رأي ومقالات

ابراهيم عثمان : غازي حاكماً .. من مقعد المعارضة !

سيواجه الحزب الجديد عدة تحديات منها ما يتعلق بالسقف العالي الذي وضعه لنفسه كوعاء جامع يلبي حاجة طيف واسع من التوجهات و التطلعات و يحاول أن يقدم إجابة تفض الإشتباك بين التناقضات التي تصنع أزمة السودان و تمدها بأسباب الديمومة  ، و منها ما يتعلق بإقراره بأخطاء كبيرة وقع فيها النظام الذي كان مؤسسووه جزء منه مما قد يكرر تجربة المؤتمر الشعبي الذي وقع في مأزق الرغبة في تضخيم أخطاء الإنقاذ مما يحمله عبئاً مضاعفاً لنفي صلته بتلك الأخطاء و مسؤوليته عنها ، فكل تضخيم لأخطاء التجربة في فترة وجودهم في قلبها يحمل في نفس الوقت إقراراً بمسؤولية أكبر و لا يكفي تحميل الآخرين وحدهم وزر تلك الأخطاء  ،فمن تعايش مع أخطاء كارثية ضد المبادئ كما يقول و انتظر حتى يأتي خطأ يمسه شخصياً ليقرر المفارقة سيكون محتاجاً لأن يقضي وقتاً طويلاً لإقناع الآخرين بأنه فارق بسبب المبادئ  . مثلاً مذكرة الإصلاحيين إنصرف الجدل من إمكانية تطبيقها كلياً أو جزئياً إلى طريقة الحزب في التعامل مع موقعيها ، لم يقل الموقعون على المذكرة أنهم يشترطون تطبيق ما جاء في مذكرتهم للإستمرار في الحزب و لكن أصبح الإستمرار في الحزب مرتبط بقرارت لجنة المحاسبة ، و هذه سلبية كبيرة سواء فيما يتعلق بالمؤتمر الوطني الذي لم يعلق على ما حوته من بنود وجيهة و انصرف همه إلى معاقبة موقعيها بسبب ما قيل من التوقيت أو طريقة تقديمها أو بعض العبارات التي جرى تفسيرها كتهديد بخطوات تصعيدية قادمة مما أُعتُبِر استفزازاً . أو فيما يتعلق بالإصلاحيين الذين بدا سلوكهم و كأنهم كانوا سيستمرون في الحزب لولا قرارت لجنة المحاسبة دون النظر إلى ما تم تنفيذه من بنود مذكرتهم ، مما يجعل المذكرة تبدو كمجرد إبراء ذمة و ليس ضغط حقيقي إن لم يحقق شيئاً سيعني المفارقة الفورية  . الأمر الذي يضع الإصلاحيين -مع الفارق طبعاً- في وضع أشبه بوضع الحركة الشعبية في الفترة الإنتقالية : تمارس الحكم و لا تتحمل تبعاته و لا يقلقها ما يقلق الحكام من تحركات معارضة و من ضغوط مختلفة و تمارس المعارضة و لا تعاني مع المعارضين . ناحية أخرى و هي أن أسبوع واحد أو أقل منه كان كافياً لنقلة جذرية في خطاب الإصلاحيين من التأكيد على البقاء داخل المؤتمر الوطني و استمرار الدعوة إلى الإصلاح من داخله إلى التبشير بحزب جديد يقطع مع الوطني و لا يجمعه به نسب فكري أو سياسي و هذه نقلة  كبيرة في الخيارات لا تكفي قرارات لجنة المحاسبة وحدها لتبريرها ، فالإصرار على البقاء داخل الوطني مع استمرار الدعوة إلى إصلاحه تعني تلقائياً إقتناع ببعض الخطوط العريضة لبرنامجه و الإختلاف مع بعضها أو عدم الإقتناع بأنها تجد حظها من التطبيق ، بينما خيار قيام حزب جديد لا يمت لبرنامج الوطني بصلة يعني فيما يعني أن الإصلاحيين لم يكونوا مقتنعين بكل برنامج المؤتمر الوطني تنظيراً و تطبيقاً . رغم هذا لا يمكن إغفال حقيقة أن لجنة المحاسبة و المكتب القيادي لهم دور أساسي في التصعيد بقرارات الفصل و التجميد و أن المذكرة أيضاً كان فيها شئ من التصعيد و كأن الطرفين كانا ينتظران حدثاً ما ليتم الفراق ،فقد سئل الدكتور غازي : هناك من يرى أن قراركم بتكوين الحزب هو رد فعل لقرار لجنة المحاسبة، وأنه ينطلق من مواجد شخصية وليس قناعات، وهذا يقلل من فرص نجاحه؟.. فكان جوابه ( نحن لا نعمل بردود الافعال، والفكرة كانت موجودة أصلاً، لأننا كنا نتوقع قرار اللجنة. بمعنى انه كانت هناك تهيئة نفسية له، ولكننا لذات الغرض عقدنا مؤتمراً صحفياً قبل يومين من