تحقيقات وتقارير

رباح الصادق المهدي : يا زمان هل من عودة .. هل؟

بينما توجه حجاج بيت الله إلى داره مغبطين وتركونا بقيدنا موجعين وفيهم الأستاذ أزهري الطريفي المحامي والناشط الحقوقي، وفي يوم الوقوف بعرفة وصلنا خبر وفاة والده العم الحبيب الطريفي عوض الكريم متأخرا، وكان خبرا مفجعا لعلاقة صداقة ومودة تربطنا بهذه الأسرة، وملح وملاح، وكذلك لما يمثله جيل عمنا الطريفي في ذاكرة هذه الأمة.
كان أول عهدنا بالعم الطريفي في منتصف عام 1986م، حينما طرأت برأس إشراقة ابنته فكرة أن تسوق مجموعتنا كلها، وكنا مجموعة من الصديقات الطالبات بكلية الهندسة جامعة الخرطوم، لنقضي فترة من الإجازة الرمضانية في منزلهم بـ(تفتيش عبد الحكم) في مشروع الجزيرة، حيث كان والدها مفتشا بالمشروع في (عبد الحكم). وقضينا هناك أسبوعين رائعين لا أذكر الآن منهما إلا أطلال تلك الروعة والانطباع عن العم الطريفي والخالة آمنة (أم المصباح) المضيافين وابنهما الخلوق أزهري الذي كان يصر مازحا أنه طالما هو الولد الوحيد بين سبع بنات فهو المصباح المقصود.
كان تفتيش عبد الحكم حينها في أيام ازدهاره والأشجار الوارفة ومنزل المفتش الرحيب وحقول المحاصيل الممتدة، ولشد ما انقبضنا لصور شاهدناها مثبتة في الفضاء السايبري لتفتيش عبد الحكم مؤخرا حيث صار قاعا صفصفا. وإذا جئت تعرف عما لحق بالمشروع الذي كان عظم ظهر اقتصاد بلادنا، فستتزاحم عليك الأهوال، بدءا من تصفية كل ممتلكات المشروع وبيوت المفتشين والسكة الحديد والمكاتب، مرورا بانطمار الترع والقنوات وانهيار كل بنية المشروع التحتية، وأخيرا الضيم البالغ في عملية تعويض الملاك، بحيث كان المبلغ المدفوع كتعويض عن النخلة للقرى التي انطمرت بسد مروي في الشمال تقيّم بما يساوي حوالي سبع مرات الفدان الواحد لملاك مشروع الجزيرة مع أن تعويض الفدان يحتوي على قسمين: التعويض عن استخدام الأرض لثلاثة عقود من الزمان لم يكن الإيجار يدفع فيها، وثمن الفدان الذي سوف يقتلع من الملاك. الضيم الواقع على الملاك سار به الركبان، ورفضوا كلهم قانون المشروع لسنة 2005م، ورفضوا تقديرات التعويضات إلا قلة قليلة جدا فضلت أن تصرف النقود المقررة في يأس وجزع وعوز لتلك الملاليم، ولسخرية (الإدارة) حتى أولئك الراضين بتبخيس أشيائهم قوبلوا بصلف ولم يعطوا الثمن البخس ذاته!
ولكن الاختلاف المريع عن ذلك الزمان أننا حينما تذكرنا الطريقة التي قادتنا فيها إشراقة إلى بيتهم في ذلك الزمان ظهر لنا ليس فقط كرم البيوت السودانية الأصيل وبابها المفتوح على المجتمع، فإشراقة كانت واحدة من بنات سبع ?ما شاء الله- لكل منهن صديقاتها وعلاقاتها إضافة لأزهري وصداقاته الممتدة، وكان بيت العم الطريفي بمثابة (كبانية) تلتقي فيها كل تلك الجموع. بل الاختلاف الأبلغ في مدى سماحة ذلك الزمان، وحسن الظن في الشباب، وانفتاح الأسر السودانية على بعضها بدون ريبة. فقد كنا ثماني صديقات من مختلف جهات السودان وقبائله.. ولم تسبق لنا معرفة ولا لأسرنا إلا في رحاب جامعة الخرطوم، وحينما جاءت فكرة الرحلة لم تتوقف أسرة واحدة في منع بنتها من السفر إلى عبد الحكم والبقاء كل تلك الفترة بعيدا عن أعينها مع أننا كنا فتيات دون العشرين، وأذكر أن الخالة فاطمة ذو النون والدة صديقتنا أريج جعفر بخيت قالت لي في محضر من الصديقات إنها كانت ترفض فكرة سفر (أريج) مع أسرة لا تعرفها ولكنها اطمأنت لوجودي في المعية ولهذا السبب سمحت لها لأنها تعلم أسرتي وتعلم أنها لن تدعني أسافر إلا مع أسرة مضمونة. وكان ما قالته الخالة فاطمة صادما لنا جميعا حينها لأن الفكرة لم تتطرق لرأس أية أسرة أخرى من أسرنا، ولا أذكر أن والدي حفظه الله ولا والدتي رحمها الله سألا عن أصل وفصل صديقتي التي سوف نذهب معها، كان كافيا لهما ضمانتي الشخصية لأذهب لعبد الحكم، وكدت أقول لخالتي فاطمة: إن أسرتي لا تعرف أسرة إشراقة ولا سألت عنها، ولكني صمت تقديرا لأن الخالة فاطمة حالة استثنائية وكلنا نعرف تشدداتها وآراءها الصارمة، فهي مثلا تحرم الجبن مظنة أن حبوب التجبن مأخوذة من الخنزير، فقسنا حديثها عن تحريم الذهاب مع غير (الأسر المعروفة) على تحريم أكل الجبنة، وصمتنا!
ولكن للأسف، كلنا الآن مدفوعون للتفكير مثلما فكرت الخالة فاطمة يومها. فمن يضمن في مجتمعنا الحالي جماعة من الشابات في عمر المراهقة، بعيدا عن أسرهن كل تلك الفترة؟ والمجتمع الذي صارت الطفلات فيه غير آمنات من الاغتصاب داخل أسر ذويهن كما تتكرر الفواجع منذ (مرام ما جات) ولا يزال العرض مستمرا، والذي يذبح فيه الطالب الجامعي صديقه، والطالبة معلمتها، وتشيع فيه قصص يشيب لها الولدان، لم يعد مكانا لمثل تلك المسادير البهية. سألت نفسي: هل يمكن أن أسمح لابنتي اليوم بما سمح لي به والداي الأمس فاتركها تذهب في رحلة نصف شهرية مع صديقات لا أعرف من هن إلى مشروع الجزيرة؟ وكانت الإجابة القاطعة: لا.. هذا ليس مثل ذلك الزمان.. ثم لم يعد هناك كما كان: مشروع جزيرة!
وحينما بلغ العم الطريفي سن المعاش في التسعينيات حضر واستقر في الخرطوم، بمدينة الفيحاء ببحري الحاج يوسف، فكان من أوائل القاطنين هناك، وصار عمدة في المنطقة، لأنه نقل زهو ذلك الزمان معه، وظل ابنه وبناته وصهاراتهم وصداقاتهم يسبكون حول داره بالفيحاء طعما نخشى أنه إلى انقراض.
حينما جاءنا خبر رحيل العم الطريفي بكينا كرمه وبشاشته وأريحيته، وبكينا ذلك الزمان الذي كان فيه العم الطريفي بدرا في تفتيش عبد الحكم، فما عاد هناك عبد الحكم.. ولا العم الطريفي، ألا رحمه الله وأحسن نزله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وأحسن عزاء الخالة آمنة وأزهري وإشراقة وأخواتها وأصهارهم وعلى رأسهم دكتور عبد الله علي إبراهيم، الذي جاء صهرا لاحقا ولكنه صار فردا مهما في نسيج بيت العم الطريفي يلقبونه بـ (عمي الدكتور).
لقد ذهب (مشروع الجزيرة)، وذهب ألق مجتمعنا فداء لـ(لمشروع الحضاري) فكانت ثمار الأخير بئيسة، وثمار الماضي ألذ وأشهى.
ولا أقول أحسن الله عزاء أهل السودان في ذلك الزمان المقبور، بل، يا زمان هل من عودة.. هل؟
وليبق ما بيننا
64201110236PMrabah رباح الصادق المهدي
صحيفة الراي العام

