رأي ومقالات

الصادق الرزيقي : مع الشيح أحمدو بمبا وسانت لويس

[JUSTIFY]«أ»
كانت الطائرة الصغيرة ذات المروحتين الصغيرتين الهزيلتين، تبدو كطائرة من ورق تحملها رياح الأطلنطي وتعابثها السحب الداكنة، كطائر من طيور البحر تائه في الآفاق المفتوحة بلا إياب.
والشمس التي تمايلت عن كبد السماء تمد ضفائرها نحو الأفق الغربي البعيد المكفهرّ من سواد السَّحاب، كأنها كانت تراقب هذه الطائرة التي تحتوي اثني عشر شخصاً تحلق على علو منخفض فوق مياه المحيط، متجهة من العاصمة السنغالية داكار إلى مدينة سانت لويس أقصى شمال السنغال على الحدود مع موريتانيا، وكانت سانت لويس هي العاصمة التي أنشأها الاستعمار الفرنسي لإدارة مستعمراته في غرب إفريقيا عام 1659م، وكانت مدينة ناهضة وقوية وقلعة حصينة من قلاع المستعمر، حاول أن يجعل منها ومن بلدان غرب إفريقيا مثل السنغال درة على تاج كما كانت الهند تسمى درة التاج البريطاني في الحقب الاستعمارية البغيضة.

«ب»
لاح أرخبيل من الجزر الصغيرة وسبخات المياه وتعرجات من اليابسة تتخلها ألسنة من مياه البحر وتتمشى في داخلها في اختلاط غريب بين النهر والبحر أفرع صغيرة من نهر السنغال في ما تشب دلتا عظيمة في ذلك المكان..
عبر نافذة الطائرة، كانت مدينة سانت لويس، تظهر كحبات متناثرة من التاريخ الفرنسي المنسي على عرائش الماضي، نزلنا مطارها الصغير المقفر من كل شيء، لا طائرة جاثمة فيه ولا حتى معدات الخدمات الأرضية، فقط مدرج ومكاتب على طرف المدرج وسياج يحميه من الهوام..
أخذتنا السيارات إلى وسط المدينة بعد مرورنا بمزارع وحدائق كثيفة من أشجار جوز الهند والمانغو والباباي والموز، الطرقات فسيحة والمباني الطرفية حديثة نشأت حول المدينة القديمة، الميادين الضيقة والشوارع تغص بحركة دؤوبة للمارّة والمتسعكين في ساعات ما بعد الظهيرة ورائحة البحر وجوِّه الخانق تختلط مع نسمات تهب مع موج نهر السنغال الذي كنا نعبُر فوق جسر قديم يشبه جسري النيل الأبيض والنيل الأزرق الحديديَّين…
دخلنا المدينة القديمة وهي عبارة عن مبانٍ متناسقة في تخطيط متقن من طابقين على طراز المباني الأوربية القديمة التي انتشرت في الكاريبي عمرها يقارب القرنين، الطوابق العلوية تطل من شرفات ضيقة، ومبانٍ حكومية عتيقة تطل علي نهر السنغال ومرفأ لقوارب الصيد يحتضه خليج صغير نافر من شاطئ المحيط الأطلسي، ومدارس عريقة ومسرح لموسيقى الجاز وميناء نهري تنتصب فيه رافعة من عصر البخار وسجن ومقرات للشرطة ورجال الإطفاء ومسجد ومشفى وساحة حكومية على مقربة من مقر عمدة المدينة هو في الأصل مقر للحاكم الفرنسي في زمن الاستعمار قبل الاستقلال.. توجد أشجار في الطرق الرئيسية زُرعت بعناية فائقة حتى تلطف بعبق ورودها وجود الأسر الفرنسية في تلك الأزمنة الدامية..
وسُمِّيت المدينة على كنائس سانت لويس الشهيرة وتوجد عدة مدن بهذا الاسم في الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية وفي فرنسا ومناطق كثيرة في العالم. كما توجد عدة كنائس مسيحية تحمل نفس الاسم..
كأنك تتجول وسط ممرات التاريخ القديم حيث لم يتغير شكل المدينة القديمة، وسعي الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي لإصلاح المدينة وترميم التاريخ المضاع بالتبرع لإصلاح المدينة وصيانة مباني الامبراطورية الفرنسية الاستعمارية البائدة، ودعا الفرنسيين لشراء بيوت المدينة حتى يظل النبض المارسيليزي حياً في عروق الأرض الإفريقية..

