بيانات ووثائق

خطاب السيد رَئيس الجَمهُورية في الذِكرى الرَابعة لتوقيع اتفاقية السَّلام الشامِل

بسم الله الرحمن الرحيم
خطاب السيد المُشير عُمر حسَنْ أحمد البَشير
رَئيس الجَمهُورية
في الذِكرى الرَابعة لتوقيع اتفاقية السَّلام الشامِل
ملكال 9 يناير 2009م
أخي الكريم الفريق أول سلفاكير ميارديت
النائب الأول لرئيس الجمهورية ورئيس حكومة جنوب السودان
المواطنون الكرام،،
إنه لمن جميل الصدف أن نلتقي اليوم وبلادنا قد فرغت لتوها من الاحتفاء بأعياد أربعة: عيد الأضحى، وعيد ميلاد المسيح، وعيد رأس السنة الهجرية، وعيد الاستقلال، ولعل في توالي هذه الأعياد ما يبعث على الاستبشار لأن في هذه المناسبات جميعاً دروساً وعبراً، كما هي نقاط بارزة في حياة الإنسان يتوقف عندها ليستلهم منها العبر والدروس، ويسائلُ النفس: أين كنت بالأمس وإلى أين أسير.
المواطنون الكرام،،
في مثل هذا اليوم منذ أربعة أعوام، دخل السودان مرحلة جديدة كان، وما زال، أملنا أن تكون فاتحة عهد ينتهي فيه إلى الأبد ما مُنيت به بلادُنا منذ استقلالها من تشتت في الرأي، واضطراب في الحكم، وفقدان للبوصلة الهادية، ذلك الوضع المؤسي أقعد وطننا العبقري عن احتلال مكانته تحت الشمس من بعد أن كان قُبةُ الدنيا في هذا الوادي الخصيب. فالسودان بلد ذو تاريخ عريق يعود إلى ممالك النوبة التي أنشأت إلى جانب الحضارة الفرعونية أولى حضارات الإنسان على ضفاف النيل. كما يعود إلى الممالك الإسلامية من سنار إلى دارفور التي وحدت أهله على هوى واحد، وأشاعت في قلب إفريقيا جميل الخلال وكريم الأخلاق بقبس من نور الله جل وعلا. هذا التاريخ المجيد بناه الأقدمون بالإعجاز، ولئن قصّرنا في الحفاظ على مواريثه فلن يكون ذلك إلا لعجز منا، وشتان ما بين الإعجاز والعجز، وحقاً، لو عجزنا عن ذلك فإن أنفسنا نلوم، لأن الله لا يظلم الناس مثقال ذرة، بل هم ظالمو أنفسهم.
الإخوة المُواطِنون،،
عبر السنوات الماضية ظللنا نبذل الغالي والنفيس حتى يستعيد وطننا العبقري الموقع اللائق به بين الأمم بحكم وضعه الجغرافي الإستراتيجي، وإرثه التاريخي التالد. على أن أكبر مبادراتنا لاستعادة أمجاد هذا الوطن بعزم وإرادة أهل السودان جميعاً، هي الاتفاق الذي نحتفي بذكراه اليوم. ولا أحسب أنني غاليت في القول عندما أعلنت لحظة التوقيع على ذلك الاتفاق أن اتفاقية السلام هي الاستقلال الثاني للسودان. وكيف لا تكون كذلك وقد حققنا عبرها ما ظلت قوى السودان السياسية كلها تتلاحى حوله منذ الاستقلال. مثال ذلك قضايا الحرب والسلام، والحكم الذاتي للجنوب رضي أهله، ووحدة الوطن القائمة على الاختيار الحر لأبنائه، واللامركزية الفاعلة كنظام للحكم في كل السودان، والاعتراف، بل التأطير الدستوري والقانوني، للتنوع الثقافي واللغوي في بلادنا. هذه كلها أمور كنا نتجادل حولها جدلاً اشتدت معه الخصومة حتى كادت أن تأخذنا الصيحة ونحن في جدال عقيم. ومهما قيل عن أن تلك الاتفاقية قد أُبرمت بين طرفين، فإن ذلك ما كان ليحدث لولا الواقع الذي فرضته الحرب. فبدون إنهاء الحرب لن يكون هناك دستور يتراضى عليه الناس، ولن تكون هناك تنمية يتوافق على مقوماتها المواطنون، ولن يكون هناك تحول ديمقراطي، رغم ذلك تداعت إلى الاتفاق وارتضته كمدخل لحل مشاكل السودان جل القوى السياسية السودانية، كان ذلك في اتفاق القاهرة أو اتفاقي أبوجا وأسمرا.
