تحقيقات وتقارير
الدمازين بين «عقار» و «أبو سروال» (2-2)
لا تبدو الحركة الشعبية في النيل الأزرق تملك قاعدة تسندها، ولا مجموعة كبيرة من السكان (تواليها) حتى تقاتل، والنيل الأزرق هي نسيج متعدد وفسيفساء لقبائل، لبعضها امتدادات داخل دولة الجنوب مثل البرون والأروك، ولأخرى جذور في أثيوبيا كالبني شنقول وفازوغلي وحتى (البرتا).. وتمازجت قبائل رفاعة والهمج والقمز والعركيين وأنجب التمازج الوطاويط وغيرهم من المجموعات السكانية.. ومثلث المنطقة بثراء مواردها الطبيعية عنصر جذب لقبائل وفدت من غرب السودان كالفلاتة والبرنو والبرقو.. وأخرى من الشمال كالدناقلة والحلفاويين والشايقية وبضع من الجعليين، وشكل هذا التعدد مصدر قوة للدولة ومصدر ضعف للتمرد الذي لم يجد قاعدة قبلية عريضة يتكئ عليها مثلما هو الحال في جبال النوبة، حيث تعدّ قبائل النوبة هي القاعدة العريضة للتمرد والأصل والعظم الذي اكتسى باللحم، حيث تمردت فيما بعد مجموعات من حاملي السلاح محسوبة على القبائل العربية!!
وتاريخ الاحتجاجات السياسية في النيل الأزرق يعود إلى حقبة السبعينيات ونهايات الستينيات، حيث نشأ اتحاد جنوب الفونج الذي لم تتعد مطالبه أن تنال المجموعات السكانية في النيل الأزرق نسبة من أرضها التي تم توزيعها للتجار ورأس المال القادم من خارج المنطقة بما عرف بحقبة الزراعة الآلية، وتسبب توزيع أراضي النوبة والنيل الأزرق للرأسمالية الوطنية في (كوارث) ومصائب سياسية يدفع ثمنها السودان حتى اليوم، فأخطاء (أفندية) «جعفر نميري» هي التي أرهقت كثيراً من أرواح السودانيين، ولو امتلكت الحكومات الوطنية المتعاقبة شجاعة كالتي تحلى بها الأستاذ «علي عثمان محمد طه» وفريقه المفاوض عام 2005م في نيفاشا بالاعتراف بالأخطاء التاريخية، لحُقنت دماء أريقت حتى أدت إلى جفاف الضرع والزرع وأمسكت السماء ماءها عن الهملان كما قال الرئيس «عمر البشير» بنفسه في رمضان الماضي.
وساهم وجود قائد عسكري في بواكير أيام التمرد كاللواء «يحيى محمد خير» في خوض معارك (قصم ظهر التمرد) باحترافية وحماس وتخطيط.. ولكن التمرد في النيل الأزرق دفع (فاتورة) وجود «عقار» في السلطة، حيث (يئس) الناس من حكم «عقار» وممارساته وأرستقراطيته، بينما في جبال النوبة يمتد تاريخ نهوض الحركات الاحتجاجية إلى ما قبل الديمقراطية الثانية 64-1969م، والشخصية (النوبية) بقلقها وتطلعاتها السياسية جعلت النوبة مشاركين في كل الانقلابات العسكرية منذ انقلاب «إبراهيم عبود» وحتى آخر انقلاب في السودان الذي اتهم بتدبيره العميد «محمد إبراهيم عبد الجليل» (ود إبراهيم) عطفاً على تاريخ الحركة السياسية في جبال النوبة مقارنة بالنيل الأزرق، التي كانت حديقة خلفية للحزب الاتحادي الديمقراطي.
