المفارقات التي شهدها السودان لا يصدقها عقل
وليت الذين فعلوا ذلك كانت جهات أجنبية لها مصلحة في الدولار، ولكن الحقيقة أن هذا التدني صناعة محلية وبأيدٍ سودانية وضع أساسه السيد بدر الدين سليمان وأعقبه السيد عبد الرحيم حمدي لما أعلن ما أسماه (تحرير الاقتصاد السوداني) فقضوا بأفعالهم هذه على الجنيه السودانى وهي مرحلة خادعة، حيث إنها ميّزت قلة مهيمنة على السلطة عبر مراحل الحكم الوطني المختلفة استقرّت بالمركز ممثل في العاصمة، بل في حقيقتها فئة معينة منه، حيث إن من يشهد الفوارق الكبيرة الطبقية التي لم يعرفها السودان عبر تاريخه والمظاهر الجديدة الخادعة من بنايات فاخرة وناطحة ومجتمع راقي، -تتمتع به قلة من أصحاب السلطة- ومنسوبيهم يحسب أن السودان تطور ويضاهي أفضل دول العالم بهذا المظهر الكاذب، ولكن المقابل لهذا الشكل الخادع أن يدفع شعب السودان الثمن، حيث تعيش غالبيه العظمى فقراً وانهياراً في أهم الخدمات الضرورية من تعليم وعلاج وارتفاع تكلفة المعيشة فوق طاقة المواطن الأغبش حتى في العاصمة حيث هذه المظاهر الكاذبة، ولكن المصيبة أن الذين اغتالوا هذا الجنيه هم لحمنا ودمنا وحكامنا عبرمرحلة طويلة من الحكم الوطني، فكانت نهاية ما ارتكبوه في حقه والتي تمثل فترة الإنقاذ أسوأها اقتصاديا، حيث إن النفط لما تدفق لم يعيد للجنيه هيبته لتصبح الحقيقة ماساوية بكل ما تحمل الكلمة.
هذه جريمة، وأسميها جريمة لأنها وبالرغم من المظاهر الخادعة التي شهدها السودان إلا أن اغتيال الجنيه السودانى كانت أهم نتائجه السالبة أنه أدى لارتفاع تكلفة المدخلات الزراعية التى يتم توفيرها بالدولارلينخفض مردود الزراعة من الدولار دون ما يتكلفه الإنتاج وملحقاته، كما أن انخفاضه أدى تلقائياً لارتفاع قيمة الاحتياجات الضرورية للمواطن فوق قدراته، ليعم الفقر والجوع والمرض غالبية سكان العاصمة ومناطق الهامش التي زحفت نحو العاصمة بحثاً عن لقمة العيش والعلاج وغيرها من الاحتياجات الضرورية، لتصبح مناطق الهامش خالية وقاحلة من كل مظاهر للحياة. ويا لها من مفارقات حتى المسئولين أعلى المستويات بمناطق الهامش يسارعون في تشييد البنايات الضخمة في العاصمة والانخراط في القلة المستأثرة بخيرات الوطن لتأمين مستقبل أسرهم هنا في العاصمة بدلاً من تعمير مناطقهم التي أصبحوا حكاماً باسمها. ولم تقف الآثار السالبة عند هذا الحد بل شكّل انخفاض الجنيه السوداني معوقا لتطور الصناعة المحلية، حيث إن كل احتياجات المصانع من آليات وخام يستورد بالدولار بالسعر الحر؛ ثم كانت الطامة الكبرى أن يفتحوا الأسواق لاستيراد للسلع الأجنبية الهامشية دون ضوابط فنية وصحية ولتقضي على السلع المصنعة محلياً لانخفاضها في السعر، لأنها إما تالفة أو منتهية الصلاحية مما يجعلها فاقد سلعي ، وليفتحوا الأسواق بلا ضوابط لاستيراد الكماليات ليكتبوا النهاية للصناعة المحلية ولتغرق الأسواق بالسلع المنافسة للصناعة المحلية. ومن تأخذه قدمه اليوم في جولة لأعرق المناطق الصناعية سوف يلمس هذه المأساة التي يحكي حال المنطقة عنها. أما الجانب الآخر من آثار هذه الجريمة ارتفاع تكلفة الخدمات الضرورية التي يحتاجها المواطن، والعبء الكبير للضرائب غير المباشرة من جمارك وجبايات وفواتير خدمات الحكومة التي يتحملها المواطن البسيط الغلبان، بعد أن تخلّت الدولة على أهم مسئولياتها التي وفرها الاستعمار بالمجان من تعليم، وعلاج، وفرص العمل، وتوفر السلع الضرورية بأرخص الأسعار، بسبب التحكم في الدولار، حيث أفقدت هذه السياسات في الحكم الوطني التوازن بين مصادر الدولة من العملة الصعبة ممثلة في الدولار وبين احتياجات الدولة الضرورية التى كانت تصب لصالح المواطن، والتي لها الأولية والتي يعتمد توفرها على الدولار، فكان الانهيار الشامل بالرغم من ملامح التطور الكاذب وهو ما سأعود إليه بتفصيل في هذه الحلقات .