الإخوة المُواطنون،،
هذا الاتفاق التاريخي أيضاً ما كان ليرى النور لولا اعتبارين: الأول هو نفاذ المتفاوضين إلى لب المشاكل التي ظلت تؤرق السودان خلال ما يُقارب نصف القرن من الزمان، والثاني هو الروح الوطني العالي الذي تميز به فريقا التفاوض بحيث انتهى كلاهما إلى الاتفاق على جذر المشكل السوداني ومعالجته بإدراك حصيف لما هو ممكن وما هو عصي على التحقيق في واقع السياسة السودانية بكل حمولاتها الثقافية والدينية والعرقية، لهذا حق لنا بعد أن عبرنا البرزخ من العداوة والبغضاء إلى السلم والإخاء أن نشكر الله على نعمائه: ( وأذكروا نعمة الله عليكم إذ كُنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) صدق الله العظيم.
وبعد شكر الله على نعمائه، الشكر أيضاً مستحب، بل هو واجب ، لمن أمسكوا بدفة سفين التفاوض حتى استوي على الجودي في مرفأ آمن؛ والذي لا يشكر الناس لا يشكر الله. لهؤلاء جميعاً تقديرنا، بل تقدير كل أهل السودان. وإن كان لي أن أشير إلى واحدٍ منهم فذلكم هو الزعيم الراحل جون قرنق دي مابيور الذي شاءت إرادة الله أن لا ينعم بفيوض سلام هو أحد صانعيه.
انقضت، كما قلت أيها الإخوة المواطنون، أربع سنوات منذ توقيع الاتفاقية سالت خلالها مياه غزيرة تحت الجسر، وتعاقبت أمواج على شط النهر. لهذا فإن ما أنجزناه في تلك الفترة يكادُ يشبه الإعجاز. فالكل يعرف أننا في غضون السنوات الأربع الماضية أجزنا الدستور القومي، بل ودساتير الولايات جميعاً كأساس لحكم اتحادي يشمل القطر كله. والحكم الاتحادي، بهذه الصورة، كان مطلباً تعصى تحقيقه في العهود الماضية رغم إلحاف الولايات في المطالبة به. كما أنشأنا حكومة الوحدة الوطنية التي اتسعت لك لراغب في المشاركة، وأقمنا المفوضيات القومية، والتي هي ابتداع دستوري أردنا به خلق جهاز إضافي للمراقبة. أشدنا أيضاً حكومة جنوب السودان التي حققت للجنوب حكماً ذاتياً غير مسبوق، ذلك الحكم لم يتجاوز فقط ما مُنح للجنوب من تفويض لحكم نفسه في الماضي، بل تعدى كل ما تواطأت عليها الأعراف الدستورية حول السلطات الولائية في الدول الاتحادية.
من جانب آخر، أيها المواطنون، مضينا قُدماً في معالجة المشاكل التي طرأت أثناء تطبيق الاتفاقية وكان فيها خلاف. مثال ذلك مشكلة أبيي، وإعادة انتشار القوات، وإحصاء السكان الذي لم يبق لاكتماله غير تحليل النتائج، والبدء في ترسيم الحدود الجغرافية بين الشمال والجنوب. هذه المشاكل جمعاء أفلحنا في تحقيقها عبر المواعين التي أتفق عليها الطرفان دون دفع من أحد، وبروح الشراكة التي أنجبتها الاتفاقية وأوجبتها المواثيق. هذه الروح التي تسود اليوم علائق الشريكين على مستوى رئاسة الدولة ومستوى حزبيهما لابد لها أن تسري في كل مستويات الحكم القطاعية، والولائية، والتشريعية، وإلا عدنا إلى ماض خلفناه وراء ظهورنا، ماضي الشقاق والاختلاف والتصدع. إن توافق الشركيين واجتماعهما على رأي واحد في كل خلاف يطرأ بينهما، كان ذلك على المستويين التنفيذي والتشريعي في حكومة الوحدة الوطنية، أو بين تلك الحكومة وحكومة الجنوب، أو على المستوى الولائي، هو السبيل الوحيد لتحقيق ما تواصى عليه الطرفان في اتفاقية السلام الشامل.
