الضربة السورية تأجلت لهذه الأسباب ..
النقاش كان ساخناً جداً، حيث جادلت بشدة حول عدم قانونية أو شرعية هذه الحرب الأمريكية، واستنادها إلى أكذوبة أسلحة الدمار الشامل، ووجدت تجاوباً من المئات من الخبراء والدبلوماسيين الذين حضروا الندوة من مختلف أنحاء البلاد، ليس لوجودي، وإنما لمشاركة خصمي ومكانته في الإدارة الأمريكية، والرغبة في التعرف على آرائه.
وفي حديث جانبي خاص، وبعد انتهاء المحاضرة، قال لي بيرل إن الإدارة الأمريكية كانت تعرف خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل، وأنها أدركت أن المفتشين الدوليين بقيادة هانز بليكس سيقدمون تقريراً إلى مجلس الأمن يؤكدون فيه هذه الحقيقة، الأمر الذي سيجبرها على رفع الحصار عن العراق، وخروج صدام حسين بطلاً شعبياً، أقوى مما كان عليه، وبما يمكنه من إعادة بناء برامجه من أسلحة الدمار الشامل في غضون خمس سنوات لوجود علمائه الذين يملكون خبرات كبيرة في هذا الصدد.
تذكرت هذه الواقعة، مثلما تذكرت أيضاً منظر كولن باول وزير الخارجية الأمريكي الأسبق وهو يلوح أمام جلسة خاصة لمجلس الأمن قبل الحرب بأيام، بصور قال إنها لمعامل كيميائية وبيولوجية عراقية متنقلة «شاحنات» لتبرير قرار بلاده بشن العدوان لإطاحة نظام الرئيس صدام، واحتلال العراق، تذكرتهما وأنا أشاهد وأراقب إدارة الرئيس أوباما وحلفاءها الإنجليز والفرنسيين وهم يقرعون طبول الحرب في المنطقة مجدداً، استناداً إلى أدلة دامغة لديهم حول مسؤولية النظام السوري عن استخدام أسلحة كيميائية ضد أبناء شعبه في الغوطة الدمشقية.
الاستعدادات لتوجيه حمم الصواريخ والقنابل الأمريكية على أهداف سورية بدأت، والمفتشون الدوليون يقومون بمهامهم على الأرض، ويجمعون الأدلة والقرائن، لتحديد نوعية الأسلحة المستخدمة أولاً، والجهة التي استخدمتها، مما يؤكد أن الرئيس أوباما لا يريد لهؤلاء أن يكملوا مهمتهم بعد أن سمح لهم النظام بالقيام بها، لأنه يملك الأدلة الدامغة.
عندما بحثنا عن هذه الأدلة لدى الرئيس أوباما وحلفائه في لندن وباريس، قالوا لنا إنها إسرائيلية، وإن أجهزة أمن دولة الاحتلال الإسرائيلي رصدت مكالمات بين ضباط سوريين تؤكد استخدامهم لهذه الأسلحة.
نحن لا نبرئ نظام الرئيس الأسد الذي تتهمه المعارضة باستخدام هذه الأسلحة مثلما اتهمت المعارضة العراقية صدام بامتلاكها وتبين كذبها وفبركتها، ولكننا نريد تحقيقاً دولياً محايداً، لأننا لم نعد نثق في كل أجهزة الاستخبارات الغربية ولا حتى في السياسيين الغربيين، أو معظمهم، خاصة من أمثال توني بلير أكبر سياسي كاذب ومزور في التاريخ الحديث.
نعم هناك أكثر من مئة ألف قتيل، نسبة كبيرة منهم سقطوا بقصف النظام وغاراته، والبقية برصاص قوات المعارضة المسلحة وقصفها أيضاً، بأسلحة حصلوا عليها من دول عربية، والمملكة العربية السعودية وقطر على وجه الخصوص، ولكن نحن الآن أمام غزو واحتلال لبلد عربي ربما يؤدي إلى اشتعال حرب إقليمية وربما دولية تؤدي إلى مقتل مئات وربما ملايين الأشخاص. لأن ألسنة لهب هذه الحرب لن تتوقف عند حدود سوريا.