‫3 تعليقات

  1. السلام عليكم
    تعازينا للاخت اشراقه والاخ خالد ولكل الاسره اللهم ارحمه واغفر له واعف عنه وعافه واكرم نزله واغسله بالماء والثلج والبرد،اللهم ثبته عند السؤال واعنه على الاجابه اللهم ابدله دارا خيرا من داره وارحمه برحمتك يا ارحم الراحمين واجعله فى الفردوس الاعلى آمين.
    نعم اخت رباح ما ذكرتيه كله صحيحا عن هذه الاسره الفاضله بارك الله فيهم وفى ذريتهم وما زلت اذكر دعوة المهندسه اشراقه لكل الاخوات بالامين الهندسيه والكرم والاحترام الذى احفونا به.

  2. رباح يا بنت الحبيب الإمام لقد اثرت فينا كوامن الشجن وذكرتينا بزمان انقضى ولن يأت0

  3. [SIZE=5]ربنا يرحم الفقيد ويدخله فسيح جناته هذا واجب العزاء والاسلام — لكن هنالك الكثير من شعب هذا الوطن مات بل الناس تزبح في الخراف ومهيصه هنالك من مات من اجلنا لماذا لا نسمع تضحيات الجيش تضحيات الابطال فقط تلميع الاشخاص فلان ود علان ثم ثانيا انت منو ولا بنت المهدي خلاص ارحمونا وشوفو ليكم تكيه لو كنت مسؤول بهذا البلد انا لو ما عملت حوش لكل الساسة ديل ما اكون مسؤول واخصص ذرة للعصيده والفته ونخلص العجبوا فبها الماعاجبوا عندنا دواه فقعتم مرارتنا [/SIZE]