تحقيقات وتقارير

مفارقات في الأجور وتجاوزات في العقودات وهياكل غير معتمدة

[JUSTIFY] خلل كبير وواضح في الخدمة المدنية العامة ادى الى تشوه هيكلها العام بسبب المفارقات الكبيرة في اجور موظفي الدولة، الذي يؤدي بالتالي الى فوارق في المعاشات مستقبلاً.. جملة من الاسباب كانت وراء ذلك الاختلاف. وعلى الرغم من وجود قوانين لضبط الخدمة المدنية، الا ان هنالك قوانين استحدثت لاستثناء بعض الهيئات والمؤسسات والافراد من خلال قوانين ولوائح، وحتى هذه المؤسسات بها خروقات واضحة في الهيكل الراتبي والعقودات التي يتم توقيعها مع الخبراء الذين يمكن الاستعاضة عنهم بموظفين داخل الهيكل الراتبي للدولة، أو تأهيلهم من خلال التدريب لسد الحاجة، ولكن تجاوزات تلك العقود كانت لاسباب الترضية والمجاملات التي تحسب على من هم داخل هيكل التدرج الوظيفي.
ووفقا للاتجاه التقشفي للحكومة نحو تصحيح الاخطاء الاقتصادية، أصدر رئيس الجمهورية عمر البشير، قراراً بإنهاء خدمة أربعة وخمسين من الخبراء الوطنيين والمتعاقدين، في إطار إعادة هيكلة الدولة، وفقاً لبرنامج التقشف وتخفيض الإنفاق الحكومي وترشيد الموارد الذي أقرته الحكومة، وأوضح أن الإعفاء اقتضته ضرورات تكيف أجهزة الحكم مع مقتضيات الإصلاح الاقتصادي الشامل في البلاد، ووفقاً لما صدر من المركز السوداني للخدمات الصحفية فإن وزير الدولة بمجلس الوزراء احمد فضل قد وصف الخطوة بالمهمة، وقال إنها تتسق مع اجراءات وسياسات هيكلة الحكومة والإدارة، وقال إن قرار الرئيس بإنهاء خدمة الخبراء الوطنيين اقتضته الضرورات والتي وصفها بأنها مرحلية.

وبين واقع الخدمة المدنية واتجاه الدولة الى تعديلات الخلل، كانت لنا سياحة سابقة في تاريخ هيكل الخدمة المدنية في السودان منذ الاستقلال، مع الحديث عن التطورات التي حدثت إلى مرحلة الخلل الذي اصابها والمعالجة التي ستسهم في اعادتها للعافية، فاتصلنا هاتفيا بالخبير الاقتصادي الدكتور أحمد الشريف عثمان الذي قال لنا إن هياكل الاجور في السودان منذ الاستقلال كانت موحدة، في جميع مسمياتها، وكان هذا التوحيد يشمل هياكل الخدمة العامة وهياكل الاجور والمعاشات بشقيها المدني والعسكري.. وكانت الدرجات الوظيفية تبدأ من الدرجة الاولى درجة وكيل وزارة وتنتهي بالدرجة الخامسة عشرة، وفي المقابل لها في هيكل الخدمة العسكرية ووفق التدرج نزولاً من رتبة فريق وحتى الرتبة الخامسة عشرة جندي، ونجد ان رتبة الجندي تقابلها الرتبة الخامسة عشرة في الخدمة المدنية، واستمر هذا الهيكل بهذا النظام تقريباً حتى قيام الانتفاضة، وكان هنالك التزام بهذا الهيكل بدون استثناء الا في حدود العلاوات في بنك السودان وبعض الجهات ذات الطبيعة الفنية «منها جامعة الخرطوم»، وحتى هذه الجهات كانت لا تأخذ اكثر من علاوتين لا تتجاوز خمسة جنيهات بفارق بسيط جداً.