لكل هذا، وحتى تكتمل الصورة للذين لم يعاصروا تاريخ الجنيه السودانى وعصره الذهبي، وما يعنيه من خير عليه في توفير احتياجاته الضرورية لابد من وقفة توضيحية مع مقومات السياسة المتوازنة التي أسسها الإنجليز لنقف على النظام الذي خططوا به لنهضة اقتصادية قائمة على منح الأولية لحقوق المواطن، وعلى وضع أساس إن سرنا عليه لن يخل بالتوازن، والعمل على توسيع مصادر العائد من الدولار لتوسيع مستوى الخدمات واحتياجات المواطن والدولة خطوة خطوة وفى تناسق تام وفق معدالات تحفظ للجنيه هيبته وقيمته، وليس نحره واغتياله من أجل مصالح قلة سعت لتعيش حياة مترفة على حساب الغلابة.وذلك بانتهاج سياسة استيرادية غير مدروسة ومتوافقة مع قيمة الجنيه، ولهذا السبب شهدنا المفارقات الغريبة بعد أن قضى الحكم الوطني على النظام الذي خطط له الإنجليز بمعرفة ودراية، والتي قدمت بعض النماذج منه في الحلقة الأولى ولا يزال فيها الكثير الذي يستحق الوقفة فيه؛ ولعلني أتوقف هنا عند بعض المفارقات التي لحقت بأهم المرافق الضرورية -على سبيل المثال وليس الحصر- على أن أعود ومزيد من التفصيل لبقية المفارقات لنرى كيف كان حالنا مع الإنجليز وما انتهينا إليه تحت ظل الحكم الوطني.
ولتكن وقفتنا هذه مع التعليم، وهو من أهم الضرورات التي ترتبط بالمواطن؛ فكيف كان أيام الإنجليز وكيف تدهور في العهد الوطني حتى بلغ المرحلة الحالية:
فبالرغم من تفاوت الظروف واختلاف المديريات من بعضها البعض، فلقد انطلق الانجليز من محورين:
أولهما: توسيع قاعد التعليم في المراحل الأولية على أوسع نطاق ممكن حتى لا يقصر على منطقة بعينها، كما راعوا فى المراحل العليا أن تغطي أكبر مساحة ممكن، لهذا فإن الإنجليز أسسوا مرحلة ثانوية قامت على تأسيس ثلاثة مدارس بنفس المواصفات والإمكانات راعوا فيها أن تطوى أكبر مساحات متاحة في السودان، لهذا أسسوا ثانوية وادي سيدنا في الخرطوم لتغطي المنطقة الشمالية؛ كما أسسوا ثانوية حنتوب في مديرية الجزيرة لتغطية المنطقة المحيطه بها؛ وأخيرا أسسوا مدرسة خور طقت الثانوية بمدينة الأبيض لتغطية غرب السودان، فكانت هذه المدارس الثلاثة تغطي أكبر مساحة من السودان من الطلاب الناجحين في شهادات المرحلة الابتدائية، ثم أسسوا كلية غردون الجامعية، والتي أصبحت فيما بعد جامعة الخرطوم، وهي الكلية الوحيدة في ذلك الوقت مقرَّها العاصمة للناجحين في الشهادة الثانوية. بجانب ذلك أسسوا معهد بخت الرضا لتأهيل المعلمين، ولم يكن يسمح لأي شخص أن يصبح معلماً ومربياً ما لم يحمل شهادة هذا المعهد التي تؤهله لتولي هذه المسئولية التربوية.
