رأي ومقالات

لواء ركن م الهادي بشرى: سلخ النملة.. في المتمَّة

[JUSTIFY]اتَّخذت طريق التحدي، سَرَباً، فجر السابع من رمضان الكريم، وجهتي المتمَّة. كنتُ على موعد مع أكثر من مفاجأة سارَّة، أوصلتني حد الإبهار! كنت قُبيل التاسعة، بمكتب عميد كلية القانون بجامعة شندي، الذي استقبلني مع عدد من الأساتذة ومعهم من جئتُ بسببه (مولانا عبد الفتاح سليمان) رئيس النيابة الأعلى بولاية النيل الأزرق، مستشار الوالي والمستشار القانوني للمجلس التشريعي. فقد كان بصدد مناقشة رسالة الدكتوراه بعنوان: (العقد الإليكتروني وطرق إثباته) ولم أكن على علم بأمر رسالته تلك، إلا قبل 24 ساعة، من صاحبها الذي التقيته ـ قدرياً ـ في أم درمان دون سابق ترتيب فأسعدني النبأ.. وقررت حضور جلسة المناقشة في المتمة.. وكنت في غاية الدهشة حينها بل وقبلها أيضاً.. ومازلت!. إني أحتفظ لهذا الرجل الخلوق العالم، في نفسي، بمكانة خاصة فقد نال ثقتي واحترامي بحق مع رجال ونساء أعانوني خلال عام ونصف العام في تثبيت دعائم الأمن والاستقرار بولاية النيل الأزرق، بعد أن تمرد واليها الأسبق على الدولة، وأشعل نار الحرب عليها فقابلتْه بما يستحق فتراجع القهقرى، حتى هُزم واندحرت قواتُه وولى الأدبار!.

كنت أسائل النفس وأنا اقترب من المتمة: (كيف تُراها متمة ود سعد)؟ أهي كما شهدتها منذ عقود لمرات عديدة؟ أم أن العمران الذي عمّ القرى والحضر كان لها منه نصيب؟ أهي تعجُ بالدواب تحمل أسفارها؟ أم أن الطرق المعبدة تمددت حتى أدركت المتمة المنسية إلا من عثرة ود سعد والعباس (الضكر) عم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام؟.

(المتمة) مرتبطة في أذهاننا منذ الصبا بمعركة أبو طليح التي كانت مقدمة حقيقية لانتصار الإمام المهدي على (غردون) الجنرال الحاكم العام في الخرطوم 1885م، وهي مرتبطة بذهني وربما بأذهان آخرين بذاك الذي أفصح عن رغبة ملحة جامحة أن يشرب القهوة في المتمة، عنوة واقتداراً. فقدّر الله غير ذلك.. فالناس يقدرون أحياناً فتسخر الأقدار!

وجدت صورة وحالاً آخر للمتمة، حينما عبرت الجسر الجديد!! فقد استقبلتني ضاحكة مستبشرة بمبانٍ حديثة جميلة طلاؤها أخضر في غالبه، والطريق الأسفلتي يتمدد ويتفرع، يئن تحت عجلات الحافلات والسيارات.. واكتملت أركان الدهشة عندي حينما وجدتني أمام (كلية القانون) تلك العروس التي اتشحت بكل جميل، لتلقى أضيافها والعريس (مولانا فتاح). عند التاسعة والربع التأم الجمع بمكتب عميد الكلية تصدر المنصة أ. د. وليد عبدون رئيس لجنة مناقشة الرسالة، وجلس إلى يمينه أ.د. الحاج الدوش مناقش خارجي، وإلى يساره أ. د. جلال بانقا مناقش داخلي وجميعهم من أبناء المنطقة إلا أن الأول والثاني قدما خصيصاً لهذه الجلسة من السعودية وقطر على التوالي، حيث يقيمان ويعملان، وليس بعيداً عنهم جلس صديقي مولانا فتاح الذي خلعوا عليه اسم الطالب وخاطبوه بتلك الصفة حتى قضى الله أمراً.