أيها الإخوة المواطنون:
إن من بين القضايا التي تم تجاوزها، قضايا يعود الخلاف فيها إلى طبيعة الاتفاقية نفسها. فالاتفاقية تمثل نقلة كبرى في البناء المؤسسي للدولة، وفي صلاحيات مستويات الحكم المختلفة. هذه النقلة الجذرية خلقت وضعاً لم يألفه الناس، خاصة في أجهزة الدولة المختلفة، والناس دوماً عبيد لما أنسوا به وآلفوه. والحالُ هذا، يتوجب علينا أن نضاعف الجهد لتبصير المواطنين وأجهزة الإعلام المختلفة باستحقاقات السلام التي لابد من رعايتها، كما يستلزم تنوير المسئولين في مستويات الحكم المختلفة بما اقتضت الاتفاقية والدستور من توزيع للسلطات حتى يستبطن الجميع ما عليهم من واجبات ومسؤوليات.
الإخوة المواطنون،،
لم تُنعتْ اتفاقية السلام بالشمول اعتباطاً، بل أُطلق عليها ذلك النعت لأنا أردنا بها العلاج الشافي لكل أدواء السودان الموروثة، ولئن كان إيقاف الحرب هو القاعدةُ الأساس لاستقرار السودان السياسي، ونمائه الاقتصادي، والتعاون بالبر بين جميع أهليه لا يُفرق بينهم دين أو عرق أو جنس، فإن ذلك السلام لا يصمُد أو يدوم إن لم يتبعه إيلافُ الناس، وعمارة الأرض، وإشاعة العدل. لهذا ثمة أهداف خمسة لابد من إنجازها حتى يضحى السلام شاملاً يعم البلاد من أقصاها إلى أقصاها، ويتفيأ ظله كل مواطن ومواطنة.
الهدف الأول: هو المصالحة الوطنية التي دعت لها الاتفاقية، كما ألزمنا بها الدستور. تلك المصالحة، أيها المواطنون، هي مصالحة لتضميد الجراح لا نكأها. وهي مصالحة لتحقيق التوافق الوطني بين كل أهل السودان وإزالة ما بينهم من مرارات موروثة أو مُفتعلة، لا استجاشتها. وهي مصالحة للتعايش السلمي بين جميع السودانيين بدلاً عن بث البغضاء بينهم على أساس الدين أو الجنس أو الأصل العرقي. هي أيضاً مصالحة تُغلِّبُ مصلحة المجموعة على مصالح الأفراد؛ وتوفر فرض المشاركة الفاعلة في العمل العام وفق أحكام الدستور الفيصل الذي ارتضيناه؛ وتزيل المضاغنة بين الإخوة الأعداء من حاملي السلاح في الماضي. بهذا الفهم، فإن المصالحة الوطنية التي ننشد حسبما أوصت بها الاتفاقية ونص عليها الدستور ليست هي وفاق حزبي لاقتسام السلطة بقدر ما هي عمل وطني متكامل.
ذلك العمل، أيها المواطنون، تتشاركه القوى السياسية بلا مراء، ولكنه أيضاً يتجاوز هذه القوى إلى ما هو أشمل، مثل التصالح والتعافي المتبادل بين الجيشين اللذين ظلا يتحاربنا على مدى عقدين من الزمان؛ وبين القبائل في حدود الشمال والجنوب، بل في داخل الجنوب والشمال، لإزالة كل عوامل التوتر والنزاع بينها بسبب الماء والكلأ؛ وبين أهل الديانات حتى لا يصبح الدينُ عظمة نزاع بين الناس. فالدين لله، والناس للديان.
ولعلني في هذه المناسبة أناشد جميع أجهزة الإعلام أن تكف عن إشاعة كل ما من شأنه أن يُثير الفتن بين أهل الديانات، فإثارة الفتن النائمة لعنة؛ أو ما يكرس البغضاء بين أقوام السودان، فما بهذا يتوحد أهل السودان على قلب رجل واحد.
