تحقيقات وتقارير

قال الطيب صالح : دايرين بكا بلا (كواريك) وولادة بلا (كواريك)

كثيرًا ما يشد انتباهنا صوت عالٍ لشخص يبكي بحرقة وألم وآخر يعبِّر عن الفرح، وتتنوّع عندها أساليب (ضرب الكوراك) ما بين مناسبة فرح وكره، التي تظهر فيها الأحاسيس الداخلية بكل ما تحمله من شجون الألم والسعادة، ومفردة الكوراك كلمة مرادفة للسكاليب والصياح وجمعها كواريك، ويعبر عنها بالدارجي السوداني بـ (ووب علي واحيي علي) في حالة البكاء ووقوع المصائب، عوووك وهي تستخدم للفت الانتباه (وغيرها من المفردات المتعارف عليها)..
عادات سادت وبادت..
في بداية حديثه أشار خالد سليمان إلى الاختلاف الذي طرأ على البكاء ما بين الأمس واليوم، وأكد أنه في السابق كان (السكلي) يمتد لثلاثة أيام متواصلة دون انقطاع يجمع القريب والبعيد وحتى وصول من هم خارج البلدة ويتم سقايتهم بالعكارة لتطري أصوات النائحات في العزاء..
ونجد أن هناك بعض القبائل في المدن الطرفية والقرى ما زالوا يمارسون الولادة داخل المنازل خاصة إن كانت لامرأة تنجب طفلها الأول، وهنا يلزم على أخواتها ورصائفها الوجود حول الغرفة التي هي بداخلها وعليهن مشاركتها آلام (الضحير) أي آلام إنزال وخروج الجنين وذلك بإعلاء أصواتهن بالتضرع لله ويذكر أنهن يشركن في الدعاء أولياء الله الصالحين عبر النداء بــ (الله يحلك بالسلامة)، ربنا معاك (واللصيقات) بها يذرفن الدموع بأصوات عالية وذلك لإخفاء صوت المرأة المتألمة من آلام المخاض عن زوجها وأهل زوجها حيث إنهم يعتبرون صوت المرأة عورة).
الكوراك فوق شنو!
وأشارت الحاجة أم كلثوم إلى أن بعض القرى عمدت إلى تعيين شاب صاحب صوت عالٍ ومخارج حروف صحيحة والقوة والمقدرة على حركة التجوال داخل القرية الواحدة وذلك للإعلان عن خبر ما إن كان كرهًا أو فرحًا، وأكثر ما ينادى به أو يطق الكوراك به عودة الغائب، وكل أهل الحي عند سماع ندائه يعرفون أن هناك شيئًا ما قد حدث أو سيحدث، ومن فاته سماع أسباب النداء يأتي مسرعًا وهو يقول: الكوراك فوق شنو؟.
من جهة أخرى عمدت بعض القبائل إلى أن يصاحب النداء العالي أو الكوراك ضرب النحاس فيسمى الكوراك ضرب لجمعهم بإطلاق الصوت العالي مع صوت النحاس الحاد..
والصايح في اللغة العربية هو رسول طلب النجدة والاستفزاع الذي لا يكون إلا في حال الغزو المفاجئ الذي لم يسبقه إنذار أو استعداد وقد يصعد الصايح الذي يكون رجلاً أو امرأة إلى مكان مرتفع ليُسمع من بعيد، وإجابة الصايح واجبة يفتخر العرب بسرعة الاستجابة لها.
ونجد أن بعض القبائل تسمي زغاريد الفرح (كوراك)، كالقبائل في غرب السودان، التي يشتهر نساؤها بالكوراك غير أن منهن من تتميَّز بالترنيم في الكوراك بإطالة نغمته وتغيير السلم الموسيقي حسب ما يقول أهل الموسيقا سلم عالٍ ثم منخفض وهكذا.. ففي المناسبات السعيدة خاصة مراسم اتمام العقد يتم التعريف بها عبر الكوراك لثلاث مرات متتالية وتعقبها الزغاريد، حيث إنهم لم يكونوا يشهروا الفرح عبر إطلاق الرصاص.. وهناك أيضًا هناك كوراك اشتعال الحريق بصوت متواصل دون انقطاع ليعرف الناس أن أمرًا جللاً قد حدث..
وذكرت السيدة التومة بت علي التي تنتمي لإحدى قبائل شرق البطانة أن (الكوراك) لديهم في الأتراح يستمر لفترة طويلة خاصة في اليوم الأول دون انقطاع ويساعدهم في ذلك الضرب على القرع المقلوب على وجهه في إناء نحاس مليء بالماء، وقالت تتميَّز أصوات النساء بالحدة لأنهن يعتمدن في غذائهن أكثر على البامية الجافة (الويكة)..
ونجد أن الذاكرة الشعبية نجحت بصورة مدهشة في إيصال الخبر الاستماعي إلى أبعد منطقة في زمن وجيز، والمناداة تتم بالأصوات الجماعية من جماعة متخصصة بعينها، وكانت النداية في السابق وهي تأتي من النداء وتطلقها امرأة كبيرة في السن، تجمع النساء إثر وفاة أحد ما، كما نجد أن قبائل دارفور المسيرية والرزيقات عند خروجهم للفزع والخروج للحرب يطلقون الشعر بأصوات عالية لإثارة الحماسة لأفراد القبيلة وتسمى الحداء.
وما كتبه الراحل صلاح أحمد إبراهيم رثاءً في الراحل علي المك بقوله:
حين غاب جرت وهي حافية في المصاب
حي علي ووب علي
غاب الجميل غاب الوفي غاب الحليم
فتحملي… ووب علي حي علي