بجانب ذلك أسسوا مدارس صناعية على مستوى المرحلة الثانوية؛ كما أسسوا المعهد الفني بالعاصمة ليوازي كلية غردون الجامعية في تأهيل مهندسين صناعيين في مختلف التخصصات، وتعتبر مرحلة أدنى من الجامعة ولكنها في غاية الأهمية.
أما المحور الثاني: وهو في غاية الأهمية وهي أن الإنجليز أسسوا لأن يكون حق المواطن في التعليم والعلاج مجاناً، فإن الحكومة الاستعمارية أسست لنظام تعليمي يقف على مجانية التعليم في كل مراحله وعدم تكليف أي مواطن تبعات مالية، حيث كانت المدارس توفر كل ما يحتاجه التلميذ أو الطالب في أي مرحلة كانت، بل ولأن المدارس الثانوية الثلاثة كانت موجهة لاستيعاب الطلاب من مناطق السودان المختلفة فلقد كانت هذه المدارس كما هو الحال فى كلية غردون كانت الدولة تتكفل بسكن وإعاشة الطلاب في داخليات تستوعب كل طلاب المدارس والجامعة؛ كما أن الأمر لم يكن يقف عند هذا الحد بالنسبة لطلاب الجامعة، فلقد كانت الحكومة تدعم الطلاب بما عرف (بالإعانة المادية) وتدفع دعماً للطلاب الذين لا يعمل أولياؤهم في الخدمة الحكومية وليست لهم مصادر دخل؛ كما أن الحكومة كانت تدفع إعانات خاصة لطلاب المعهد الفني؛ فأين هذا من واقع التعليم اليوم.
إذن هكذا كان حال التعليم فى عهد الاستعمار؛ فكيف يا ترى أصبح حاله اليوم في عهد الحكم الوطني، بعد أن انهار التعليم الحكومي وأصبح التعليم تجارة واستثمار خاص بلا أي ضوابط عندما هيمن عليه قطاع خاص استغلالي على أبشع الصور، وفي كل مراحله تؤكد ذلك التكلفة العالية؛ ويا لها من مفارقة وأبناء وبنات الأسر من أنحاء السودان يعانون من السكن والإعاشة مما ترك فيهم آثارا سالبة يصعب حصرها وذكرها لما فقدوا هذه الخدمة المميزة. ويا لها من مفارقة فحتى في عهد الإنجليز وبدايات الحكم الوطني فلقد عرف السودان يومها ما يسمى بالتعليم الأهلي وليس القطاع الخاص كما كان مسماه، ويومها كان التعليم الأهلي نفسه مجانا ويعتبر مساهمة من مؤسسي هذه المدارس ليس بغرض الربح، وعلى رأس هذه المدارس تقف (المدرسة الأهلية، والمؤتمر الثانوية، والأحفاد) وغيرها حيث لم تكن تجارة لمن أسسوها أو للتباهي بها وجني الأرباح الباهظة منها بعد أن سميت اليوم بالقطاع الخاص بعد أن أصبحت للربح الفاحش دون ضوابط. فلقد أصبح التعليم قطاع خاص أي سوق مفتوحة تحت ظل الاقتصاد الحر والقابضين على مفاصله من السلطة ورجال الأعمال والذين يقدمون أرباحهم الباهظة أيا كان الثمن حتى في التعليم والعلاج. وإن كان حديثي اليوم يقتصر على التعليم فلقد أصبحت مدارس القطاع الخاص استنزافا للمواطن من مرحلة الروضة وحتى