وانطلاقاً من هذا المفهوم تعتزم الرئاسة تكوين لجنة تمثل هذه الطوائف جميعاً لتعين الرئاسة على إنفاذ ما أقرته الاتفاقية ونص عليه الدستور حول الوحدة الوطنية وعلى الوجه الذي عرضت عليكم بحسبانه ترجمة أمنية لما ابتغاه الدستور. وكلنا أمل في أن تصبح توصيات هذه اللجنة أساساً لقرار رئاسي حول الأمر، على أن لا يتجاوز ذلك العمل من بدئه إلى منتهاه نهاية الربع الأول من هذا العام. لقد صبر أهل السودان طويلاً على مضض المحن والكروب بسبب التصدع الحزبي، والقبلي، والديني، والمجتمعي، حتى كادت أن تغلب علينا شقوتنا. ولكن، بحمد الله، مهد لنا اتفاق السلام سكة مستوية أن ابتعناها اتسق الأمر بين الفرد والجماعة، وبين الحاكم والمعارض، وبين السلطة والمجتمع المدني.
الهدف الثاني: هو الانتخابات التي تواصي طرفا اتفاقية السلام الشامل على إجرائها على كل مستويات الحكم في موعد لا يتجاوز نهاية العام الرابع منا لفترة الانتقالية، هذا عهد قطعناه على أنفسنا طوعاً لا إكراها. ولعل الذين يأخذون على اتفاقية السلام الشامل إيلاءها الأمر في الجزء الأول من الفترة الانتقالية لطرفيها لأسباب أشرنا إليها، لا يستذكرون أبداً ذلك العهد الطوعي. فكلا طرفي الاتفاقية لا يحسبان، ولمي حسبا أبداً، أن السودان ملك لهما. لهذا، اتفقا على إجراء انتخابات عامة يقرر عبرها أهل السودان بمحض اختيارهم من يولونه أمر حكمهم في ظل نظام دستوري وإداري جديد تمت، في إطاره، معالجة كل القضايا التي أدت لاضطراب الحكم، وتنامي الصراعات، وانفراط عقد الأمن للحد الذي أصبحت معه السلطة غاية في ذاتها، لا وسيلة لمعالجة المشاكل التي لا يصلح حال البلاد والعباد إلا بمعالجتها. تلك الحياة السياسية غير السوية هي التي قادت لتدخل الجيش في الحكم ثلاث مرات منذ الاستقلال، دون ذكر المحاولات العسكرية التي لم تنجح، أسأل الله أن نكون قد وعينا الدرس.
وعلى أي، أيها الإخوة المواطنون، أصدرنا قانون الانتخابات، التزاماً بالعهد الذي قطعناه على أنفسنا وكان، هو الآخر، قانوناً بلا نظير قياساً على ممارساتنا الانتخابية السابقة. فبصدور ذلك القانون تبدل نظام الانتخابات ليتضمن التمثيل النسبي بدلاً عن نظام الصوت الواحد للشخص الواحد الذي ثبت عبر التجارب أنه لا يحقق تمثيلاً وافياً لكل قطاعات الشعب. كما أدرجنا للمرة الأولى في القانون نصاص يكفل للمرأة الحق في تمثيل نسبي مضمون في الهيئة التشريعية دون أن يحرمها ذلك من التنافس مع الرجال في المواقع الأخرى. ثم ألحقنا قانون الانتخابات بتكوين مفوضية الانتخابات التي ضمت نفراً من خيرة أبناء ونبات السودان بما لهم من خبرة طويلة في العمل العام، وأمانة مشهودة في كل ما أدوه من عمل، فباسمكم جميعاً أسأل الله لهم التوفيق في مهمتهم الشاقة.
بقي شيء واحد لابد من استكماله حتى تصبح الانتخابات حرة ونزيهة ومعافاة. ذلكم هو إعادة النظر في القوانين لكيما تتوافق مع الدستور، هذا عمل لابد من استكماله لكيما تستقيم موازين العدالة، ويكون الحكم شورى بين الناس أجمعهم. هذا أمر قطع فيه الشريكان مراحل متقدمة، ويأملان في أني دخل ما سيتوافقان عليه، بعد التشاور مع القوى البرلمانية الأخرى، حيز التنفيذ في موعد لا يتعدى نهاية الربع الأول من هذا العام. كما أؤكد لكم أن مؤسسة الرئاسة لن تسمح أبداً ان يكون هناك فراغ تشريعي حتى تُكمل الهيئة التشريعية القومية كل الإجراءات اللازمة للتمهيد للانتخابات، لاسيما والواجب الأول لحكومة الوحدة الوطنية هو تخطيط سياسات الدولة وإنفاذ الاتفاقية، كما أن من أولى واجبات الهيئة القومية التشريعية صيانة الوحدة الوطنية.