البرلمان البريطاني هزم ديفيد كاميرون رئيس الوزراء الذي أرسل بوارجه الحربية وطائراته المقاتلة إلى قبرص استعداداً للمشاركة في الضربة، هزمه لأنه غير مقتنع بمبررات هذه الحرب القانونية والإنسانية، ولا بالأدلة التي تدين النظام السوري باستخدام الأسلحة الكيميائية. وهناك أكثر من ستين بالمئة من الأمريكيين يتبنون الموقف نفسه.
الرئيس أوباما الذي بات أسير خطوطه الحمراء بدأ يتراجع تدريجياً، وأول الغيث في هذا الصدد إعلانه أمس أنه لم يتخذ قراراً بعد ببدء الحرب وإطلاق الصواريخ لضرب أهداف سورية، ولعله أدرك أنه بات محاصراً بالشكوك في نواياه وصدقيته.
لقد ولى الزمن الذي كانت تحسم فيه الضربات القوية المفاجئة الحروب في العالم، وتدفع بالمستهدفين إلى رفع رايات الاستسلام على غرار ما حدث في حرب عام 1967م، والحروب السهلة بالمعايير والمواصفات القديمة انقرضت أيضاً.
أمريكا والغرب خاضا ثماني حروب في دول عربية وإسلامية على مدى الخمسة عشر عاماً الماضية ربحتها جميعاً، ولكنها انتصارات كلفتها أكثر من خمسة آلاف مليار دولار وما يقرب من سبعة آلاف من جنودها، بالإضافة إلى سمعتها بوصفها دولة غازية معتدية. وما الانهيار الاقتصادي والمالي الذي تعيشه إلا نتيجة لهذه الانتصارات.
ونتحفظ كثيراً على نظرية الضربات المحدودة هذه التي تروج بوصفها أحد خيارات أوباما وأكثرها ترجيحاً، مثلما نتحفظ على العناوين الإنسانية لتبريرها، فجميع الحروب السابقة بدأت تحت الذرائع نفسها، وتطورت إلى احتلالات أو تغيير أنظمة، ولنا في العراق وليبيا وأفغانستان ثلاثة أمثلة، وسوريا لن تكون استثناءً.
أوباما خائف ومتردد لأنه سمع كلامنا وغيرنا في هذا الإطار من قبل، خائف من النتائج لأن سوريا ليست وحدها، وحلفاؤها يدركون جيداً أن هذه الحرب لن تكون بعدها أخرى، ستكون آخر الحروب في المنطقة، وسقوط سوريا يعني سقوطهم أيضاً، مثلما كان سقوط العراق سقوطاً لأنظمة عربية أخرى، وتعزيزاً للهيمنتين الأمريكية والإسرائيلية.
الشاب الجبوري الذي «فبرك» أو فبركت له المخابرات الأمريكية أكذوبة المعامل الكيميائية والبيولوجية العراقية المتنقلة، وخدع باول نفسه، ودفعته إلى الاعتذار عن هذه الأكذوبة علناً، يعمل حالياً خادماً في مطعم »بيرغر كنغ« في إحدى المدن الألمانية، واعترف بأكذوبته التي كلفت شعبه مليون شهيد وخمسة ملايين من الجرحى، ودمرت بلاده ونسيجها وتعايشها الاجتماعي أمام عدسات التلفزة العالمية.
هل سنكتشف دوراً إسرائيلياً، أو فبركة أمريكية لاحقاً؟ وهل سنتعرف مستقبلاً على «جبوري سوري»؟ ولكن بعد خراب سوريا ومقتل مئات الآلاف من أبنائها وربما أبناء الدول المجاورة.
صحيفة الإنتباهة
عبد الباري عطوان