{ د. «فرح عقار».. قصة مثيرة
إذا كان تمرد الوالي «مالك عقار» مثيراً وغير متوقع بحسابات السياسة ومكاسب الرجل واستثماراته وأملاكه مقارنة بالقائد «عبد العزيز الحلو» الذي ما كان يملك منزلاً في الخرطوم ولا سيارة في كادوقلي ولا حساباً مصرفياً في الداخل، فقد باغتته- «مالك عقار»- أحداث كادوقلي، وخرج من الدمازين بلا رؤية أو تخطيط مسبق لتمرد كحال صديقه «الحلو» في عاصمة الجبال.. وبتوقيع الدكتور «نافع علي نافع» على اتفاق أديس أبابا الذي وجد الدعم والسند من أهل المنطقتين ورفضته العصبة (المتنفذة) في مفاصل الدولة والحزب و(قبره) الرئيس بنفسه في مسجد النور يوم عودته من الصين، فإن اتفاق (نافع عقار) وجد التأييد والقناعة من قبل قيادات المنطقتين في المؤتمر الوطني، ولكن كثيراً من هؤلاء (آثروا) السير جوار الحائط الآمن، وقدروا أن مصالحهم الآنية في رفض الاتفاق ومصالحهم الإستراتيجية في دعمه!! ولكن لم يفعل ذلك الدكتور «فرح عقار» القيادي في النيل الأزرق ووزير الدولة بالثقافة والإعلام الأسبق، والمرشح الذي خاض الانتخابات في مواجهة «مالك عقار»، و(ثار) جدل في الساحة عن تنازل المؤتمر الوطني (باطنياً) عن منصب الوالي لـ»عقار» الحليف والقبول بخسارة بفعل فاعل امتدت أياديه لصناديق الانتخابات عبثاً وتزويراً، لكن د. «فرح عقار» لم يشأ التشكيك في نتيجة الانتخابات وارتضى فوز «مالك» الذي لا رابط بينهما إلا الاسم «عقار».. وغداة توقيع اتفاق (نافع عقار) في أديس أبابا، وقف د. «فرح عقار» جاهراً بتأييده للاتفاق و(ناقداً) وناقماً على جيوب (التطرف) داخل حزب المؤتمر الوطني التي (وأدت) الاتفاق واختارت الحرب.. وباعد موقف «فرح عقار» بينه ونائب رئيس المؤتمر الوطني بالنيل الأزرق «عبد الرحمن أبو مدين» والوالي حينذاك «الهادي بشرى»، (لتتراكم) سحب الخلافات وتمطر لاحقاً قراراً بفصل «فرح عقار» من حزب المؤتمر الوطني بتهم غليظة، ولم يتسن للرجل الدفاع عن نفسه في المنابر العامة ولا داخل أروقة حزبه كما قال.
بعد الوصول إلى الدمازين بحثت عن رقم هاتف الرجل ودليل يقودني إلى منزله.. و»فرح عقار» في الدمازين (رقم) ورجل يعرفه القاصي البعيد والداني.. وسألت صديقاً حميماً وأخاً صدوقاً، آخر لقاء بيننا كان في مكتب د. «خليل إبراهيم» بوزارة التخطيط الاجتماعي قبل أن يحمل سلاحه ويتمرد ويبقى الأخ المجاهد «عبد الشافع» موظفاً في أضابير الدولة .. قال لي: «فرح عقار» في الدمازين مثل «الصادق المهدي» في ود نوباوي، و»سيد أحمد الحسين» في الخرطوم، و»إبراهيم السنوسي» في الأبيض.. وتبرع بعض خصوم الرجل أو مناصريه بمعلومات عن زواج الرجل حديثاً من إحدى حسان المدينة.. وكانت دوافع الأخوين «حسن البطري» و»الصادق الرزيقي» محفزاً إضافياً للبحث عن رجل دخل في دهاليز الصمت وانزوى بعيداً يراقب سفينة الحكم التي ترجل منها بغير رغبته، وقطار الحزب الذي أمره السائق و(الكمساري) فيه بالنزول قبل الوصول إلى محطته التي يبتغيها.. والسماء ترسل ماءها ورعدها، والطين والوحل يحفر في الذاكرة عميقاً صورة مدن نحبها ونعشقها ونموت في أحضانها.. كانت الدمازين قريبة من ملكال والناصر والرنك وكادوقلي والدلنج، من حيث الطبيعة والسكان والمفاتن والعطر والدخان المتصاعد من وراء الحيشان لطرد الناموس والبعوض.. في منزل بدت عليه النعمة الظاهرة.. والحداثة، استقبلنا «فرح عقار» بوسامة.. وابتسامة.. جلباب أصفر وطاقية بيضاء.. ووجه تقرأ في أعماقه الحزن الدفين وفي ظاهره الفرح بقدوم ضيوف منتصف النهار.. ينبعث من المنزل عطر عروس وآثار ضيوف كثر يترددون على «فرح عقار».. في الصالون الفسيح وضع «عقار» صورة كبيرة للرئيس «البشير».. هي ذات الصورة التي تم اختيارها في الحملة الانتخابية تقابلها صورة لـ»فرح عقار» برباط عنق أبيض وبدلة سوداء.. سألت الرجل: أنت مفصول من المؤتمر الوطني ولا تزال آثاره باقية بمنزلك!! ضحك وقال: هم فصلوني تنظيمياً من الحزب ولكنهم فشلوا في نزع انتمائي الفكري والثقافي للحركة الإسلامية، وقناعتي حتى اللحظة أن المؤتمر الوطني حزب مؤهل ليقود التغيير في البلاد، ولا بديل له في الساحة الآن!!