«ت»
لاحظنا ونحن نتجول في طرقات المدينة على ظهر عربات كارو سياحية بعد لقائنا مع وزير الاتصالات السنغالي وعمدة المدينة في نفس الوقت ونحن وفد برفقة المهندس إيهاب إبراهيم عثمان رئيس مجموعة سوداتل، أن هناك حالة من الاستعدادات لأهالي المدينة أمام المنازل وتوجد أعداد كبيرة من الخراف والثيران تربض أمام البيوت في منظر يشابه الاستعدادات لعيد الأضحى المبارك، الأطفال يتقافزون في الطرقات والملابس المغسولة نُشرت على حبال فوق الأسطح والشرفات وبين الأشجار وفي أطراف الطرقات، والمحلات التجارية البسيطة ذات الأرفف الخشبية والسقوف والمشربيات المتهالكة تضج بحركة البيع والشراء..
كان المشهد غريباً لمدينة تستعد كما يبدو من استعدادات سكانها لاحتفال كبير، وهناك بالفعل سرادق نُصبت في كثير من الطرق حتى إن عربات الحنطور التي أخذتنا في رحلة سياحية كانت تجد صعوبة في المضي بين الشوارع والأزقة الضيقة.. والمساجد في المدينة ترتفع منها أصوات المتضرعين وما يشبه المديح النبوي والتهليلات والتكبيرات عبر مكبرات الصوت..
كل شيء بدا غريباً.. عجيباً.. مدهشاً..

«ث»
سألنا أحد مرافقينا من موظفي بلدية المدينة فأجاب بالفرنسية، تُرجمت لنا بواسطة محفوظ الموريتاني الذي كان برفقتنا، أن المدينة تحتفل كلها في عيد رسمي يوم غد ويصادف الخامس من سبتمبر من كل عام… بركتي صلاة للشيخ أحمد بمبا مؤسس الطريقة المريدية في السنغال وأحد أهم الرموز الإسلامية والدعاة والفقهاء في غرب إفريقيا ومؤسس مدينة طوبا الإسلامية المعروفة في وسط السنغال!!
وقال مضيفنا إن الناس هنا يستعدون من فترة بتجهيز الخراف والماعز والأبقار خاصة العجول المسمنة، لإحياء هذه الذكرى ويسمى يوم الركعتين!!
ازداد عجبنا، فالشيح أحمدو بمبا.. معروف في سجلات التاريخ اسمه، أحمد بن محمد بن حبيب الله، من أسرة دينية عريقة في السنغال من أبرز بيوت الإسلام في الغرب الإفريقي، وُلد في العام 1853 وتوفي «1927م».. وهو مؤسس أكبر طريقة صوفية في السنغال بعد الطريقة التجانية، ويعد من رموز النضال ضد الاستعمار الفرنسي وواجه المستعمرين حرباً بالدعوة واللسان وتحريض المسلمين في غرب إفريقيا لنيل حريتهم، وله العديد من المؤلفات في الفقه والعبادات والتوحيد والعقيدة والدعوة، نفاه المستعمرون الفرنسيون من بلاده إلى الغابون بعد معارك ضارية ومواجهات 1895م، وبعد أن أسس في 1887 مدينة طوبا لتكون عاصمة له ولمريديه من طائفة المريدية الصوفية وبنى مسجدًا يُعد من أكبر مساجد غرب إفريقيا، وخشي المستمر من امتدادات نفوذه إلى كل مناطق السنغال العالم الفرانكفوني الغارق في ظلمات المستعمِر، وعاد لبلاده من الغبون ونُفي مرة أخرى إلي موريتانيا.. ثم عاد عودة مظفرة لبلده..