الجامعة؛ والمفارقة الكبيرة هنا أن من يحسب ما يدفعه أولياء أمور التلاميذ والطلاب للفرد الواحد من أبنائهم بدءا من ملايين الروضة حتى التخرج من الجامعة، فإن الخريج حتى لو كان من أصحاب الحظوة في الحصول على عمل ولايواجه معاناة العطالة لسنوات فإن ما يحققه من عائد العمل لا يغطي ما صرفه ذووه عليه من كلفة الدراسة؛ هنا لابد أن أحكي طرفة تعبر عن نفسها، إن أحد رجال المال وبالرغم من إمكاناته لتحمل تكلفة تعليم ابنه ولكنه جلس إليه وجاء بورقة وقلم ودون ما سوف يتكلفه لتعليمه حسب طاب ابنه فوجده يبلغ بضعة آلاف من الدولارات، فقال لابنه إنني لا أرفض سداد هذا المبلغ ولكني أفضل أن أمنحك هذا المبلغ الآن كله نقدا لتمارس به التجارة فهذا أفضل لك من أن تهدره فيما لا يعود إليك بنفع (طبعا هذه بلغة السوق)، وفي نهاية الأمر ستدخل معي السوق لأن التعليم لن يعوضك ما دفعناه؛ وتقول الطرفة إن ابنه عمل بنصحه ودخل السوق بدلاً عن الثانوني والجامعة.
بجانب هذا فإن هناك العديد من البدع التي ارتبطت بمؤسسات التعليم المختلفة والتي تتعدد مظاهره من حفلات التخرج بدءا من مراحل الروضة. أما الحديث عن الدروس الخصوصية إنما هو حديث تشيب له الوجدان، فالمدرسة لم تعد هي التي تعلم الطالب رغم هذه التكلفة العالية والمعلم لم يعد هو الذي يعلم الطالب في المدرسة وإنما يعلمه في الدرس الخصوصي مدفوع القيمة إضافة لما يدفعه للمدرسة؛ ويا لها من مفارقة فلقد كان الفصل من المهنة عقوبة كل معلم يمارس دروساً خصوصية، ولكن كله هذا مبرر بمنطق السوق والاقتصاد الحر، والمجال لا يسع التفصيل للحديث عن اغتيال التعليم .
ما أوردته عن التعليم هو نموذج لما صحب سياسات الحكم الوطني من تدني، فكيف يكون حال المواطن العادي؛ وقد يكون أب لأسرة من عدة أبناء يحتاجوا التعليم في نفس الوقت فكيف حال من له أكثر من ولد وبنت في مراحل الدراسة!؟ وماذا عن حاله بالنسبة لاحتياجاته الضرورية الأخرى التي سأعود إليها.
حقا لقد حررنا السودان من الاستعمار فتمزق وانفصل عنه جنوبه (ولسه الساقية مدورة)، وحررنا الاقتصاد واغتلنا الجنيه فاصبح الضحية المواطن. كل هذا لأن الانجليز أسسوا لنظام دمرناه بأيدينا بعد أن أصبحنا حكاما لأنفسنا، فهل هذه دعوة للتحسر على الاستعمار!!.
ما هو النظام الذي أسس له الإنجليز ؟ وكيف كان هذا النظام حريصا على حقوق المواطن الضرورية؟وما هي علاقة هذا بقيمة الجنيه السوداني والدولار؟
مجموعة أسئلة لابد لهذه الأجيال أن تقف على إجابة عليها لترى كيف كان ومن أين جاء الدمار الذي لحق بالسودان وهدد وحدته وحياة مواطنه.