بدأ «فرح عقار» يتحدث بلا قيود.. قال بنبرة حزينة: أنا لم أخن المؤتمر الوطني وزيراً أو نائباً في البرلمان أو مفاوضاً في (نيفاشا)، ولكني مارست التفكير جهراً في كيفية حل قضية منطقتي النيل الأزرق وبلدي السودان.. ما الذي يجعل الحكمة والوطنية والحرص على البلاد تصبغ أفعال وأقوال قيادات.. ولا تجعل «فرح عقار» يفكر فقط في مستقبل وطنه الكبير وولايته الصغيرة النيل الأزرق؟؟ ما حدث قصة طويلة فصولها متعددة وأسبابها معروفة للجميع.. أنا جمعت كل وثائق اتفاقية السلام الشامل من اتفاق (مشاكوس)، واتفاق (الترتيبات الأمنية والعسكرية)، و(بروتوكول حل النزاع في المنطقتين)، و(دستور النيل الأزرق الانتقالي) الذي تمت مواءمته في وزارة العدل، وأصدر مولانا «زمراوي» شهادة بأن الدستور يتوافق مع الدستور القومي الذي هو اتفاقية السلام الشامل.. وكتب دراسة علمية عن مفهوم الحكم الذاتي الذي ورد في دستور الولاية الانتقالي، حيث كانت النصوص واضحة بتعريف النيل الأزرق بأنها ولاية تحكم ذاتياً في إطار السودان الموحد.. وحينما وقع السيد د. «نافع علي نافع» و»مالك عقار» على اتفاق أديس أبابا نظرت في نصوص الاتفاق ومراميه ووجدت أن أسباب رفضه غير مقنعة بالنسبة لي.. وأن رفع شعارات من قبل حزب حاكم كالمؤتمر الوطني تقول (لا تفاوض ولا اعتراف بقطاع الشمال) موقف غير عقلاني.. وقرار مجلس الأمن (2046) الذي وافقت عليه الحكومة وأعلن «علي كرتي» وزير الخارجية التزامه به.. كل هذا شكل حيثيات موضوعية لكتابة مبادرة، طرحتها على بعض القيادات السياسية، توجس منها في البدء بعض المعارضين وقال إنها من ألاعيب الوطني.. ولكن السيد «أبو مدين» رئيس حزب المؤتمر الوطني في النيل الأزرق كتب مذكرة للحزب في الخرطوم تفيض بالادعاء، وتجرمني مسبقاً، و(تتحرش) بوجودي داخل الحزب، و(تستنصر) بالأجهزة المختصة تطوعاً حتى تم إبعادي من الساحة وفصلي من الحزب.. وقد شكل المهندس «حامد صديق» لجنة لمحاسبتي.. وبكل أسف ضمت اللجنة ثلاثة أعضاء ممن لم يهبهم الله نعمة بعد النظر أو حتى الاستنارة.. رغم أنهم من خريجي الجامعات، ولكنهم (كوادر) تنظيمية تجيد الطاعة والتنفيذ.. تحدثت إليهم عن قضية النيل الأزرق ومآلات الصراع هنا، ومستقبل الحرب في السودان إذا لم نحسن قراءة ما هو قادم في مقبل الأيام.. ولكنهم كانوا لا يسمعون ما نقول ولا يعون ما هو سياسي وما هو تنظيمي داخلي.. (تعجلوا) قرار فصلي.. وحينما بعثت بأحد الشباب لتسليمي قرار الفصل، رفض المؤتمر الوطني في البدء تسليمي القرار، وحينما تسلمته كان عبارة عن ورقة بدون ترويسة أو تاريخ كتب عليها قرار فصلي.
