تحقيقات وتقارير

نقـد .. ورحل أستاذ الحكمة

السابعة والنصف مساء أمس تواطأ نقد مع حميد في رسم خريطة فارغة لسودان مكلوم، تواطآ على إخلاء الحياة من كل الجمال، أو ربما هو نوع من توارد الخواطر بين سيد الكلمة (حميد) وأستاذ الحكمة (نقد)، في وضع سؤال كل الاجابات عليه خاطئة، رغم أنه مكشوف.. الخرطوم أم (المدن النائمة) لم تنتظر (خطى العمال أو أصوات الفلاحين)، فأيقظها رحيل الحكيم الصامت محمد ابراهيم نقد دون ضجيج.. الخطوات مترنحة مذهولة من هول الفجيعة وربما من عبقرية سيناريو الألم الذي يستهدف الخرطوم.. آهات مشروخة تمزق سكون الغروب بحقيقة تبعث النشيد من بؤرة الصمت، فالجسد المسجي كذب كل همسات الاستبعاد برنين الهواتف عابرة القارات بحثاً عن تكذيب.. لتبقى فقط الأمانة التي لخّصها رحيل نقد في (أحملوني حتى لا أسقط سهواً من ذاكرة التاريخ).
رحل نقد.. وضباب عاصمة أخرى يحتضن الجسد العفيف، رافضاً أن يمنح الخرطوم شرف لحظاته الأخيرة، تاركاً أرضها بعده ترفل في الفراغ.. كمال الجزولي (زميل) الفقيد أخرج الحروف من بين شفتيه المرتجفتين وبريق عينيه يحكي مقاومته المستميتة لدمعة شاردة كاشفاً اللحظات الأخيرة في حياة نقد قائلاً لـ (الرأي العام) (كل كلمات العزاء لا تفي الفقد الجلل، رغم أنه أعدنا لرحيله، إذ عانى من العلة زمناً طويلاً، حتى بعد ذهابه الى لندن لم تكن الأخبار مبشرة، حيث اتهم بأنه مصاب بورم في الدماغ وأبدى الأطباء أسفهم لعدم إمكانية التدخل الجراحي بسبب عدم جدواه في شاكلة هذا النوع من الأورام، التي لا يوجد لها علاج ناجع ونهائي، كما أن الدواء ليست له فاعلية، وإنما هناك بعض الأدوية التي لا يمكن التقليل من مضاعفاتها)، وأضاف (لم تعد هناك حاجة لبقائه ببريطانيا، وتقررت عودته للخرطوم، وبالفعل تم الحجزعلى أن يعود اليوم الجمعة، ولكن حالته ساءت بصورة كبيرة يوم الثلاثاء، ودخل في غيبوبة أُعيد على إثرها إلى المستشفى، وهو فاقداً للوعي تماماً إلى أن توفاه الله عند الساعة السابعة والنصف بتوقيت السودان، الرابعة والنصف بتوقيت غرينيتش).
فراغ الحكمة..
إجماع لا ينكره إلا مكابر على حكمة الفقيد المستمدة من التفكير العميق، حكمة يحتاجها السودان في أسوأ مراحله التاريخية ومنعطفاته الحساسة، فقده خصم من الرصيد الوطني الحريص على أجندة وطن لا حزب، ما يشكل فراغاً وصفه كمال بـ (الكبير)، وقال (نقد عبر دائماً من داخل الحزب الشيوعي بالأفكار النيرة رافداً الحزب بقدر وإسهام كبير في إيجاد الحلول وأزمات الأمة، وبالطبع سيفتقد الحزب الشيوعي كما ستفتقد الأمة والبلاد هذه الحكمة وهذه القدرة على اجتراح الحلول للمشكلات، إذ كان ينظر دائماً بموضوعية عميقة للأزمات، ولم يكن سريع الانفعال، أو ذاتي النظرة، وإنما ينظر بسعة أفق ولا أقول ان حكمته لا تتوافر لدى الكثيرين).
رحلة سوداني
كثيرون حرصوا على توثيق سيرته وآخرون تغزلوا فيها، لكن الجميع أجمعوا على احترامها المستمد من شخصه العفيف.. نقد تحدث عن نفسه وقال للأستاذ صلاح حبيب ذات حوار معرفاً نفسه ونشأته (محمد ابراهيم نقد دنقلاوي، ولدت في 1930م، نزحنا من الشمالية واستقرينا في القطينة بالنيل الأبيض وارتبطت أسرتي بالثورة المهدية بمعنى أهلي أنصار). وقال رحلته في التعليم (درست أولاً الخلوة بالقطينة وحلفا، وحفظت القرآن حتى جزء تبارك، وأنا قارئ جيد للقرآن ولو استمعت إلى قراءتي بتلاوة عوض عمر فإن لم تكن مسلماً لدخلت الإسلام، درست الأولية بالقطينة وأكملتها بحلفا، ومن ثم التحقت بالمرحلة الوسطى بحلفا، ومنها انتقلت إلى المرحلة الثانوية بحنتوب ثم كلية الخرطوم الجامعية كلية الآداب أكملت فيها السنة الثانية، ثم اعتقلت وأودعت السجن كأول طالب يسجن، وأنا داخل السجن تسلمت خطاب فصلي من الكلية وأنا بالسنة الثانية).