«ج»
وقصة الركعتين التي يتم إحياؤها في مدينة سانت لويس في السنغال وسط تحضيرات وتجهيزات رسمية وشعبية وتقيم فيها الدولة احتفالاً رسمياً وسباقات للدراجات والقوراب النهرية والبحرية وسفن الصيد وتعيش المدينة أياماً احتفالية مبهجة.. فقصتها كما يلي:
عندما رجع الشيخ أحمدو بمبا من منفاه الثاني في موريتانيا بعد أن رضخ المستعمر الفرنسي لمطالبات وتحذيرات زعماء القبائل والعشائر والتجمعات الدينية في موريتانيا والسنغال، طلب الحاكم العسكري الفرنسي أن يأتي الشيخ بمبا إلى سانت لويس ليلتقيا معاً هناك ويريد أن يتفاهم معه من أجل التهدئة وإنهاء نضاله ضد الفرنسيين…
بالفعل أتى الشيخ أحمدو بمبا إلى مقر غريمه الحاكم الفرنسي في سانت لويس، وكان الجنرال الفرنسي المتغطرس، يقف بتعالٍ زائف وسط ضباطه وأتباعه في صالة ضخمة في مقر حكمه منتظراً دخول الشيخ عليه، واقترب الشيخ من مدخل البهو ورأى الحاكم الفرنسي في لجة سلطانه الأجوف، ودلف إلى الباب وبدلاً من أن يمضي إلى الحاكم ليصافحه افترش ثوبه وصلى ركعتين لله وسط ذهول الجنرال الفرنسي وجوقته! وما إن أنهى صلاته قال له المستعمر بلغة مستفزة:
«كيف تتجاهلني وأنا الحاكم هنا ووقفت من أجلك لتصافحني.. فما الذي تفعله في مكتبي..؟؟!»
بكل كبرياء المؤمن وعزته رد عليه الشيخ بمبا:
«لقد كان لديَّ موعد مع من هو أكبر منك ومن بلادك جبروته أكبر منك وعظمته لا تدانيها عظمة… موعدي كان مع الله ربي.. فماذا تسوي أنت..»

«ح»
ومن تلك الحادثة ولعظمة الشيخ بمبا يحتفل المسلمون في مدينة سانت لويس وبعد خروج المستعمر بركعتي الصلاة اللتين صلاهما الشيخ أحمدو بمبا فيذبحون الذبائح وينحرون الخراف والعجول وتعم الاحتفالات سانت لويس وطوبا وكل مدن السنغال.. فأي عزة كانت وأي كبرياء..
وهذا العالم الإسلامي في مناطقه البعيدة المجهولة يضج بالصور الزاهية والقناديل التي تظل تشتعل حتى يرث الله الأرض ومن عليها…

صحيفة الإنتباهة[/JUSTIFY]

‫3 تعليقات

  1. شكلها المرة تكتيفة قوية من غرب افريقيا والتجانيا بالذات
    ونشوف النهاية شنو هل هي قصة اعلامية ولا تميمة رئاسية يا رزيقي ؟؟؟؟

  2. الناس الكانوا زمان كلهم حببوا الناس فى الدين , لكن ناسك هنا هنا ح يطلعوا الناس منو

  3. طوالي انصار السنة بقولوا الركعتين والاحتفال بهم بدعه لانه لم يثبت ان فعلهم حد من السلف يبقي الخلاف علي النص ولا روح النص الراجل شكر الله سنه لا بدعة هنا الاحتفال ليس بعمل ديني وانما بخروج المستعمر وان كان بسبب عظمة صمود الشيخ وصلاته لله شكرا