وقال «فرح» إنه لم يلتق بعد قرار فصله بأي من قيادات الحزب، ولكنه مستعد للحوار مع أي شخص يطلبه ليقول وجهة نظره.. وإن الفترة التي أمضاها في الحزب كانت ثرة وبفضله أصبح وزيراً وحظي بالشهرة بفضل الوطني.. وقال: لست نادماً على شيء ولست غاضباً على أحد.. أنا متصالح مع نفسي ومؤمن بأن النيل الأزرق من حقها أن تعيش آمنة!! وتنال حقوقها من التنمية ويرفع عنها الظلم والغبن ولن نصد أنفسنا عن قول الحق، فالمؤتمر الوطني منذ ميلاده وحتى اليوم لم يضم في قيادته العليا من النيل الأزرق اسماً واحداً، ولا في أمناء الأمانات شخصاً من النيل الأزرق، ولا في مكتبه القيادي عضواً من النيل الأزرق.. دع الحديث عن الدولة التي لا وجود لنا في أغلب أجهزتها، وحتى وكلاء الوزارات ومديري الشركات، وداخل أجهزة الدولة في الدمازين.. نحن ضيوف هنا. خرجنا من منزل الدكتور «فرح عقار» والأسئلة تتداعى، والمشهد يبدو حزيناً.. كيف خسر الوطني رجلاً إذا كسبه الآخرون أضاف إليهم كثيراً؟؟ إنه يحتفظ في غرفته الخاصة بصورة الرئيس «البشير»، فقال «حسن البطري»: (يا جماعة في حب بالله اكتر من كدا)!!
في قصر الضيافة الأنيق الذي أنفقت عليه الدولة مالاً وجهداً وسكبت في سبيل نهوضه عرقاً.. سألت الوالي «حسين حمد أبو سروال» عن قصة د. «فرح عقار»، وهل من مبادرة للوالي بصفته رئيساً للمؤتمر الوطني لإعادة النظر في قرار الفصل؟؟ فقال «حسين حمد أبو سروال»: قرار الفصل صدر من الخرطوم لأسباب قدّرتها قيادة الحزب في الخرطوم.. نحن لسنا طرفاً في هذه القضية.. و»فرح عقار» أتيحت له فرصة استئناف القرار ولكنه لم يفعل ذلك، وفقد فرصة المراجعة.. قلت للوالي: كيف هي المقارنة بين د. «عقار» الذي كتب فكرة وأطروحة سياسية عن رؤيته الخاصة لحل مشكلة منطقته ويتم فصله، وآخرين من عضوية المؤتمر الوطني يتهمون بقيادة انقلاب ضد الحكومة وتصدر أحكام بالسجن بحقهم، ويُعفى عنهم وتتم إعادتهم للمؤتمر الوطني.. بينما يظل «فرح عقار» معاقباً؟ قال الوالي: الإجابة ليست عندي؟؟ هنا تبدت المفارقة المدهشة بين قرار وقرار، وموقف وآخر، وقيادي وقيادي، وانقلاب ومذكرة.
خرجت من الدمازين وفي مخيلتي أن المدينة الدافئة الرطبة سيعود إليها بريقها.. وأن ما كتبه «فرح عقار» قد يصبح قريباً جزءاً من الحل بعد أن كان مشكلة أدت لإقصاء الرجل بعيداً عمن يحب!!
يوسف عبد المنان: صحيفة المجهر السياسي
[/JUSTIFY]
شبكة عقار