الخروج والعودة
بعد اعتقاله اتجه نقد إلى القاهرة ومنها سافر إلى براغ وتجول في عدد من الدول الاشتراكية بودابست.. المجر ووارسو، ليلتحق بإحدى الجامعات ببلغاريا، حيث درس الفلسفة وتخرج في العام 1958م ليعود للسودان، مؤكداً أن التاريخ اذا عاد به للوراء سيدرس الآداب والتاريخ والجغرافيا.
ليتم اعتقاله عقب العودة بشهر واحد بانقلاب عبود.. وأكد نقد تاريخ التحاقه بالحزب الشيوعي السوداني 1949م، بعد أن جنده الحاج سليمان وبعض الطلبة بمصر، ليعمل متفرغاً للعمل التنظيمي ومسؤولاً عن العمل التنظيمي لفترة ثم العمل السياسي.. كاشفاً عن سبب التحاقه في قناعته ببرنامج الحزب في التغيير الاجتماعي والتضامن مع الشعوب وحل مشكلة الأقليات والقوميات والاستقلال، وقال في ذات الحوار(البرنامج لم تطرحه الأحزاب السياسية التقليدية لذلك جاء انتمائي بناءً على هذا البرنامج). ويحكي نقد كيفية اعتلائه منصب السكرتير العام للشيوعي بقوله (كنت باللجنة المركزية للحزب والمكتب السياسي، وبعد الإعدامات التي حدثت لعبد الخالق محجوب والشفيع اجتمعت اللجنة المركزية وقررت أن أكون سكرتيراً للحزب الشيوعي).
حياة تحت الأرض
نقد عاش ردحاً من تجربته الطويلة الممتدة تحت الأرض، بسبب استهدافه من قبل الأنظمة المناهضة للحزب الشيوعي، إلا أنه برغم سيناريو(التأمين والاختفاء) الأسطوري حوله، تعاطاه ببساطته المعهودة وقال (تحت الأرض هذه لا تمنع من أن أمارس حياتي، فمثلاً أنا أسكن في منزل به عدد من الغرف، فواحدة منها أمارس حياتي، كما كنت أخرج بالليل وأشارك في الاجتماعات، وأجري المقابلات وأسافر إلى بعض مدن السودان، فالوصف الرمزي للكلمة مسيطر أكثر من الواقع)، مؤكداً عدم قدرة كل الأنظمة تلك على اكتشافه، سارداً خروجه ابان حكم النميري لحضور اليوبيل الفضي لحنتوب بعد ضمانات قدّمها نائب نميري أبو القاسم محمد إبراهيم وقال (وقتها كان يشغل منصب وزير الداخلية، ولكن يوم الاحتفال حاول شرطي اعتقالي، إلا أن أحد الضباط أكد له أن عفواً قد شملني بالمشاركة في الاحتفال دون التعرض لاعتقالي).
لم يمارس نقد طبقاً للحوار لعبة كرة القدم، إلا مُجبراً، كاشفاً عن تشجيعه للاتحاد مدني، في المجال الفني أكد استماعه لحسن عطية بالعود وحقيبة الفن. ويحكي نقد عن لحظات الحزن وقال (حزنت لاستشهاد عبد الخالق محجوب والشفيع وهاشم العطا، فلم نبكِ عليهم إلا بعد سنتين نظراً لانشغالنا بإجراء الترتيبات الخاصة بالحزب).
المطبخ في رحلة نقد
سكرتير عام الحزب الشيوعي كشف عن دخوله للمطبخ كثيراً، وقال في حواره مع صلاح حبيب (كثيراً ما أدخل المطبخ وكنت أعمل أكلي بمفردي، فالمفروكة من الأكلات المحبّبة بالنسبة لي وكذلك الشية عندما يكون اللحم ضأنا والسلطة كويسة).
السياسة ونقد
أبرز محطاته، سياسياً انتخابه عضواً بالبرلمان عن دوائر الخريجين في العام 1965م مرشحاً عن الحزب الشيوعي. ولم يكمل الدورة نسبةً لصدور قرار حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان، اختفى لمباشرة مهام العمل السياسي السري بعد الإطاحة بالنظام الديمقراطي في 17 نوفمبر 1968م واعتقل لمدة عام، في العام 1971م أصبح سكرتيراً عاماً للحزب الشيوعي السوداني عقب اغتيال عبد الخالق محجوب، ثم اختفى من نظام مايو حتى انتفاضة أبريل 1985م، ليخرج في كنف الديمقراطية منتخباً كعضو بالبرلمان عن الحزب الشيوعي السودانى العام 1986م، مباشراً مهام العمل النيابي والسياسي حتى يونيو 1989م، استمر نقد مختفياً معظم حقبة الانقاذ الى أن قررت اللجنة المركزية خروجه العام 2005م، مستمراً في مهامه وأعبائه السياسية حتى انعقاد المؤتمر العام الخامس للحزب الشيوعي السوداني في يناير 2009م ليتم انتخابه سكرتيراً سياسياً للحزب الشيوعي. أنتج العديد من المؤلفات أبرزها قضايا الديمقراطية في السودان وحوار حول النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية وعلاقات الأرض في السودان (هوامش على وثائق تمليك الأرض) وعلاقات الرق في ا???تمع السوداني وحوار حول الدولة المدنية.