لقد كان السودان تحت ظل الاستعمار ينقسم لتسع مديريات، ثلاثة منها في الجنوب وستة في الشمال، وعلى رأس كل مديرية محافظ يشرف على المديرية ومقره عاصمة المديرية، وهو بمثابة الحكومة يتبع له ضابط إداري أو من عرف بضابط مجلس بلدي في المدن الرئيسة بالمديرية، ثم صباط المجالس الريفية والذين يتمركزون في عواصم المديريات، يتولون الإشراف على الأطراف بالمديرية. وكان هذا الكادر الإداري المحدود والذي لا يتعدى أصابع اليد في المديرية يشرف ويتولى كل شؤونها بمساعدة مجالس محلية مساعدة من رجال الإدارة الأهلية، وكبارات رجال المنطقة من اصحاب الخبرة والحكمة من باب التشاور في إدارة شأن المواطنين، حتى لا تغيب الدولة عن أي مواطن، ولا يكلفون الخزينة أي التزامات ومخصصات مالية؛ ولكم أن تتصوروا هنا كم يبلغ عدد الكوادر الإدارية التي تدير الدولة سواء في المركز أو الولايات، ومقارنة هذه الكوادر بعددها اليوم في السودان بعد الحكم الوطنى وما يستنزفونه من خزينة الدولة وما يتقاضونه من مرتبات ومخصصات وتوابعها على حساب ارهاق المواطن ومعاناته؛ ويا ليتنا نجد مصدرا يقدم احصائية لمقارنة واقع اليوم بما كان فى عهد الإنجليز لنرى كيف تمدد وتزايد هذا الكم الهائل من الكوادر في عهد الحكم الوطني!؟ وكم بلغ اليوم فى عهد الإنقاذ على وجه الخصوص، وكم سيبلغ فى مستقبل الأيام؟ وكيف يقابل هذه الكم الهائل من الكوادر الإدارية التي ابتدعت لها المسميات المختلفة!؟ وما تتكلفه من الخزينة العامة رسمياً ناهيك عن الجانب غير الرسمي والذي يشكل عبئاً فوق طاقة المواطن وخصماً على حقوقه الضرورية، حتى أصبح المواطن هو الذي يتحمل عبء الكادر الذي يدير الدولة وليس هو في خدمته كما يقتضي الحال والذي وضع أساسه الاستعمار. ولعل هذا النظام أورثه الإنجليز للإمارات المتحدة التي كانت محمية إنجليزية، والتي رغم إمكاناتها الكبيرة تعمل بنفس النظام، حيث إن حاكم الإمارة كما هو المحافظ عندنا في سالف العصر يدير شؤون الإمارة بضباط البلديات الذين يسمونهم بمديريي البلديات؛ ولعل الدهشة ستصيبنا هنا من المفارقات الغريبة، حيث إن ثلاثة شخصيات سودانية من ضباط البلديات السابقين استوعبتهم الإمارات لإدارة شؤون البلديات لما اكتسبوه من خبرة في السودان، تولوا هذه المناصب في كل من أبوظبي، ودبي، والشارقة، وغالبية الإمارات تحت إشراف حاكم الإمارة مباشرة؛ فلعبوا دور حكومات كاملة بكل ما تحمل الكلمة، حيث كان المهندس عوض الكريم مديرا لبلدية أبوظبي والسيدان مختار التوم وكمال حمزة الأول مديرا لبلدية الشارقة، والثاني مديرا لبلدية دبي، حيث يتولى كل منهما كل ماله علاقة بالإمارة تحت إشراف حاكم الإمارة، وهو ذات الوضع الذي أسس له الإنجليز في السودان قبل أن يتم اغتياله على يد الحكم الوطني, ولا يزال يعمل به حتى اليوم في الإمارات.
