رأي ومقالات

عبد الماجد: تتحول بنوكنا إلى أكشاك تبيع الرصيد وتبيع الكهرباء والقنوات الفضائية، وربما تعلن عن بيع الدكوة بالطرادة والقضيم بالتعريفة.. أو تبيع حلاوة قطن أو موية بالكوز في ميدان شروني

عزيزي القارئ حاول أن تتمعن جيداً في إعلان صادر عن أحد البنوك.. وستجده يقول إن هذا البنك العملاق والضخم جداً سوف يساعدك ــ يا عزيزي المواطن ــ على أن تشتري الكهرباء.. لا تنزعج يا مواطن فإذا كنت كسلان أو «فتران» أو «عيّان» أو ما عايز تقوم من العنقريب.. وعايز «بس ترقد على قفاك» يمكنك أن تطلب من البنك «بجلالة قدره» أن يبيع لك الكهرباء.. والبنك بما عنده من تجهيزات الكترونية وأدوات متقدمة و«تقانات» مبتكرة سوف يدفع لناس الكهرباء ويجيب ليك الكهرباء في موبايلك.. إذن فإن هذا البنك قد تخصص في بيع الكهرباء بالمتر ونصف المتر وبالكيلووات وربما بالكيلوفولت.. والمهتمون بالشأن الاقتصادي يرون أن هذه الأعمال لا تشبه البنوك.. ويمكن أن يقوم بها أي كشك «شغال فيهو ولد» في أي ركن من مربوع في شارع مهجور بقرية شلعوها» أو قرية زقلونا.. ويقولون إن مهمة البنك أكبر وأخطر من أن يتفرغ لبيع الكهرباء بالموبايلات.
وإذا تمعنت مرة أخرى و«رخيت» أضانك سوف تسمع إعلانات بنك آخر في الإذاعات والتلفزيونات وهي تقول إن «البنك» يقدم خدمته على مدى أربع وعشرين ساعة في مجال تغذية التلفونات المحمولة.. يعني إذا حدث أن «رصيدك إتلحس» في أية ساعة متأخرة من الليل ما عليك إلا أن «تدوس» النجمة وتدوس النمرة وتطلب الرصيد.. وناس البنك بما لديهم من تقانات وتفاهمات وإمكانيات مستعدون لكي يغذوا الرصيد في تلفونك وبسرعة فائقة وتستمر تتكلم في الفاضي و «الحسابة تحسب». والاقتصاديون يقولون إن هذا العمل لا يشبه عمل البنوك.. ويمكن أن يقوم به خريج مدرسة ابتدائية أو فاقد «تربوي» في أي رأس شارع جوار محطة البنزين.. ومهمة البنوك وعملها الرئيس أخطر وأهم وأكبر من تقديم خدمات الرصيد.
وإذا كنت «فايق ورايق» وما عارف تعمل شنو فاستمع إلى «دعاية» البنك الضخم جداً الذي سوف يعدك بتقديم خدمة «ما حصلتش».. تقول الدعاية إن البنك الاستثماري جداً والضخم خالص مستعد أن يوصل لك «القناة الرياضية» المشهورة أو الما مشهورة إذا حدث أنها «قطعت» أو إذا كنت تريد توصيلها.. أو إذا كان رصيدها انتهى.. والبنك بجلالة قدره لديه من الامكانات والتقانات ما يجعله يساعدك فوراً على توصيل أو إعادة توصيل القناة الرياضية.. وكبار أهل الاقتصاد يقولون إن هذا لا يشبه رسالة البنوك.. ويمكن أن يقوم به «كشك» يديره أي خريج ابتدائي في أي ميدان من أي حي في السامراب أو الدروشاب أو الشقيلاب بالنص.. ويقولون إن مهمة هذا البنك الضخم الاستثماري أخطر وأكبر وأجل وأعظم من توصيل القناة الرياضية أو إعادة توصيلها..
وإعلان موجه إليك إذا كنت ما عارف تعمل شنو؟! وأمك عايزة تمشي العُمْرة… فما عليك إلاّ أن تتصل بذلك البنك الذي يبدو أنه تفرغ ليساعد أمك على السفر للعمرة أو الحج وكمان بالأقساط.. والبنك «سايب شغله» الأساس ومتفرغ إلى التنافس مع ناس الوكالات والدكاكين لتقديم خدمات التذاكر والعمرة والحج «لناس أمك».
وأهل التنمية الاستراتيجية يقولون إن البنوك عليها أن تقدم التمويل بأولويات أهمها التنمية الزراعية والبنيات الأساسية وتحريك دولاب الإنتاج.. وعليها أن تهتم بل تتفرغ لتمويل المصانع والمزارع والمنشآت.
ولعل السيد وزير الصناعة ومعه وزير الزراعة يقوم ذات يوم بدعوة كل مديري البنوك ومديري الاستثمار ويأخذهم في بص كبير ويذهب بهم إلى المنطقة الصناعية في بحري أو الخرطوم القديمة أو الصناعية في سوبا والباقير.. ثم يتفقد معهم المصانع المعطلة والمداخن الحزينة والماكينات الصامتة.. ومن بعض بنوكنا وعددها ستة وثلاثون بنكاً ومن ورائها أكثر من ستمائة فرع.. يختار بعضهم أن يتكفل بإعادة تشغيل مصانع الزيوت وبعضهم يقوم بإعادة تشغيل مصانع الأغذية وآخرون يقومون بتشغيل مصانع الآلات الزراعية.. وبالطبع كل هذه المصانع آلاتها جيدّة وضماناتها متوفرة في مبانيها ومنشآتها.. ولكن يبدو أن معظم مصارفنا تريد أن تترك مهمتها الأساسية ولا تجد غير أن تبيع رصيد التلفون وتبيع رصيد الكهرباء وتبيع رصيد القنوات الرياضية.. ولا نستبعد أن نقرأ إعلاناً في الصحف والقنوات أو ملصقاً في بوستر ضخم من أحد البنوك يقول «نحن نبيعك الدكوة ونحن نبيعك القضيم.. ونحن نبيعك ديانا يا الغبيانة.. ونحن نبيعك ـ الوَدَكْ ـ والمسوح والريحة بالإجمالي والقطاعي على طريقة قدِّر ظروفك.. فتعال ومعك آخرون.. فنحن بتاعين كُلُّو»… ولا نحتاج أن نكرر أن على بنوكنا أن «تشوف» المصانع المعطلة.. وأن تستصلح الأراضي البور.. وأن تستخرج المياه للرى وأن ترعى المستشفيات ومحطات الكهرباء والطرق والجسور والكباري والسدود والخزانات والآبار الجوفية والصناعة الحرفية.. وألا تترك كل ذلك للبنوك المتخصصة فقط.
يا جماعة «والله العظيم» مهمة البنوك أخطر وأهم من مهمة الحكومة.. ودور البنوك أجل وأخطر من دور الوزارات كلها.. والجهاز المصرفي إما أن يكون هو المحرك للاقتصاد أو أن يكون هو السبب الرئيس في الشل والتردي والضعف والانهيار الاقتصادي والاجتماعي وكذلك السياسي.. والسؤال هو كيف نستطيع أن نحرك الطاقة الكامنة في الجهاز المصرفي ونوجهها لمصلحة تحريك عجلة التنمية؟! وإذا لم نفعل ذلك سوف تتحول بنوكنا إلى أكشاك تبيع الرصيد وتبيع الكهرباء والقنوات الفضائية، وربما تعلن عن بيع الدكوة بالطرادة والقضيم بالتعريفة.. أو تبيع حلاوة قطن أو موية بالكوز في ميدان شروني وجاكسون وموقف البصات.
الخرطوم:د.عبدالماجد عبد القادر:الانتباهة