الهدف الثالث: هو معالجة قضية دارفور، إذا مازالت دارفور تدمي وتدمي قلوبنا معها، وكما تعلمون، أيها الإخوة المواطنون، ظللت أسعى منذ منتصف العام الماضي لتحقيق وفاق بين أهل السودان على حل دائم لمشكلة دارفور، وليس هناك من هو أكثر قدارة من الشعب السوداني على فض ما شجر بين أهله من خلاف.
لقد أضحت قضية دارفور نهباً للمصالح والمطامع الخارجية، وتكأة وذريعة للتوغل الأجنبي في أخص شؤون البلاد. بيد أن الحل النهائي لذلك المشكل لن يتم إلا على أيدي السودانيين أنفسهم، فهم الأدرى بشعاب بلادهم. هذه مسئولية سياسية وأدبية وأخلاقية إن لم نقم بها ستظل دارفور نهباً لأطماع الطامعين، وتزيد المُمترين، وتآمر الذين لا يريدون لأهلنا خيراً. وإن كنا قد أفلحنا في إنهاء حرب ظلت تستعر في السودان على مدى عقدين من الزمان، فما أحرانا بالوصول إلى حل ناجع لمشكل دارفور حلاً ترتضيه جميع أطراف النزاع مستمسكين بعروة وثقي لا انفصام لها.
أيها المواطنون،،
لقد ظللنا نتبادل الرأي، بصورة مباشرة وغير مباشرة، مع كل المجموعات المعارضة في دارفور خلال الفترة الماضية، ونتشاور مع كل ألوان الطيف السياسي والاجتماعي في دارفور العزيزة علينا. بهذا تجمعت لدنيا معلومات وافرة حول مقومات الأزمة والعناصر الأساسية التي تفضي إلى معالجتها. ولعل هذه مناسبة مواتية للتوجه بالشكر لكل دول الجوار والمنظمات الدولية والإقليمية التي ما فتئت تسعى معنا إلى إحلال السلام في ربوع دارفور ، وبجه خاص أزجي الشكر لسمو الشيخ خليفة بن حمد حاكم قطر الذي تحتضن بلاده اليوم المبادرة العربية الإفريقية لسلام دارفور.
وانطلاقاً مما استقر عليه الرأي في مبادرة أله السودان، ورغبة منا في تسريع الخطى للوصول إلى حل نهائي متفق عليه، ويتوفر له أكبر قدر ممكن من الإجماع الوطني، فإن هيئة رئاسة ملتقى أهل السودان، ولجنة الأزمة واللجنة العليا لدارفور سيعملون بتناسق وتداعم وتكامل، وسيسرعون الخطى من أجل إنجاز حل شامل ودائم للمشكل الدارفوري حتى يلحق أهل دارفور بإخوتهم في مناحي القطر المختلفة في الانتخابات المقبلة، وحتى يسلك أهل السودان جميعاً طريقاً قاصداً لمستقبل واعد، بإذن الله.
الهدف الرابع: هو الوحدة الطوعية عبر ممارسة أهل جنوب السودان لحق تقرير المصير، لقد تبقى، أيها الإخوة المواطنون، عامان من الفترة الانتقالية تفضيان في نهايتهما، عبر الاستفتاء، إلى تقرير أهل جنوب السودان لمصيرهم هذا أمر تعاهدنا عليه منذ يوليو 2002 في بروتوكول مشاكوس الإطاري، لهذا هو عهد لا رجعة منه، ولا نكوص عنه، ولا شُبهة فيه. وإنفاذاً لهذا العهد سنٌصدرُ قبل إجراء الانتخابات العامة قانون استفتاء جنوب السودان حسبما أقرت الاتفاقية ونص الدستور.