ولعلها طرفة أو مقولة لا أجزم بصحتها ولكنها متداولة حول الأخ كمال حمزة الذي ينتمي إلينا أسريا بتوتي وحلة حمد وبيت المال، حيث كنا نسمع من أهلنا أنه غادر السودان إلى الإمارات- ولم تكن يومها من الدول الغنية لعدم اكتشاف البترول – غاضبا لتخطية في الترقية ولإحساسه بأنه ظلم في هذا الأمر، والتاريخ يشهد وكل أهل الإمارات يحفظون لأبناء السودان الذين عملوا مديرين للبلديات في الإمارات المختلفة هم الذين أشرفوا إداريا وتنفيذيا على هذه الطفرة التي حققتها الإمارات دون أن يتمدد الجهاز التنفيذي والإداري بالرغم من الإمكانات الهائلة التي تمتعت بها الإمارات. ولا أدري هنا ماذا يقول أصحاب الشأن الذين ورثونا (وآسف إذا لم لم أجد أفضل من هذه) من السياسيين المدنيين والعسكر والذين حلوا بديلا للاستعمار إذا ما قارنا ما مثلته تكلفة إدارة الإمارات التي أشرف عليها ثلاثة من أبناء السودان بنسبة ما تملكه الإمارات من إمكانات مادية التي تبلغ آلاف الأضعاف لإمكانات السودان، ومقارنة هذه النسبة ما تتكلفه الإدارة السياسية والتنفيذية مع إمكاناته الضعيفة مقارنة بالإمارات؛ فهل لنا أن نعجب إذن إذا أصبح المواطن في السودان تحت خدمة الإدارة السياسية والتنفيذية للدولة وخصماً على حقوقه ومتتطلباته الضرورية، بينما لم تعد هي في خدمته وتحقيق متتطلباته كما كان في عهد الاستعمار.
لهذا ليبس غريبا علينا أن نعيش وضعا شاذا بكل المقاييس، حيث إن المواطن الغلبان فرض عليه بالقوة أن يعطي ويقدم للدولة بينما هي تأخذ ولا تقدم له أي مقابل للسودان مع الإمكانات الضعيفة له. وهل لكم من دليل على هذا أكثر من الذين يطرقون الأبواب كل صباح يسدون الطرقات لحصد الجبايات وغرامات المرور. وغرامات المرور هذه لا تخلوا من طرفة، فلقد عرف السودان في عهد -رحمة الله عليه- المهندس سليمان موسى المشرف على ترخيص السيارات، فكانت أجهزته الرقابية متى وجدت سيارة لا تحمل رخصة تؤهلها للسير حماية للمواطنين، فإنه يحتجز العربة وينزع لوحتها الرقمية ثم يستدعي الونش ليحمل العربة لورشة المرور حتى يتم ترخيصها تأكيدا لعدم أهليتها للسير بدون رخصة. والآن كلما يفعله رجل المرور في نفس الحالة أن يخرج دفتره يستلم بموجبه غرامة مالية ، وبعدان تقبض الدولة المعلوم يقول لمن خالف قانون الترخيص تفضل من حقك أن تسير اليوم بسيارتك بدون ترخيص حتى اليوم التالى بعد ان تحصلنا على جباية هذا اليوم؛ (وكأن الدولة تقول له سر لا يهم إن أصبت أو قتلت مواطناً، فلقد دفعت المعلوم)، وفى اليوم التالى يلتقيه رجل مرور ثاني فيعيد نفس السيناريو وهكذا أصبحت العربة غير المرخصة مصدر عائد كبير من الغرامات؛ وهكذا حال من يقودون سياراتهم بدون رخصة قيادة فالمهم العائد المادي للدولة ، وهذا ما سأعود إليه بتفصيل في حلقات قادمة.
