية الفنون اشتركت في كثير من المسابقات الفنية ، منها مناسبة “على ضفاف النيل” وعلى الصحراء في مجال الطالبة المصرية وفزت بالجائزة الأولي والثانية .
عندما التحقنا بالمدرسـة واجهتنا مشكلة الترحيل من أم درمان إلى الخرطوم ، ومعظم الطالبات يسكنَّ البقعة المباركة ، فتكرمت مديرة التعليم البريطانية “المس كلارك” بتوفير عربة حكومية لترحيلنا من وإلى المدرسة . ومن الطرائف أن سميت هذه العربة “عربة الرأي العجيب” بسبب مقال كتبته الأستاذة نفيسة عوض الكريم لمحاربة الخفاض الفرعوني ، فعلق عليه أحد الكتاب في الصحف بأن “هذا رأي عجيب” .
ثم تحولت وزميلاتي إلى ركوب الترام بعد غياب “الرأي العجيب” ، وعملنا أبونيهات في الدرجة الخصوصي ، ولم نخلو من معاكسات المشاغبين فغيَّرنا إلى البصات الحكومية ثم إلى عربة والدي التي تتعارض مواعيدنا مع عمله ، فتكرمت زميلتنا فوزية أبوالعلا بترحيلنا في سيارتها الخاصة التي كان يقودها من وقت لآخر الفنان أحمد المصطفى ، فساهم في ترحيلنا من وإلى المدرسة حتى إلى النشاطات المدرسية المتعددة .ونواصل..
مدخل للخروج:
أنا لا أبكيك اللحظة يا أماّه.. فالله اختارك بين ضلوعي أن تأتيه على يمناه.. واختار دموعي فيك محيطاً يروي الكوثر عذب مياه.. لو أختزل بحار العالم فيك دموعاً ستجف بحار العالم قبل دموعي
في لحظة آه….
معز البحرين
عكس الريح
moizbakhiet@yahoo.com
الا رحم الله السيدة زكية مكى رحمة واسعة وجعل البركة فى ذريتها واحسن اليها بقدر مااعطت. هى وشقيقاتها وزميلاتها من رائدات لحركة انسوية. ونشكر إبنها معز لتفضله بنشر مذكراتها لجمهور متصفحىموقع النيلين الالكترونى. واظن ذلك مكسب للموقع وللمهتمات بالحركة النسوية وتاريخها كركيزة صلبة بنت عليها النساء السودانيات فى العمل العام السياسى والطوعى والعمل فى الفضاء المدنى بصورة عامةالعديد من البرامجوالمناشط. لها الرحمةولابنها الشكر والعرفان.