كنت أحسب أنها جلسة إلى الإجرائية أقرب، لا نلبث بعدها أن نقدم التهاني وتوزع الحلوى لولا رمضان، وما شهدت وسمعت من اللجنة كلها أعضاءً ورئيساً، والأخير هو المشرف على الدراسة، فقد كانت معركة علمية حامية الوطيس، إن الرحمة أمر معنوي والعلم عراك الحُجة بالحُجج والأدلة.

إجراءات المناقشة بدأت بالمقدمات المعتادة فقدم الطالب مولانا عبد الفتاح ملخصاً للدراسة خلال عشر دقائق كما طلب إليه تحديداً.. فعجبت لدراسة حوت 290 صفحة من القطع الكبير تُعرض في وقت جد قصير! لكنه أفلح في ايصال صورة واضحة للحضور فاللجنة تعرف كل شيء!

استثار دهشتي أن فكرة الدراسة وتفاصيل ما سمعته من الدارس الطالب بعيدة كل البعد عن ما ظننت! فعدت بذاكرتي الى الدمازين وتحديداً مكتب النيابة العامة، والظروف الدقيقة والواجبات الثقيلة التي كانت وما زالت على ظهر الرجل ومن يعاونونه فتلك أحمال ينوء بها العصبة أولو القوة والقدرة البدنية والعلمية ووضعت ذاكراتي أمامي، ما كنت أصدره من توجيهات وتكاليف طوال 18 شهراً وأنا والي ولاية يحكمها قانون الطوارئ ويظللها حرب وضرب وتخريب ومعاناة المحكوم والحاكم.. تذكرت مدى اخلاصه وحرصه ونجاحه في أداء مهام تشعبت وتعقدت وتتابعت بلا هوادة! التحقيق مع المتمردين، متابعة أضرار المتضررين، وشؤون النازحين وقضايا التهريب، والمحاكم وقضاياها المدنية والجنائية ومسائل المجلس التشريعي وهو مستشاره القانوني يحضر جميع جلساته الطويلة ويتابع خطوات لجانه وغيرها. كيف له أن يجد وقتاً يكفي لأداء تلك الواجبات والمهام الملزمة ويوفيها حقها كاملاً دع عنك الدراسة والتحضير لنيل الدكتوراه في موضوع بعيد كل البُعد عن تلك الدوامة التي تحيط به!! كيف؟ بيد أن شيوخ الصوفية والسابقين يقولون (كلِّف مشغول)!!.

بنظري أنه كان بإمكانه إن أراد أن يعد دراسة تخرج بتجربته لتسع سنوات في الولاية فلديه معرفة زاخرة بأعراف وتقاليد الولاية مقروءة مع القوانين السائلة التي تتعارض احياناً مع الأعراف، وتقاليد المجموعات الإثنية والقبلية، وكريم المعتقدات الإنسانية لكنه سلك طريقاً آخر صعباً وأجبر نفسه لسبر غوره ويبحر عبر لججه ليُخرج ما ينفع الناس.. كل الناس!. بروفيسور (الدوش المناقش الخارجي) افتتح حديثه بـهدهدة قصيرة جداً.. ولم يلبث أن كشر عن أنيابه ولم يكن وإن بدا كذلك مبتسماً فنبرات صوته الهادئة باستمرار لم تكشف من خلال ما سمعنا إلا عن جدية وعمق يشبه الصرامة العلمية، بروف الدوش العالم الفذ والعارف بتطور التقانة وعلومها الملم أيضاً بما يجري في الساحة من محاولات إسناد التشريعات في العالم لتلاحق ذلك التطور مع التشريعات السائدة، والتي لابد لها أن تعدل، لتواكب النقلات النوعية المتسارعة لعلوم التقانة. هنا نقف أمام جراح يحمل مبضعه ويغوص في جوف بحث صديقي الطالب عبد الفتاح فلا يترك شاردة أو واردة إلا وأخذها بقوة. لم يتردد أبداً في إبراز مواطن الضعف والوهن، بل ورصد أخطاء اللغة (نحوية واملائية) لكنه مع نقده المتواصل الحار كان يشير بتقدير الى أماكن القوة في الدراسة. ويبدي بعض الملاحظات والأفكار التي تقوي البحث وتثريه فتضيف اليه ولا تخصم منه. إلا أنه ختم مداخلته الطويلة المزعجة بتوصيات عديدة وأساسية رأى ضرورة إلحاقها بالبحث، إن رأت اللجنة أن الدراسة يمكن اجازتها! نعم إن رأت اللجنة إجازتها! وقد لا ترى. ههنا وجف قلبي ونظرت صوب الطالب عبد الفتاح مولانا فإذا هو منكب على أوراق أمامه يسجل ما يسمع في هدوء تام، عهدته فيه في كل الظروف، أما شهود الملحمة فكانوا قسطاطان احدهما مثلي مشفق ووجل والآخر هادئ كأن لم يسمع شيئاً مما قاله بروف الدوش أو أنه سمع ووعى وأيد! وأن ما سمعوه هو حقائق علمية اعتادوا على سماعها وتقبلها!