بيد أن الاتفاقية تُلزم الطرفين الموقعين عليها السعي لجعل الوحدة خياراً جاذباً. على أن جاذبية الوحدة، أيها المواطنون، لا تتحقق فقط ببناء الهياكل التشريعية والتنفيذية، رغم أهميتها لنظام الحكم واستقراره. إن الذي يُعنى به كل مواطن جنوبي، في المقام الأول، هو تحقيق عائد السلام في أمنه الشخصي، كان ذلك في أرض الجنوب، أو بقاع السودان المختلفة التي نزح إليها هرباً من ويلات الحرب، فأمان الجمع لا يتحقق إلا بأمان الآحاد. ذلك المواطن يُريد أيضاً أن يلمس عائد السلام في غذائه وكسائه وتعليمه ومأواه وصحته ووسائل ترحاله، ورغم أن الدستور ينص على أن هذه الأنشطة والخدمات من مسئولية حكومة جنوب السودان وقد بدأت التحرك في ذلك الاتجاه، إلا أن واجب المسئولية الوطنية يدعونا إلى دعم ومساندة حكومة الجنوب لتسريع الخطى في التحرك لتلبية تلك الاحتياجات، مع إدراكنا ووعينا التاميين بجملة التحديات والعوامل القاهرة التي أعاقت ذلك التحرك نذكر منها:
أولاً: تقاعس المانحين عن الوفاء بما التزموا به في أوسلو.
ثانياً: التلوث اللغمي الذي تأثرت به تسع عشر ولاية، أكثرها تأثراً هي ولايات الجنوب وجنوب كردفان والشرق. وحسب التقديرات الفنية فإن هناك حوالي اثنان مليون لغماً وذخائر غير متفجرة خلفتها الحرب في مساحة اشتباه تبلغ 800.000 كيلومتراً. لإزالة هذا التلوث اللغمي أنشأنا في عام 2005م الجهاز الوطني لمكافحة الألغام كجهاز يضم ممثلين لحكومتي الوحدة الوطنية وجنوب السودان، ويُكمل العمل الذي تقوم به الأمم المتحدة الذي انحصر في فتح ممرات لا يتجاوز عرضها الثمانية أمتار بهدف نقل مواد الإغاثة. الجهاز الوطني اتجه خلال عامي 2007م و2008م إلى القيام بإزالة الألغام، ليس فقط بهدف تسهيل أعمال الإغاثة وإنما أيضاً للتمهيد للعمل التنموي، وقد بلغ إجمالي المساحة التي أكمل الجهاز الوطني تطهيرها من الألغام 95.850.000 متراً مربعاً، في حين بلغت المساحة الكلية التي قامت الأمم المتحدة بتطهيرها 42.971.902 متراً مربعاً. هذا جهد عظيم نشكر الفريق الوطني المشترك على أدائه ونحثه على التوسع في عملية تطهير الأرض من الألغام لتشمل ما تبقى من الطرق الرئيسية ومناطق الإنتاج.
ثالثاً: قضية النزوح الداخلي بسبب الحرب والالتزام بتمكين من يرغب من النازحين من العودة إلى مواطنهم الأصلية. وحسب التقارير تمت العودة التلقائية لمليون ونصف المليون شخصاً حتى إبريل 2008م، والعودة الطوعية المنظمة لـ535.055 شخصاً حتى ذلك التاريخ. تلك العودة، تلقائية كانت أم منظمة، قوبلت بصعاب جمة يلزم على حكومة الوحدة الوطنية وحكومة جنوب السودان التصدي لمعالجتها. من تلك الصعاب: ضيق سبل كسب العيش لعدم توفر فرص العمل، ضعف الخدمات الاجتماعية الأساسية كالصحة والتعليم، اختلاف أنماط السلوك الاجتماعي بين العائدين والمقيمين، أي التضارب بين ثقافة المدن وثقافة الريف مما حمل البعض أما على الانتقال من مواطنهم على عواصم الجنوب، أو العودة أدراجهم إلى الشمال. وبدلاً عن الجدل العقيم كجدل علماء القرون الوسطى حول البيضة والدجاجة، أيهما كان الأول، يتوجب علينا الذهاب إلى حلول عملية للمشكل فثمة ظروف موضوعية نعرفها جميعا حالت دون التنمية في الجنوب بالقدر الذي يوفر فرص العمل للملايين من العائدين. كما أن عودة النازحين، خاصة من يؤثر منهم العودة طوعاً لمواطنهم الأصلية، أمر ضروري لارتباطه بعوامل أسرية وسياسية واجتماعية. هذا أمر فطنت له الاتفاقية وكلفت بأدائه، في مصفوفة التطبيق، الفريق القومي والمجتمع الدولي، لكل ذلك يتوجب على الجهاز المكلف بتنفيذ برامج العودة الطوعية لجنوب السودان، وللمناطق الثلاث، التركيز في المرحلة القادمة على عمليات إعادة تأهيل العائدين لضمان استقرارهم في مواطنهم الأصلية، واستيعابهم في مجتمعاتهم، وتوفير مجالات العمل التي تؤمن لهم عيشاً شريفاً، ريثما تدور عجلة التنمية. إضافة إلى ذلك على الجهاز التواصل عبر القنوات الرسمية، مع المانحين لحثهم على الإيفاء بالتزاماتهم.