وكتبه تصوير وبلهجة نساء أم درمان الجزعات على فراق علي المك، وهنا جمع بين كل المفردات العامية التي تطلق في حالة الجزع والمصاب الجلل..
وتأتي أصوات الكواريك على أشكال مختلفة، منها السكلي عند الموت الذي يصاحبه تحريك اليدين والتصفيق ونثر التراب أو الرماد على الرؤوس المكشوفة مع ترديد الصفات الحميدة للفقيد، أيضًا العويل والنواح والخنين..
تراث عربي أصيل..
وخلال حديثه أكد الأستاذ عوض محجوب عبد الله ـ مهتم بالتراث الشعبي ـ أن التراث في السودان يرتبط بصورة مباشرة بالأصول العربية في كل ضروبه ومنها باب المناحات الذي تدخل فيه آلاف المفردات منها ما يتعارف عليه الآن كــ (ووب علي، والله لي) وغيرها من المفردات المعروفة..
وقال إن ضرب الكوراك يوجد في العديد من المناطق السودانية المختلفة باختلاف الأحداث التي تقع، ولكن نجد أن بعض القبائل السودانية لا يوجد بها (ضرب الكوراك) عند الرجال تحديدًا؛ لأنه يعتبر تقليلاً من الشأن والمكانة كقبيلة الجعليين، وهناك مفردات تستعمل في مناطق معينة كغرب كردفان وغيرها، وأكد أن ارتباط الكوراك بمفردات معينة؛ لأنها توصف ما يراد التعبير عنه كــ (ووب علي، واحيي) كما توجد كلمات في اللغة العربية العامية والفصحى تحمل ذات الدلالات، كـ (ألَلي) و(الله لي) وقد ذكرت في إحدى القصائد الفصحى:
وانت ما انت في غبراء مظلمة
إذا دعت ألَليها الكاعب الفَضُل
وما قالته بنونة بت المك نمر عندما توفي أخاها وهي تنعيه باكية تكورك بشعرها الرصين وأنها لا تريد له أن يموت على فراشه ممسحًا بالرماد نسبة؛ لأنه كان مريضًا بالجدري الذي كان يُداوى بمسح الرماد على جسمه بل تريد له أن يموت بطلاً قتيلاً في ساحة الحرب فقالت وصفًا لأخيها بما يعرف لدينا (بالمناحاة):
ما دايرة ليك الميتة أم رمادًا شح دايراك يوم لقا بدميك تتوشح..
الميت مسولب والعجاج يكتح أحيي علي سيفو البسوي التح
وأشار إلى أنها خصلة عربية أصيلة للتعبير عن المشاعر بصورة عامة سواء في الفرح أو الحزن..
الروراي والكواريك..
في بعض القبائل في السابق قبل أن تدخل مظاهر العولمة الحديثة والتكنولوجيا في تفاصيل إتمام الزواج وعند مرحلة عقد الزواج بعد الاتفاق على موعده بين أسرة الشاب والشابة، ويتولى والد العروس أو ولي أمرها دعوة أهله ومعارفه ومن يريد دعوتهم للمشاركة في حضور عقد الزواج… ويحضر وفد صغير من أهل العريس، وبعد حضور المأذون وتقديم المرطبات تبدأ إجراءات العقد، وبعد إتمامه تدوي طلقات فتعقبها زغاريد النساء إشهاراً لذلك، وفي حالة عدم وجود بنادق يتم الإشهار من خلال صيحات بالخناجر يطلقها بعض المتخصصين، تعرف باسم (الروراي) أو (الكواريك).
الكوراك.. تراث للحماسة
وقد ترنم الفنان عبد الكريم الكابلي بـ (الكوراك ضرب) من خلال قصيدة بنونة بت المك نمر (فرتيقة ام لبوس) التي يقال إنها نظمتها في أخيها الصغير علي وهو في المهد تعطي تصورًا آخر لاستخدام الكوراك كأحد الأساليب لإثارة الحماسة، وتقول كلمات القصيدة:
فرتيقة أم لبوس
لوّيعة الفرسان
الليل ما بليل
عنزة وقرونها سنان
الكوراك ضرب
مرقن جداد الدار
وسيفك في
غضاريف الرجال صياد
كوفيتك الخودة
أم عصا بولاد
ودرعك في أم لهيب
زي الشمس وقاد
وسيفك من سقايتو
وقارحك غير شُكال ما بيقربوا الحداد
استعجب الحداد
جابو لنا الكرامة
وصبحنا فرحانين
ضربوا دنقرهم
جوني العيال مارقين
بسأل عن علي
الفارس البيقود تسعين
يا هو علي
الولد البيقود تسعين
هو اللدر العلي ظهره
الخبوب والطين
ما بياكل الضعيف
ومابيسولب المسكين
إلا سيبت الأسد
المقابل الطين
أنداد النصارى
الكلهم بولاد
الكرار علي
كبّر عليهم زاد
أنين المرضى..
وهناك الكواريك التي يطلقها المرضى في المستشفيات نتيجة لما يقاسونه من آلام يرى بعض الأطباء أنها تعود إلى ضغط الألم الشديد الذي يعاني منه هؤلاء المرضى مما يضغط على أعصاب الحبال الصوتية فيخرج الأنين الذي نسمعه تعبيرًا عن هذه الآلام بالآهات والأصوات المتحشرجة والضغط على الحروف الحلقية كــ (أحيي) وغيرها من المفردات المعبِّرة عن الألم.. ففي المستشفيات بقسم الطوارئ والحوادث وإصابات كسور العظام تُسمع (الكواريك) من المصابين بما في ذلك الرجال، ثم يعقب تلك الصرخات (السكات) عندما يبدأ المصاب خطواته متدرجًا في طريق العافية.. والعافية درجات..

الخرطوم: رباب علي
صحيفة الانتباهة