وجاء بروفيسور جلال الدين بانقا الجعلي المناقش الداخلي فافتتح تعليقه بما انبأ عن نتيجة رأيه. اذ اعلن تأييده لكل ما اورده من سبقه دون تحفظ. وزاد عليه من الملاحظات والتعليقات، وقليلاً جدًا من الثناء على البحث. وطرح آراء جديدة تخلق التشريعات في ظل التطور التقني، وبالتالي البشرى في مجالات المعاملات الاقتصادية و القانونية وغيرها. وضرورة التركيز على مواكبة القوانين السائدة لهذا التطور المتسارع.. وهو بهذا الذي ابداه، لم يقلل من وجلي واشفاقي على صديقي القادم من اقصى الصعيد، ليضع بين يدي اولاد جعل، بكلية القانون كسبه خلال خمس سنوات، في بحث نادر مطلوب ومرغوب فيه.. فأفصحت لأحدهم يجلس قريبًا مني عن مشاعري وخوفي، فاجاب بابتسامة بادية: لا مجاملة في العلم (وأدار وجهه بعيدًا اظنه جعلي هو الآخر.. وعالم كمان!!) وصلت الآن إلى حقيقة (انهم يسلخون النملة!!) ذاك الفعل المستحيل الذي يردده أهل المنطقة في أشعارهم عند أسمارهم والأيام والظروف الصعبة وعند الصدام.. ما كنت أحسب أن سلخ جلد النملة، يمكن أن يكون في تلك القاعة الأنيقة، وفي حضرة أصدقاء (الطالب) العلماء الأجلاء الذين جاءوا ليسعدوا بنيله درجة الدكتوراه.. لكن واقع الحال، حتى تلك اللحظة جعلني أدرك أن الغاية المرتجاة بعيدة المنال.. ومع هذا لم أفقد الأمل.. فمن فقد الأمل ضاع وأضاع!!! والأمل ضياء البصيرة. جاء دور المناقش الثالث.. المشرف على البحث ورئيس لجنة المناقشة أ.د وليد عبدون القادم من السعودية. وظننته السند والعضد لصديقي ولي.. إلا أنه سار في ذات سكة من سبقه وأرى.. عجبًا..!! لا بل كان ينبغي ألا أعجب: (لا مجاملة في العلم) فالمشرف يوجه الدارس لاتباع المنهج العلمي، ولا يدخل في تفاصيل ما يرد من أفكار وحُجج!! كيف لا أعجب يا ناس؟! بروفسور عبدون بعد أن أفرغ ما عنده من آراء وملاحظات وهو رئيس اللجنة، أجمل بترتيب دقيق وخبرة بينة جملة ما أبدته اللجنة من توصيات. وما ينبغي أن تدخل على الدراسة من تعديلات. ثم طلب من الحضور. إعطاء اللجنة بعض الوقت للتشاور حول قرارها المنتظر..