ولكن بالنظر الى ما عليه حال الخدمة المدنية الحالية، نجد ان بيان «وزير العمل السابق» مطلع 2011م قد ابان ما عليه الحال حين اوضح ان هنالك «22» وزارة وهيئة وجهازاً ومؤسسة تم استثناؤهم مما عليه قوانين الخدمة، وان لهم قوانين ولوائح خاصة بهم داخل القوانين بعيدة عن قانون الخدمة المدنية والمعاشات ومحاسبة العاملين وهياكل الاجور، ومن هذه الهيئات والمؤسسات المستثناة من قانون الخدمة «بنك السودان، هيئة الموانئ البحرية، هيئة الطيران المدني، الهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس، وزارة النفط ووزارة الكهرباء والسدود» علي سبيل المثال، ونجد انه حتى بيان المراجع العام تحدث عن ان هناك جهات حكومية ممنوعة من الدخول في المراجعة العامة للدولة، وهذه نقطة خطيرة يجب الوقوف عندها، لأن هذه المؤسسات قامت بتفصيل وتحديد اجورها من الداخل، ومنهم السلطات العدلية. ونجد ان لهم هياكل اجور منفصلة عن هياكل اجور الخدمة المدنية يصل فيها الفرق الى حوالى عشرة اضعاف او «15» ضعف مرتب موظف الخدمة المدنية، فاذا كان موظف الخدمة المدنية يصل راتبه الى 500 جنيه، نجد ان مرتب الموظف في الهيئة الحكومية ما بين خمسة آلاف او سبعة آلاف جنيه، وبالتالي هذا يحدث فوارق شاسعة في المعاشات والمكافآت، كما نجد أن هناك فوارق في مرتبات القوات النظامية وتختلف عن الخدمة المدنية، حيث اصبحت لها هياكل خاصة بها خرجت من هياكل الخدمة، وحصلت «الخرمجة» داخل الخدمة المدنية. ويضيف الشريف: في السابق وقبل حوالى ثلاث سنوات كانت اعلى درجة في القطاع الخاص المدى الاول راتبها حوالى مليون ونص المليون «بالقديم»، وكان هناك وكلاء وزارات يتقاضون بدلات تصل الى حوالى ستة ملايين ونصف المليون، والفارق بينهم وبين الموظفين زملائهم في الدرجة الوظيفية الموحدة التي كانوا فيها قبل أن يتم اختيار احدهم وكيلاً للوزارة يتجاوز فرق الراتب الشهري بخمسة اضعاف، بعد أن اضيفت لها الدرجة السياسية، ولكن أخيراًً فإن رئيس الجمهورية صرح باعادة النظر ووالرجوع بالتدرج للهيكل القديم للخدمة، وذات المصير الذي يعانيه الموظفون في الفوارق يكون في المعاشات، فالمعاشيون وكلاء الوزارات يكون هناك فرق بين ما يتقاضونه من معاش، فهناك من يتقاضى ثلاثة آلاف جنيه معاشاً شهرياً مقابل آخر يتقاضي «350» جنيهاً.

وينسب الشريف على حد قوله لـ «الصحافة» فترة التشوهات في هياكل الاجور للخدمة العامة بشقيها العامة والعسكرية والأجهزة العدلية الى ما قبل عشرين عاماً، وقال: اذا ما رجعنا بالتاريخ الى منتصف عهد مايو نجد ان اعلى مرتب في السنة كان اربعة آلاف ومئتي جنيه لمحافظ مشروع الجزيرة، وهو الحالة الاستثنائة الوحيدة وقتها، وكان له هيكل خاص وقانون خاص وفوائد ما بعد الخدمة، ولكن المحزن حالياً ان هناك نواباً ووكلاء في بعض الوزارات رواتبهم تقارب او تساوي رواتب «سواقين ومراسلات» في الجهات المستثناة من الهيئات الحكومية، وفي اعتقادي ان المعالجة تكون بالرجوع الى هيكل الاجور والمعاشات الموحد لجميع العاملين في الخدمة العامة والخدمة المدنية والعسكرية والاجهزة العدلية، وتحت اشراف ديوان شؤون الخدمة وصندوق المعاشات كما كان في الماضي، وتدريجياً يمكن ترفيع المظلومين حتى يقاربوا في رواتبهم زملاءهم في الخدمة العامة، الى ان تزول الفوارق في المرتبات والمعاشات، فهناك فوارق مخجلة جدا اذا ما علمنا ان هناك من يتقاضى «250» جنيهاً في الخدمة المدنية وزميله في القوات النظامية او في السلطة العدلية يتقاضى 10 الى 20 ضعف مرتبه في ذات الدرجة، وتحدث الفوارق في الاستبدالات.

ويذهب الشريف إلى أن هنالك لجنة تم تشكيلها في هيئة المستشارين بوزارة مجلس الوزراء لدراسة الفوارق في المعاشات برئاسة الدكتور الكندي يوسف قبل حوالى اربعة اشهر، وقدمت تقريرها بتوصيات محددة تمت إجازتها باجماع كبير بقاعة الشهيد الزبير محمد صالح للمؤتمرات.
وفي حديثه عن التعاقدات والمخالفات التي تحدث في الخدمة العامة قال دكتور الشريف: في الاصل استحدثت العقودات لاعادة الكفاءات السودانية من الخارج، خاصة في التخصصات النادرة من اختصاصيين واستشاريين وأطباء في بعض التخصصات غير المتوفرة، وبعض التخصصات الاخرى من اقتصاديين وفنيين وغيرهم. ولكن حدث سوء استغلال لذلك، واصبحت توظف للإعاشة فقط، حيث نجد أن هناك شخصاً تم إعفاؤه من منصب دستوري يتم تعيينه خبيراً وطنياً.
وختم حديثه قائلاً: في السابق كانت هناك وظائف عليا يتم جذب الكفاءات لها، ولكن العقودات الحالية أصبحت عقودات اعاشة، خاصة بالنسبة لمستشاري الوزارات، فنجد ان منهم من ليست له علاقة بعمل الجهاز، ولكن اصبح الأمر تحسين اوضاع، ووظائف غير مغرية قرنت بالتعيين للإعاشة، وذلك حتى في الولايات، فقد اصبحت كل ولاية لها جملة من وظائف الترضية والاعاشة هذه، وبالتالي نجد ان هذه التعاقدات قد خرجت من الهدف الذي استحدثت من أجله، وهذا ما اكده قرار الاعفاءات السابق، وهذا الخلل موجود على المستويين الاتحادي والولائي، حيث يتم تعيين الكثيرين ممن لا يملكون ألقاباً علمية أو أصحاب خبرة في المجال، ويتم منحهم ألقاباً ليست من حقهم.

