أ.د. معز عمر بخيت
أزمة ثقافة أزمة وطن: ثقافة البحث العلمي
البحث العلمي لدينا يقف بكل أسف بعيداً جداً عما يفترض أن يكون عليه، خاصة وأن الأمة العربية والإسلامية هي من قادت التقدم والحضارة في مجالات العلوم المختلفة كالطب ووظائف الأعضاء والرياضيات والجبر والطيران وعلوم ونظم الري والأدب والفكر. كل ذلك عبر بحوث وضعت لها الأسس واللبنات الأولى. وللقارئ الكريم أن يتصور أن ميزانية البحث العلمي في دولة مثل إسرائيل تفوق بسبع عشرة مرة ميزانية البحث العلمي في كل الوطن العربي، وهي بذلك ستظل متفوقة علينا أكاديمياً وعلمياً وعسكرياً وفي كل المجالات طالما عرفت قيمة البحث العلمي ودوره في تطور الأمم.
نحن قوم نفتقد الصبر ونستعجل النتائج ولا ننظر للمستقبل البعيد، لذلك نأخذ السهل باستهلاك ما يبتدعه الآخرون، والبحث العلمي يحتاج إلى المال والصبر وبعد النظر وطالما ظللنا مستهلكين فلن نحقق أي طفرة أو تميز.
والباحث والأكاديمي في بلادنا لا زال في بداية الطريق، والذي لديه الرغبة والطموح يصطدم بالواقع المرير من عدم رصد أي ميزانية مقدرة أو دعم أو تشجيع. حتى الباحث تجده يعامل اقتصادياً واجتماعياً بلا تقدير يستحقه. وكل نتائج الأبحاث تستخدم فقط لمواضيع إدارية كالترقيات لا أكثر، فليست هناك مؤسسات لدعم البحث العلمي ومراكز للأبحاث ولا ميزانيات وليست هناك إستراتيجيات ذات رؤية ورسالة واضحة وأهداف وخطة عمل وخريطة طريق ترسم مستقبل البحث العلمي في بلادنا برغم وجود مسميات لإدارات ووزارات لا يمكننا مقارنة ميزانياتها بميزانية الأمن والدفاع!!
إذن، فثقافة البحث العلمي مفقودة ولتحقيقيها يجب أن نضعها منذ مراحل الدراسة الأولية ونشجيع التلاميذ على البحث والمنهجية العلمية، وكل ذلك في إطار خطة إستراتيجية من قبل الدولة ومؤسساتها الأكاديمية العلمية تتبنى منهج البحث العلمي وتنفذه. ثم لا بد من رصد ميزانيات معتبرة لتنفيذ خطط البحث العلمي وتقدير الباحثين مادياً وأكاديمياً واجتماعياً.
إذا نظرنا لجزء من العالم المتقدم فعلى سبيل المثال كنت أعمل في جامعة كارولينسكا الطبية بالسويد وهي التي تمنح جائزة نوبل في الطب والفسيولوجي، وأقيمت بها أعظم الاكتشافات الطبية والعلمية في مجالات الصحة والعلوم والتقنية الحيوية. ولكم أن تتخيلوا قبل عشر سنوات كانت ميزانيتها السنوية للبحث العلمي فقط 10 بلايين دولار، وجامعاتنا ترصد أقل من 10 آلاف دولار للبحث العلمي في الجامعة الواحدة، هذا إذا كان هناك ما ترصده أصلاً، لذلك تجد الفرق شاسعاً بين خريج تلك الجامعات ونتاج بحثها العلمي وبين خريج جامعاتنا ونتاج بحثها العلمي. هناك يرتبط البحث بالأكاديميا وبالصناعة وبالخدمات بينما يرتبط البحث العلمي لدينا بالترقيات ونيل الشهادات التي تنتهي بالأرفف والمخازن.
للأسف مؤسساتنا الأكاديمية والعلمية ما زالت بعيدة عن المستويات العالمية، لذلك لا نجد أياً منها ضمن أحسن خمسمائة جامعة عالمية بينما توجد جامعة واحدة في الوطن العربي مدرجة في هذا التصنيف برغم حداثتها مقارنة بجامعاتنا العريقة وهي جامعة الملك فهد للبترول، وحديثاً دخلت أمامها جامعة الملك سعود ثم جامعة أم القرى وجامعة الملك عبد العزيز وجميعها جامعات نشأت حديثاً تجعلنا نقف بالتحية والاحترام للمملكة العربية السعودية التي أصبحت رائدة العلم في عالمنا العربي والإسلامي، بينما جامعات عريقة وأصيلة مثل جامعة الخرطوم وجامعة القاهرة الأم لا أعلم أين مواقعها الآن.
أنا أسعد وأتشرف بأن إحدى جامعاتنا في الوطن العربي، التي أنتمي إليها، بدأت تهتم بهذا البحث العلمي وتأخذ التوجه نحوه بعزيمة وتقدير وترصد له على الأقل ميزانية خاصة وتدعم نتائجه كذلك. فمن خلال هذا الدعم تمكنا في الأشهر القليلة الماضية في القسم الذي أعمل به من نشر العديد من الأوراق العلمية في مجلات طبية عالمية وقد تواصل البحث في مجال العلاقة الجزيئية بين الجهازين المناعي والعصبي حيث تم الكشف سابقاً عن المورثة التي تربط جهاز المناعة بالجهاز العصبي وعن المركب البروتيني الذي تنتجه والذي تم تعريفه بـإسراء. الوصول لهذا المركب الفعال قد يسهم في علاج أمراض المناعة المكتسبة والأمراض السرطانية حيث أنه مركب يعمل بطريقة فسيولوجية لتنشيط جهاز المناعة، كما أن إنتاج مضادات له يساعد في علاج أمراض المناعة الذاتية ويساعد في الحالات التي تستدعي تثبيطاً مؤقتاً لجهاز المناعة مثل عمليات نقل الأعضاء. وخلال الأشهر القليلة الماضية تم التوصل إلى المورثة البشرية المقابلة لإسراء وسوف تبدأ الآن التجارب لتحليل البروتين الفعال الذي تنتجه وتأثيره البيولوجي على الخلايا البشرية.
هذه متعة لا تضاهيها متعة أن تدلف لهذا النوع من العطاء الإنساني وتعتز وتفتخر به ولو أن حكامنا والله عرفوا قيمته ومذاقه لتركوا سلطاتهم وثرواتهم وجبروتهم ونازعونا عليه وتركوا مقاليد الحكم وهجروا زينة الحياة الدنيا.
مدخل للخروج:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ . وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)
صدق الله العظيم
معز البحرين
عكس الريح
moizbakhiet@yahoo.com
جزاك الله خيرا يا بروف فالمشكلة عندنا اصبحت عدم ضمير بمعنى العدم الحقيقي وللاسف بكل المستويات .نسال الله الهداية والصواب