يعز فقده ويصعب نعيه
(برغم هذه التهيئة شق علينا نعيه)، عبارة قال بها لي كمال الجزولي، باحثاً عن مفردات ربما يسعفه في نعي رفيق النضال، وبعد أن أعيته المفردة أقر قائلاً (رحيله يشق على نفسي، ليس فقط كشيوعي، بل كقائد وقدوة، كمفكر عاصرته وعاشرته عن قرب وأعرف كيف تتفجر عبقريته في أوضاع تحتاج فيها الأدمغة عادةً لوقت طويل. الراحل كان وقّاد الذهن يشع بالذكاء، وهذا ديدنه طوال عمره), وأضاف (لم أقف عند حدود اعتبار نقد قائدي أو قدوتي على المستوى السياسي والفكري فقط، بل صديقاً عزيزاً، ولم تتوقف علاقتي به حتى في أحلك الظروف التي مر بها، وكنت أشاهده صبوراً جلداً قوياً على المصائب وعلى النازلات، وكان يفعل كل ذلك ببساطة وتواضع، وهذا هو نقد دائماً البساطة والتواضع والعبقرية الوقّادة الفذة، وللمرء أن يتساءل كيف تجتمع كل هذه الصفات والأوصاف في شخص إنسان محب للأدب وهو أديب بطبعه، وفنان بطبعه ذو صوت جميل، يحفظ الشعر والغناء، وشديد الحنان لسنوات الصبا بالذات في حنتوب، وكثير التذكر لأصدقائه وزملائه في المدرسة الثانوية، وفي حلفا إذ درس الأولية ويعرف أشخاصاً كثيرين جداً بحلفا ويذكرهم دائماً بالخير.. يعز فقده ويصعب نعيه).
ربما شريط من الآلام والذكريات استحضرتها ذاكرة الجزولي، للكثير من المغادرين الراحلين (كالنخل هامة) فاروق كدودة وفاروق زكريا وعابدين صديق والتيجاني الطيب ووردي وحميد ونقد، لتنعكس الآلام في وجهه والتعب في تقاسيمه وهو يقول لا نقول إلا ما يرضي الله (إنا لله وإنا إليه راجعون)، ولكن لابد أن نذكر أن العذابات التي عانى منها نقد ووردي بالذات، كما وأن المشقة التي عاناها حمّيد التي جعلته كثير الأسفار الى الشمال نوري والخرطوم، كل هذا يزيد من احتمالات المصائب والنازلات من بينها هذا الرحيل الفاجع لهؤلاء الأفذاذ).
صحيفة الراي العام
الخرطوم: عمرو شعبان

تعليق واحد

  1. اللهم ارحم له واغفر له واجزه بقدر عمله .. هنا لن اتناول الرجل من شخصه الخاص فيعلم به الله والان الرجل بين يدي الله نسأله التخفيف ..
    الا انه هناك سؤال محير ، من اين اكتسب نقد انه شخصية وطنية ..؟؟ ماذا قدم للسودان ؟؟
    نقد كان سكرتير الحزب الشيوعي وتاريخ الحزب معروف .. انه اكثر حزب سوداني سعى للسلطة والحكم الانفرادي الشمولي .. نعم تتبع7وا التاريخ ..
    والحزب الشيوعي كان هو السبب ان تفقد البلاد الحكم الديمقراطي الى الابد بقيام انقلاب 25 مايو 1969 والكل يعرف انه كان انقلابا شويعيا صرفا .. ولكن حين تبدل الحال وحاول المرحوم نميري التصالح مع الاحزاب او الكيانات الاخرى انقلبو عليه بانقلاب يوليو الفاشل برئاسة الرائد هاشم العطا.. ماذا يعني هذا الرجل يسعى للم الشمل والاحزاب ينقبلون عليه .. ومحاولة قتله .ز
    ثانيا المرحوم نقد مكث اكثر مناربعين سنة مختفي عن الانظار بحجة انه مطلوب وعاد كل اقطاب الاحزاب والساسة القدامى واثر هو التخفي اذن من اين اكتسب الوطنية ماذا قدم للاجيال او للشعب السوداني ..
    والحزب الشيوعي ككل من يقول لي ان له شهداء في ساحة النضال الوطني من اجل الوطن ومحاربة العدو وليس محاربة المواطن نفسه ..
    على اتباع هذا الحزب ونقد وغيره ان يراجعوا انفسهم في مسميات قادتهم فلا هم وطنيون ولا هم من قدم للسودان شيء ي5فتخر به