دقائق قليلة – بحساب الوقت – امضتها اللجنة. بدت لنا دهرًا طويلاً.. ثم نادى رئيس اللجنة معلنًا بدء الجلسة وقال:
(قررت اللجنة اجازة الدراسة المقدمة من الطالب عبدالفتاح سليمان ومنحه لقب دكتور!) بنفس الهدوء قابل مولانا عبد الفتاح القرار ولم يضف سوى بسمة مثل بسمة نبي الله سليمان مما قالت النملة: (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) صدق الله العظيم. النمل الاية 18. ثبت ان النملة من مادة السيلكون، تحطم، ولا يمكن لامرئ ان يسلخ جلدها المزعوم .. ولكنا شهدنا ذلك الفعل بصورة اخرى!!. دكتور عبد الفتاح.. فتح كوة جديدة في مجال العلم والمعرفة، وتوصل للعدل وتعين اهله والناس ليقوم على قواعد تنصف صاحب الحق وتحذر المعتدي.. وتنفع الناس.. اما كلية القانون في (متمة ود سعد) فقد غادرتها سعيدًا للغاية وفي حال احترام شديد وتقدير لإدارتها ولجنة المناقشة التي لم تأنف أن تجعل من (سلخ النملة، في المتمة) حقيقة معنوية ماثلة.. اذكرها ما حييت، كلما ذكرت المتمة.. متمة ود سعد.. وافكر في انتظار أن أشهد ــ هناك أيضًا ــ لبن الطيور ينخج!!. انني أحمد الله على قضاء سويعات في رحاب العلم والعلماء بكلية القانون/ جامعة شندي بالمتمة إذ شعرت خلالها، أنني بين جماعة منسجمة تشيع الفة وودًا ومحبة.. فعدت وكأني أعرفهم منذ أمدٍ بعيد.

صحيفة الإنتباهة[/JUSTIFY]

‫3 تعليقات

  1. بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام علي أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين ،،، ثم اما بعد

    بعد الإطلاع علي هذا السرد المتماسك والوصف الرصين لهده الرحلة المباركه الي مدينة ود سعد ووصف الشعور الذي ساد تلك اللحظات بما يجوش في نفس الرواي ،،،من إلفة ومودة بين ذلك الربع الذي إلتئم في تلك البقعة المباركة(المتمة) لذلك الهدف النبيل ،،،عليه أبارك للتلميذ والطالب النجيب ،،،

    الهادي بشري علي نيله الدكتوراه التي يستحقها من شخصنا الضعيف ،،، كما نبارك للطالب عبد الفتاح / درجة الدكتوراه ،،،

    ونسال الله ان ينفع بهذا العمل امة السودان والالإسلام جميع،

    هاشم العشير

  2. والله لقد أسعدني هذا الانطباع الجيد والطيب عن بلدي شندي , وعن المتمة , وعن جامعتي التي كنت استاذا بها لمدة ست سنوات كاملة قبل ان تهب علينا رياح الغربة فتأخذنا بعيدا , وحالنا حينها كحال طفل انتزع من أمه غصبا وقهرا , فوالله إني وأنا أكتب هذه الكلمات دمعة حرى تسقط من عيني , وقد حق لها ان تسقط , فشندي هي صورة مصغرة لكل أهل السودان بقبائلهم وأطيافهم المختلفة وصفاتهم وخصائصهم وخلقهم , جودهم وكرمهم , نبلهم وشهامتهم , فجزاك الله ألف خير اللواء الركن م الهادي بشرى على هذه الكلمات الطيبات , ووفقكم الله وسدد خطاكم .