رابعاً: نزع السلاح وتسريح وإعادة دمج المقاتلين من القوات المسلحة والجيش الشعبي، هذا جهد تشارك في إنفاذه الأمم المتحدة ومع ذلك لم يتحقق منه إلا النذر اليسير، ليس فقط بسبب النزاعات القبلية التي أعاقت خطط نزع السلاح، أو ضعف الإمكانيات المحلية لتنفيذ مشروعات إعادة الدمج في المجتمع وإنما، قبل ذلك ، لعدم التزام الشركاء الدوليين بتوفير المكون الأجنبي لخطة التسريح وإعادة الدمج للمسرحين، رغم الاتفاق الذي تم في جنيف (مايو 2008). ذلك الاتفاق يقضي بأن توفر الأمم المتحدة لهذا المشروع أربعمائة وعشرين مليوناً من الدولارات.
هذه أيها المواطنون، هي مجمل الأسباب التي أدت إلى ما يبدو تباطؤ في تنمية الجنوب أعرضها عليكم تبياناً للحقائق، لا تبريراً للبطء المفترض. ومهما كان من أمر، نعلن هذا الصباح أن يومنا هذا سيكون يوم الانطلاقة الكبرى لمبادرة الوحدة الطوعية والمصالحة الوطنية، كما نعلن أن عامنا هذا سيصبح عاماً للوئام الوطني، وتجديد الروح لاتفاقية السلام الشامل، واجتماع أهل السودان جميعاً، بمن فيهم أهل دارفور، على كلمة سواء.
بهذه المناسبة، سنشرع منذ اليوم في إنفاذ المشروعات التي تربط بين الشمال والجنوب كخطوة لا غني عنها في تمتين أواصر الصلة بين شقي القطر، والتواصل الدائب بين أهليهما، ثم التمهيد لخلق البيئة المناسبة للاستثمار في جزء من أجزاء السودان حبيب إلى أنفسنا. ونسأل الله أن تكتمل تلك المشروعات قبل أن يحول عام على لقائنا هذا:
أولاً: طريق السلام (الرنك ملكال القنال) والذي سيتم خلال هذا اللقاء التوقيع على الاتفاق على تنفيذه مع الشركة الصينية المنفذة بتمويل من صندوق دعم الوحدة وحكومة الصين.
ثانياً: تأهيل الخط الحديدي بين بابنوسة وأويل و واو، خاصة وقد اكتملت إزالة الألغام التي كانت تحول دون ذلك العمل.
ثالثاً: تأهيل المجرى النهري من كوستي إلى جوبا ودعوة القطاع الخاص للاستثمار في عمليات النقل النهري للبضائع والركاب.
رابعاً: تنمية مناطق التمازج الحدودية لتكون نموذجاً حياً للوحدة الوطنية.
خامساً: إعادة إعمار منطقة أبيي.
سادساً: تنفيذ ما قطعت على نفسي من وعد بالمساهمة في إكمال الطرق الداخلية بمدينة جوبا وتطوير مدينة رمبيك.
سابعاً: وهدية خاصة لأهل مدينة ملكال الذين استضافوا هذه المناسبة العظيمة، أعلن التزامي بتشييد إستاد ملكال، ورصف عشرة كيلو مترا من طرق المدينة الداخلية بالأسفلت وتأهيل المطار.
المواطنون الكرام
إن دور الدولة وحكومة الوحدة الوطنية في تنمية الجنوب هو المبادرة والتحفيز والتسهيل والتنسيق. ومن الجانب العملي أنشأنا صندوق دعم الوحدة وبادرنا بالشروع في تمويل هذه المشروعات، رغم ذلك فإن بناء الجنوب يستلزم مشاركة أهل السودان جميعاً، كما يستأهل الدعم من رجال الأعمال السودانيين، وأخوتنا في الوطن العربي الذين بادر الكثير منهم بالسعي للاستثمار في الجنوب والمشاركة في إعادة بنائه وتنميته، كان ذلك في مشروعات النقل، أو الطاقة، أو الإنشاء والتعمير، أو الزراعة والثروة الحيوانية والسمكية، أو التصنيع الزراعي، أو السياحة في المناطق التي حباها الله بحياة برية وثروة من الحيوانات الوحشية لا نظير لها في العالم، وأخيراً فإن على المجتمع الدولي مسئولية ألزم بها نفسه منذ مؤتمري أوسلو للمانحين في مارس 2005م 2007م نجدد دعوتنا له للوفاء بذلك الالتزام.