كما أن الإنجليز أسسوا بجانب ذلك لـ : 1- الخدمة مدنية مستقلة تتولى السلطة التنفيذية لإدارة شأن الدولة فيما لا يقع تحت مسئولية المحافظين وضباط البلديات من مسؤوليات المركز ؛ لهذا عملوا على أن يقتصر دور السلطة السياسية على وضع السياسات حتى لا تتدخل السياسة في الشأن التنفيذي، وجعلوا وكيل الوزارة أعلى سلطة تنفيذية لا يخضع وظيفيا للوزير بل كان يتمتع بسلطة مستمدة من القانون يملك بها أن يحول دون تدخل السياسة في إدارة الوزارة ومباشرة مهامها؛ لهذا فإن الوزير يختص بوضع السياسة العامة للوزارة ولكنه لا يملك أن يتدخل في العمل التنفيذي للوزارة؛ وبهذا يبقى المواطنون سواسية عند تنفيذ السياسات تجنبا للتمييز بين المواطنين من منطلقات أو بسبب الانتماءات السياسية، لهذا حرص قانون الخدمة المدنية على التاكيد بأن منصب الوكيل ليس وظيفة سياسية وإنما هو رجل خدمة مدنية يتدرج وظيفيا من العاملين بالوزارة دون اعتبار لانتمائه السياسي حتى لا يفرق عند تنفيذ السياسة بين المناطق المختلفة أو المواطنين بسبب الانتماء أو الولاء السياسي، فالكل سواء عند التنفيذ؛ ولكن ما إن تسلمت أحزابنا الحكم الوطني حتى بدأ التغول على قانون الخدمة المدنية والعمل على تحويل الوكيل لموظف يخضع لأوامر السياسيين وقرارات الوزير الذي تحول لسلطة تنفيذية وليست سياسية، وكانت تلك أول جريمة ترتكب في حق الخدمة المدنية والتي حولت الوزارات لخدمة المحاسيب والولاءات السياسية. ولقد شهدت فترة التعدي على الخدمة المدنية الكثير من الاحتكاكات والصراعات بين وكلاء الوزارات والسياسيين إلى أن أصبحت وظيفة الوكيل وظيفة سياسية للوزير، أن يأتي به من خارج الوزارة ومن أصحاب الولاء السياسي لتنهار أهم ضمانات العدالة؛ ولعل الحديث يطول حول هذه النقطة لأهميتها ولما أفرزته من سلبيات في الإدارة التنفيذية للدولة.2- ولعل من أكبر السلبيات التي شهدتها بدايات التغول على استقلالية الخدمة المدنية أن عُدل قانونها ليصبح الوكيل خاضعاً لقرارات الوزير التنفيذية، بعد أن أصبح الوزير أعلى سلطة تنفيذية، وليس السياسية كما كان الحال؛ وقد بدأ هذا التغول مع بدايات الحكم الوطني حيث تصاعد الصراع بين الخدمة المدنية والسياسة حتى انهارت الخدمة المدنية نهائيا في عهد الإنقاذ التي رفعت أخيراً شعار الولاء قبل الكفاءة؛ إلا أن التعدي على استقلالية الخدمة المدنية لم يكن وقفا على نظام بعينه، حيث إن التعدي على استقلالية الخدمة المدنية لم يكن وقفا على حكم معين عسكريا كان أم مدنيا دكتاتوريا أم ديمقراطيا، إلا أن الضربة القاضية وجهت للخدمة المدنية في عهد الإنقاذ، حيث لم يقف النظام على تأسيس الوظائف العليا والقيادية في الخدمة المدنية كما كان الحال فى العهود السابقة؛ فلقد أصبح التسييس شاملا وعاما في عهد الإنقاذ، حيث أصبحت الخدمة المدنية آلية من آليات الحزب الحاكم ، وأن التوظيف فيه قاصر للموالين للحزب سياسيا أو مصلحياً، لهذا ظلت كل مراحل الحكم الوطني تشهد التغول على الخدمة المدنية، وكان من الطبيعى أن تتفجر الاحتكاكات بين السلطة والخدمة المدنية. ولعل أشهر هذه الاحتكاكات في عهد الديمقراطية كان في فترة الديمقراطية الثانية فى وزارة التجارة، عندما تفجرت قضية منصب وكيل الوزارة، وكانت نقابة مفتشي الوزارة قد رفضت التمديد للوكيل الذي عيّن من خارج الوزارة، وطالبت النقابة أن يتم تدرج الوكيل من العاملين بالوزارة حسب ما كان القانون ينص، وحدث صدام بين النقابة وحكومة الأمة والاتحادي الاتلافية، وأمام تعنت الحكومة أعلنت النقابة الإضراب عن العمل ليكون ثاني أطول إضراب في تاريخ السودان بعد إضراب السكة الحديد الشهير، حيث امتد الإضراب لأكثر من شهر، و تصاعد الأمر يومها بين الحكومة والنقابات المهنية حيث شهدت دار المهندس يومها بشارع النيل تجمع كل النقابات بدعوة من نقابة المهندسين للتضامن مع الإضراب وتوسيع قاعدته ليصبح شاملا كل النقابات المهنية، ويومها وبعد وساطات قام بها بعض الحادبين تم التوصل على أن يبقى الوكيل لستة أشهر فقط وأن يعود العمل بالوزارة لتدرج الوكيل من العاملين بالوزارة، وتم ذلك الاتفاق يومها مع الشريف حسين الهندى نائب رئيس الوزراء لتطوي تلك الصفحة وإن كان السودان قد شهد انقلاب مايو قبل أن تنقضي المدة المتفق عليها، وكان أول قرار لسلطة الانقلاب أن أعفت الوكيل قبل انتهاء الفترة، وليحل مكانه وكيل من العاملين بالوزارة. وكان هذا أكبر مؤشر للصراع مع الحكم الوطني والذي أجهض استقلالية الخدمة المدنية في نهاية الأمر وسوف ترون المردود السلبي لهذا الأمر في الحلقات القادمة.
