تسوية ملف «الانقلابية» من أبرز نتائجه

الصراع المكتوم الناظر إلى تطورات الصراع السياسي داخل حكومة الإنقاذ يدرك بوضوح تام أن القاسم المشترك لانفجار الصراع عادة ما يبدأ بالخلاف حول الحريات والانفتاح على الآخر ولعل كثيرًا من الشواهد والمعطيات وقرائن الأحوال تعزز هذه الفرضية، وتشير إلى أن هناك مجموعتين الأولى ترى ضرورة الانفتاح على الآخر وتوسيع هامش الحريات، ومجموعة أخرى ترى ضرورة أن تستمر القبضة الحديدية، والعقلية الأمنية في إدارة البلاد، ولعلَّ الحالات التي تصاعد فيها الخلاف داخل حزب الحكومة كان التنازع حول توسيع الحريات والكبت حاضرًا في كل جولات الصراع واتجاهاته ونتائجه… فعندما كان الترابي ممسكًا بمقاليد الأمور، حاول تقليص القبضة الأمنية الحديدية والتحول نحو الدولة المدنية، فانفجر الصراع المكتوم بين المدنيين والعسكر وتمكن الترابي وتلاميذه من الإطاحة بالعسكر وطبقًا لذلك أجبر الكثيرون منهم على خلع البزة العسكرية وأُحيلوا إلى المعاش ولم يبق من مجلس الثورة العسكرية سوى الرئيس البشير والفريق بكري حسن صالح، وكان ذلك أول بروز لمعالم الصراع داخل الإنقاذ بشكل فعلي ومشهود وهو صراع ما كان له أن يطفو إلى السطح لولا الحاجة للتحول والانفتاح على الطريقة التي أرادها الترابي ومعاونوه… إقصاء الترابي أما المرحلة الثانية من مراحل تطور الصراع السياسي داخل المؤتمر الوطني فكانت أبلغ أثرًا، وذلك عندما حاول الدكتور الترابي تقليم أظافر العسكريين إلى الأبد والمضي خطوات كبيرة نحو الانفتاح والحريات بانتخاب الولاة مباشرة والإطاحة بالرئيس البشير، فكانت النتيجة قرارات الرابع من رمضان التي أطاحت الترابي وأقصته تمامًا من مراكز صناعة القرار، ولهذا انشق الحزب الحاكم إلى شطرين «وطني وشعبي» وأخذ الصراع هنا شكلاً آخر إذ بدا الترابي في المرحلة التي تلت إطاحته كأنما تحركه دوافع الانتقام والشعور بالمرارات ويظهر ذلك من خلال انقلابه على مبادئه وقناعاته السابقة حول الجهاد في الجنوب، وقبول القوات الدولية، وموقفه من المحكمة الجنائية الأمر الذي يعزز آراء القائلين بأن الصراع بين الإسلاميين صراع حول السلطة. إقصاء قوش في نهاية العام «2004» والعام «2005» انفتح مدير جهاز الأمن الوطني الفريق صلاح قوش على القوى السياسية فكان يقيم الإفطارات الرمضانية الفخمة ويدعو لها كل رموز القوى السياسية، مما اعتبره البعض وقتها نقطة تحول كبرى في إستراتيجية جهاز الأمن والمخابرات وانقلابًا على المفاهيم القديمة ومحاولة لتحسين صورة الجهاز في أذهان الناس، وفي تلك الأثناء كان الفريق صلاح قوش يمد خطوط التواصل مع المعارضين وبدأ يتردد بقوة أن الرجل هو من أغلق في عهده ما كان يسمى «بيوت الأشباح» التي عُرفت خلال السنوات الأولى لثورة الإنقاذ، كمكان لتعذيب المعارضين، لكن وفي خطوة مفاجئة أقال الرئيس عمر البشير، الفريق صلاح عبد الله قوش، الذي يُعتبر وقتها الرجل القوي في النظام، وعينه مستشارًا له في منصب «مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الأمنية» فيما عين نائب مدير الجهاز، الفريق محمد عطا المولى عباس، مديرًا لجهاز المخابرات في مكان قوش، في مرسوم جمهوري خلا آنذاك من أي حيثيات. وتباينت ردود الفعل وقتها في وصف الخطوة، ففيما اعتبرتها جهات أنها إجراء احترازي في إطار الصراع داخل المؤتمر