وبوجه خاص، أقول لرجال الأعمال الوطنيين أن في الاستثمار بجنوب السودان أجرين، الأول مادي يتمثل في عوائد الربح المرتجاة من الاستثمار، والثاني معنوي يتمثل في رضي الخلق والخالق عن ما سيقوم به هؤلاء من أجل تكريس السلام، وتحقيق الوئام وتوحيد الأقوام ولعلني أضيف أن الاستثمار في السودان، وفي جنوبه بوجه خاص، لا تقارب المخاطرة فيه أو المجازفة به تلك التي منيت بها الاستثمارات في بلاد كان يظنها البعض أكثر بلاد العالم مواتاة وأماناً للاستثمار. ولست في حاجة للتنبيه إلى ما شهده سوق المال العالمي من دمار مازال دوي زعازعه يصم الآذان. من جانب آخر، أوجه صندوق دعم الوحدة، بالتشاور مع حكومة جنوب السودان بغية تنسيق الجهود، لحث مجتمع رجال الأعمال في الداخل، ولتعبئة الموارد من الخارج، حتى لا يكون هناك تضارب أو ترادف في الجهود.
الإخوة المواطنون،،
لتكن أيضاً انطلاقتنا لبناء الجنوب وتعميره انطلاقة لتطوير السودان الريفي، فالسودان هو الريف الذي يوفر القوت لجميع أهل السودان، في حين يعيش أغلب أهله بما هو دون القوت، ويحيون بلا مال في الجيب، أو سرور في القلب. ولن أسمح لنفسي، وقد وُليت أمركم، أو أسمح لكم، بالعيش على فضل الآخرين.
هذا رضي بالدون لا أتمناه لكم ولا لنفسي. أن النقص في الخدمات الذي تُعانى منه بعض المدن، وتكدس الفقر في أطرافها، وتفشي جرائم المعوزين، خاصة بين الصغار، في أحيائها وأسواقها، كلها نتاج للفقر. وغن ظن أحد أن علاج هذه الظواهر غير المستحبة هو الردع بالقانون، فذلك ظن باطل. العلاج هو إزالة الفقر المدقع لأن الفقر هو أس الشرور. لهذا لابد من أن تحتل مشروعات التنمية الريفية المركز الأول في خططنا التنموية. ولن يتحقق هذا بالتهويم النظري في المؤتمرات وورش العمل والسمنارات، وإنما بالانتقال بتلك النظريات إلى حيز التنفيذ العملي في مجالات الزراعة والرعي، والتصنيع الزراعي، كما في مجالات الصحة، والتعليم، وتنمية المهارات. وستعمل الرئاسة بشكل دوري مباشر على متابعة تنفيذ هذه الخطط والمشروعات حتى تصبح عملية بناء السلام عملية متكاملة ومتماسكة ومستدامة. بهذا وحده يتحقق للبلاد كلها الأمن والاستقرار والنماء.
الإخوة المواطنون،،
خاتمة قولي وأنا أقف أمامكم الآن، بل أقف أمام ربي، هي التوكيد لكم جميعاً أن لا غاية لي من الحكم غير رضاء قلبي، ورضاء شعبي، ورضاء ربي وهو أرحم الراحمين. إن سبيلنا لما يُرضي الله، ويرضي الوطن، ويرضي النفس الوفاء بالعهود ، وتطمين النفوس حتى لا يؤخذ أحد بظنه، والإقساط والعدل حتى لمن خالفنا في الدين أو عارضنا في الرأي، لأن ذلك من التقوى: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) صدق الله العظيم. فلنبق جميعاً أوفياء لعهودنا، أعزة في ديارنا، آخذين بالوثيقة في أمرنا، ثم لنذكر دوماً أن الوطن، بعد الله رب العالمين، هو الباقي.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

smc