وفي مركز تطوير الإدارة كان لنا لقاء مع مدير ادارة التدريب بالمركز البروفيسور محمود السر محمد طه الذي قال في بادرة حديثه إن الاجور والمرتبات لها نظام محدد في الدولة، كما أن التعاقد خارج المرتبات مجاز من قبل رئيس الجمهورية، وسبق أن اصدر فيه ضوابط محددة وواضحة، ولكن في الفترة الماضية حدثت تفلتات في العقود وتجاوزت السقوفات المسموح بها في جهتين، تجاوزات افقية وتجاوزات رأسية، تجاوزات افقية في عدد الخبراء المتعاقدين وتجاوزات رأسية في القيمة المدفوعة للخبير صاحب العقد، ورئيس الجمهورية كان قد حدد الخبراء في ثلاث فئات الفئة «أ وب وج»، واشار الى ان الخبراء يكونون في تخصصات نادرة، وان يكون لهم احتياج حقيقي، وأن يكونوا غير متوفرين في البلد او في وحدة العمل، ويصعب استيعابهم في الهياكل الوظيفية، ولم يتم للاسف الالتزام بالقرارات، ولذلك قبل شهر من قرار الرئيس اصدر وزير العمل قراراً بايقاف التعاقدات الخاصة، ووجه إلى أن يتم توفيق الاوضاع القديمة، وكان من أسباب التفلتات في العقودات ان هذه العقودات ابرمت بواسطة المؤسسات او المصالح الحكومية الاتحادية او الولائية بمعزل عن الادارة المسؤولة عن الموارد البشرية او شؤون العاملين بحسب المفهوم السائد، لأنها الجهة التي تذكر المسؤول بقرار الدولة الصادر، ويضيف السر أن المتعاقد يجب الا يتقبل وظيفة هيكلية او تنفيذية، ولكن هذا تم التجاوز فيه مما جعل العقودات التنفيذية تتجاوز حتى القطاع الاول في الخدمة العامة في هيكل الاجور. ويعزو السبب الى قدرة هذه المؤسسات على الدفع المالي وقدرتها الادارية التي اعتبرتها ميزة نسبية توظف من خلالها من تشاء وتدفع من الاجر ما تشاء.

ونعتقد ان القرارات الاخيرة تمثل عودة الى تطبيق القانون ووضع الامور في نصابها الصحيح، وهذا يعني انه يمكن مستقبلاً اذا كانت هنالك وظائف نادرة او غير متوفرة بالمعنى الحقيقي يمكن ان توظف، ولكن في اضيق نطاق، وتعتبر هذه القرارات لكشف سوء الممارسة في الفترة الماضية، وبالتأكيد اعفاء الكم الهائل من الخبراء يوضح عدم الحاجة اليهم، ويمكن تغطية هذه الحاجة من داخل الخدمة العامة في الغالب الاعم. وعلي الدولة ان تلجأ الى اعداد الكادر البشري من خلال برامج التدريب والتأهيل حتى يتم توريث وتواصل الاجيال في قيادة العمل التنفيذي.
وفي ذات السياق والاتجاه كان لنا اتصال مع الخبير في مجال الاصلاح الاداري الدكتور بركات موسى الحواتي، الذي ابتدر حديثه قائلاً: في كل دول العالم هنالك نظام يكون وفق معدلات مدروسة تحدد المرتبات في الهياكل التنظيمية في الاجهزة المختلفة، وتحدد هذه الهياكل الامتيازات والاختصاصات وتحقق مبدأ العدالة والاستقرار في ظل المستوى الاقتصادي، والخروج عن هذا النمط التقليدي يؤدي إلى نوع من المفارقات ينعكس بصورة مباشرة على عدم الانصاف في الاجهزة الواحدة، وبعض ما يحدث من عقودات خارج النظم القانونية ادى الى كثير من المرارات للعاملين، خصوصاً أن هذه العقودات قد تجاوزت ما هو مقبول، ولم يكن محض صدفة ما دعت اليه سياسات الاصلاح الاقتصادي الاخيرة من انهاء العقودات في اجهزة الدولة، وهذا يؤكد أن هناك العديد من العقودات المخالفة للقانون، وليس بعيداً عن ذلك ما قام به النائب الأول لرئيس الجمهورية حين عرض على النواب راتبه في جلسة البرلمان، وهذا مثال يدعو إلى اخضاع مستحقات التعاقد في الأجهزة المختلفة سواء أكانت على المستوى الاتحادي او الولائي للقانون والهياكل الوظيفية. [/JUSTIFY] تحقيق: تهاني عثمان
الصحافة