الوطني الحاكم، رأت أخرى أن الخطوة تأتي في سياق التصالح مع الغرب وقوى الداخل وذلك بإسناد مهمة الحوار معها إلى الفريق صلاح قوش.. وبالفعل انخرط الأخير في الحوار مع القوى السياسية، ومضى خطوات متقدمة التقى في تلك الفترة قيادات الأحزاب ورموزها السياسية، وأصبح حوار المستشارية مع القوى السياسية من العناوين البارزة في المسرح السياسي، لكن بدا واضحًا أن قيادات متنفذة داخل المؤتمر الوطني لم ترغب في استمرار هذا الحوار، وربما تعتبره خروجًا من إستراتيجيتها ولعل ذلك بدا واضحًا من خلال تصريح للدكتور نافع علي نافع مساعد رئيس الجمهورية ونائب رئيس الحزب للشؤون التنظيمية أشار من خلاله إلى أن «الحوار» الذي يجريه مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الأمنية مع القوى السياسية لم يجد قبولاً من غالبية الأحزاب وأنه لا يمثل حزبه، و بدا نافع مقللاً من أهمية ذلك الحوار الذي كان يعوّل عليه «قوش» لتحقيق كثير من الأهداف السياسية والإستراتيجية.. وفي أول رد فعل قوي وسريع من جانب الفريق قوش الذي عقد مؤتمرًا صحافيًا غداة تصريحات نافع وجه انتقادات واضحة لحديث نافع وأشار إلى أن مثل هذا الحديث يشكك في الحوار، ويجعل القوى السياسية تنفض عنه، وأكد رعاية الرئيس عمر البشير للحوار بمتابعة نائبه علي عثمان طه، وقال قوش وقتها: «إن حديث نافع «ضار» وهو أمر يخصه وأنه متمسك بالمضي قدماً في هذا الاتجاه. كما أكد أنه لا يحق لأي شخص أياً كان التدخل في عمله طالما أنه تم بتكليف من الرئيس عمر أحمد البشير، ولن يتوقف إلا بأمر منه».
وفي تطور سريع ومتلاحق للأحداث أصدر رئيس الجمهورية في «26» أبريل من العام «2011» مرسوماً جمهورياً أعفى بموجبه الفريق صلاح عبد الله من منصبه مستشاراً لرئيس الجمهورية، ومما يجدر ذكره هنا أيضًا أنه فى فبراير من ذات العام كان قوش قد اصدر قرارًا بإقالة الأمين العام لمستشارية الأمن القومي اللواء حسب الله عمر بعد تصريحات أدلى بها الأخير قال فيها بأن المستشارية التي تدير حوارًا مع الأحزاب السودانية ستتنازل عن طرح الشريعة الإسلامية ضمن أجندة الحوار في حال أجمعت الأحزاب على ذلك.. إبعاد غازي صلاح الدين إذا كانت الظروف التي أدت إلى إطاحة الترابي تختلف عن تلك التي قادت إلى إبعاد قوش وإقصائه إلا أن القاسم المشترك بين هذه وتلك يظل هو محاولات البعض تفكيك سياج الهيمنة والقبضة الحديدية والانفتاح على الآخر وتوسيع هامش الحريات بالقدر الذي يمُكِّن القوى المعارضة التي تشكو حالة الاختناق من التنفس بقدر يحفظ انسياب الحياة السياسية وجعلها على قدر من الحيوية المطلوبة لأي لعبة ديمقراطية، غير أن حالة الدكتور غازي صلاح الدين الذي يعاني في الوقت الراهن من العزلة داخل حزبه بسبب أفكاره الإصلاحية التي تناهض الهيمنة و«الكنكشة» بعد أن جرت محاولة إقالته من المنصب الوحيد الذي تبقى له، تظل تلك حالة مختلفة عن سابقاتها، لكنها تلتقي معهن في أن صلاح الدين أيضًا يدعو للانفتاح الحقيقي مع القوى السياسية، ولعلَّ ما يؤكد ذلك هو آخر تصريح له بقناة النيل الأزرق عندما كان ضيفًا في برنامج «حتى تكتمل الصورة» الأسبوع الماضي، حيث ألمح أن المخرج من الأزمة هو الاستحقاق الانتخابي لكن بشرط ألا يكون الحزب الحاكم هو الذي يدير الانتخابات وهو في سدة الحكم أي يتمتع بوضع دون الأحزاب الأخرى.