أما الحكم الوطني والذي تأسس في بداياته تحت الروح التي وضع أساسها الإنجليز فلقد قام على :
1- ثلاثة مؤسسات في الدولة؛ ولأهميتها كما سترون في الحلقات القادمة تقوم على مجالس إدارات مستقلة ويتمتع مديروها باستقلالية تامة بعيداً عن مركزية الحكم، حتى لا تؤثر عليها سلبيات السياسة، ولهذا أسباب موضوعية سوف أعود إليها؛ وهذه المؤسسات الثلاثة تتمثل في مشروع الجزيرة، والسكة الحديد، وبنك السودان،وسوف تشهدون كيف تم تحطيم هذه المؤسسات الثلاثة في عهد الحكم الوطني الأمر الذي ألحق أضرارا كبيرة بالسودان. ولعب دورا فيما آل إليه الحال اليوم.
2- مجموعة محدودة من الوزارات المركزية قسمت اختصاصاتها بصورة تحقق التكامل بين أجهزة الدولة المختلفة، وتضع كل أمور الدولة في تناسق تام بين الوزارات المختلفة، ولكل منها دورا كبيرا في الحفاظ على التوازن بين إمكانات الدولة المحدودة وحقوق المواطن الضرورية في توفر خدماته، وكلها صممت لتلعب دورا ملموسا في تحقيق التوازن بين الدولار والجنيه السودانى باعتبار هذا التوازن هو مفتاح كل شيء، وسنرى كيف خططوا لتسييره بدقة (ساعة بنج بن) الشهيرة، وسنرى ما أصاب الدولة والمواطن عندما أجهض الحكم الوطني هذا الإرث الذي وضعه الإنجليز وفق حسابات دقيقة؛ فكانت هذه الوزارات المالية، والتجارة والزراعة الحكومة المحلية، والثروة الحيوانية، والأشغال وغيرها من الوزارات الأساسية كما سنرى. كيف حلّ بالبلد الخراب بعد تدميرها!؟
صحيفة المشهد الآن
النعمان حسن[/SIZE][/JUSTIFY]
زد على المفارقات
– خلال عشرين سنة فقدت العملة السودانية ثلاثة اصقار من قيمتها 1000ج بالقديم = 1ج بالجديد
– اول رئيس دولة يتم اصدار امر فبض عليه من المحكمة الجنائيه
– اول حكومة في العالم ينفصل جزء من وطنها وتبقى في الحكم اقوى مما كانت قبل الانفصال
– اول دولة في العالم يكتشق فيها النقط ويتم تصديره ثم تفقده
– اول دولة في العالم تصنف من الدولة الفاسدة وتبقى جرائم الفساد فيها جرائم بلا مجرمين
– اول دولة في العالم يصفق برلمانها ويصيح باصوات كوراليه مجاز محاز لزيادة اسعار السلع على كاهل الشغب