تعليق واحد

  1. انقضى رمضان .. شهر الخير والغفران .. وعدنا لقراءة الأعمدة المهببة ..منتهى السطحية .. التقدم الهائل فى تكنلوجيا الأتصال اتاح فى كل العالم اتمام جميع العمليات المصرفية وعمليات البيع والشراء عن طريق الهاتف او شبكات الأتصال المصرفى عبر الأنترنت .. ما تقوم وتعلن عنه بنوكنا حاليا معمول به فى كل دول العالم المتخلفة والمتقدمة معا .. منفعة اقتصادية كبرى وتوفير جهد ومال ووقت اتاحته تكنلوجيا الأتصال عبر وسائل مختلفة بالبنوك وانت داخل منزلك او مكتبك او حتى فى سيارتك .. نعم ان من اولويات العمل المصرفى هى عمليات التمويل لآقامة المشاريع الأنتاجية الكبرى .. ولكن فى بلد تنعدم فيه مفاهيم ومدلولات ما تعنيه كلمة اقتصاد تصبح مثل هذه الأولويات من المستحيلات .. عن اى تمويل تتحدث فى بلد صارت تكلفة طباعة عملة ورقية فيه اكبر من قيمتها الفعلية .. ظروف البلد وقرارات رئيسها ومحافظ بنكها المركزى ليست سوى مجرد حبر على ورق .. فساد المسئولين والحزب الحاكم .. المحسوبية .. والأبواق والمطبلين من صحافى الغفلة .. كلها عوامل تجعل من السودان بلد خارج المنظومة الأقتصادية المتعارف عليها.. من حق البنوك ان تصبح اكشاك فى بلد غارق فى الفوضى وتدار حكومته كما يدار السوبرماركت !!!!