وفي منحنى آخر أبان غازي صلاح الدين أن جلوسه مع المجموعات الشابة الإصلاحية «كالسائحون» وغيرهم أقنعه كثيرًا بمقدراتهم، وقال: «أنا مع الشباب تمامًا»، وأضاف: «لهم إرادة عالية والتزام وطني فضلاً عن أنهم مؤهلون لتولي الأمور» قائلاً: «أدعم ذلك بشدة». جاء ذلك في وقت انتقد فيه المتحدث باسم مجموعة سائحون تصريحات للدكتور نافع علي نافع وأشار إلى أنه يريد أن يفرض وصايا ويمارس بابوية على التنظيم مشيرًا إلى أن المجموعة عصية على الاستقطاب من كل أطراف الطيف السياسي في السودان لأن المؤمنين بها لهم خبرات وتصورات ورؤى لحل مشكلات السودان، وأضاف: «لا سبيل لاستقطابهم من أي حزب سياسي مهما عظم أمره وعلا شأنه».
ومن زاوية أخرى أعلن غازي ترحيبه بالخطوات التي تعمل على جمع الصف الوطني، شريطة ألا تكون مجرد شعارات من الحكومة، طالبًا إقرار تبعات ذلك بتهيئة المناخ للحوار، واعترف بأن الفترة القادمة تحتاج لأكبر قدر من الإجماع الوطني، وتابع: «في ذهننا الصورة التي تنظر بها الأحزاب لمثل هذه الدعوات، ليس كافيًا أن نعلن أننا سندير حوارًا فقط، بل يجب اتباع إجراءات لتهيئة المناخ، ودعا لإجراء مراجعات لبعض الإجراءات التي تمت كإغلاق الصحف ومزاعم للمعارضة بوجود تضييق للحريات. وقال: «أي إجراء خارج الدستور لا بد أن يصحَّح، مؤكدًا بطلان أي إجراء لا يستند إلى الدستور، وأعلن تأييده لأي مطالب لإطلاق الحريات تستند إلى القانون والدستور.
خلاصة القول
وبناء على ما سبقت الإشارة إليه يتبين بشكل أو بآخر أن اتجاهات الصراع داخل حزب المؤتمر الوطني تكشف عن وجود تيارات وأجنحة مختلفة وتكتلات سياسية متعددة تدير الصراع داخل حزب الحكومة، وتلتقي هذه التكتلات في اتجاهين متناقضين يحاول كل اتجاه استقطاب أكبر قدر من العناصر… والاتجاه الأول يرغب في الاستمرار في الحكم وإدارة البلاد بالعقلية الأمنية النافية للآخر حتى لو كان هذا الآخر من بني جلدتهم ويحمل ذات التوجهات الإسلامية ويرفع ذات الشعارات مما يشير إلى أن توجهات هذا التيار ليست لمصلحة المشروع الإسلامي كما يزعمون بل المزيد من الهيمنة والتحكم في إدارة أمور البلاد بالعقلية الأمنية.. والاتجاه الثاني هو تيار عريض يدعو للانفتاح على القوى السياسية عن طريق الحوار ويرى هذا التيار أن وجود معارضة قوية أفضل بكثير من وجود معارضة هشة وضعيفة ومستقطبة من الخارج، وهذا التيار يؤمن بتوسيع هامش الحرية على نحو يُكسب الحياة السياسية في البلاد قدرًا من الحيوية، لكن الواقع يشير إلى أن هذا التيار ضعيف نسبيًا لا يستطيع الوقوف أمام معسكر الصقور الذي كان في جولة أو مرحلة من مراحل الصراع ينتصر ويضع منافسيه على الرف.
صحيفة الإنتباهة
فشل المتأسلمون (جميعاً) في حكم السودان لفترة تجاوزت نصف القرن من الزمان .حكماً راشداً وعادلاً مدنياً يترفق بمواطنيه وينصفهم في الحقوق والواجبات ..ويحميمهم ولا يكون (ذئباً) يأكل لحمهم ولا (أسداً) عليهم و (نعامة) أمام غيرهم ولا يجعلهم درجة أولى وثانية وثالثة ليذرع بينهم (الفتنة) التي انقلبت الآن عليهم .. ثم ماذا بعد هذا الحصاد المر .. وحصاد العاصفة وجني الشوكثم ماذا بعد؟؟؟؟؟؟
وحكم (ابليس) ولا حكم (إدريس)!!!