القرار، وقلنا ان موقفنا والتزامنا مع الحزب الواحد، ومع البقاء داخل الحزب، رغم كل الاعتراضات التي كنا نبديها على اداء حزب المؤتمر الوطني، وعلى طريقة قيادته في ادارة الامور. وسجلنا موقفا تاريخياً بأننا مع وحدة الحزب ) و من تصرف لجنة المحاسبة و من إجابة الدكتور غازي يمكن استنتاج أن الطرفين كانا يرغبان في الفراق فقط كان كلٌ منهما لا يريد أن يتحمل وزر القرار .. فجاءت المذكرة التي ذكر الدكتور غازي أنهم كانوا يتوقعون نوع رد الفعل عليها و الذي سيبرئهم من تحمل مسؤولية الإنشقاق و كانت المذكرة ذاتها هي ما برر الحزب به قرارت المحاسبة ! و يمكن للإصلاحيين أن يقولوا – بحق- أن القرارات الإقتصادية و ما تلاها  هو ما برر المذكرة ، و الوطني يمكن أن يرد بأن القرارات صحبتها شورى واسعة حتى خارج الحزب و أملتها ظروف معلومة و إن كان للإصلاحيين من مآخذ عليها فكان الأولى أن يكون ذلك داخل مؤسسات الحزب و قبل إصدارها .. و هكذا يستمر الجدل للوصول إلى نقطة البداية التي تحدد الجهة المسؤولة عن ما آلت إليه الأمور و هو جدل دائري كلما وصل فيه طرف إلى نقطة البدء التي يتحمل وزرها الطرف الآخر سعى الطرف الآخر للبحث عن نقطة بدء أخرى يحمل مسؤوليتها لغيره ! على كل حال  فالدكتور غازي و كل قيادات الحزب الجديد يتمتعون بمصداقية عالية مما يبشر بمعارضة مختلفة إن تمكن الحزب من تجاوز مأزق الوقوع تحت عقدة تصفية الحسابات مع المؤتمر الوطني ، و إن قدَّم أطروحة تخاطب الواقع المعقد و تجد الإجابات لأسئلته الملحة و المربكة . و أنا على قناعة بأن لهذه الخطوة بركاتها رغم تسليمي بأن لأي إنشقاق مخاطره و سلبياته ، فكما أنها تملأ فراغاً في الساحة السياسية يجتذب غير المقتنعين بالمعروض في الساحة السياسية ، فهي أيضاً يمكن أن توفر خياراً جاذباً لبعض المنتمين لأحزاب لا يرضون عنها تماماً . و هي ثالثاً ستدفع المؤتمر الوطني بالتأكيد نحو خطوات إصلاحية بدرجةٍ ما إن لم يكن لرغبة أصيلة فعلى الأقل لنفي التهمة التي انبنى الحزب الجديد على أساسها تماماً كما حدث مع المؤتمر الشعبي الذي، بطريقة أو أخرى ، جعل المؤتمر الوطني يسعى إلى نفي إتهاماته الكثيرة له عبر خطوات جريئة أعادت معارضة الخارج و سمحت بقيام الأحزاب و ممارستها للعمل السياسي – بدرجة تزيد عما كان من قبل و تقل عن المأمول  – و أدت إلى دستور جديد متقدِّم بدرجة كبيرة عن دستور الترابي ، و هذا يشير إلى فكرة في غاية الغرابة و هي أنك إن دعوت إلى فكرة و قلت إنك لا زلت تؤمل في أن حزبك سيطبقها ، فسيجد الحزب مساحة يتحرك فيها و يتباطأ في إثبات صحة ما تعتقده إعتماداً على أن عقيدتك هذه ستريحه  رغم انتقاداتك له من حين لآخر . و لكن إن تقدمت خطوة إلى الأمام و أعلنت عن حزب جديد بسبب  يأسك من تطبيق الحزب لأفكارك  ( و هي غالباً أفكار جيدة و جذابة و لا سبيل للإعتراض المقنع عليها ) فسيحاول الحزب إثبات أنك مخطئ عبر خطوات عملية تزايد عليك و تحاول حرمانك من قضيتك الأساسية ، منعاً للإحراج الذي تسببه له شهادتك أمام القوى المعارضة  ، و أيضاً للحفاظ على عضوية الحزب التي قد يجذبها الخطاب الجديد . لذلك أتوقع تسارع خطوات الإصلاح في الفترة القادمة ، و من رأيي أن الإصلاحيين هم من يجب أن يُشكروا عليها رغم أنها قد لا ترضيهم بالكامل بعد الفراق  و ربما يقولون عنها ( too little too late ) … و لكنها كانت ستزيد فرص بقائهم داخل المؤتمر الوطني لو أنها أتت في وقت سابق إستجابةً و ليس مزايدةً . و بهذا يمكن التنبؤ بأن الإصلاحيين و على رأسهم غازي سيؤثرون على الحكم و هم خارجه بأكثر مما كانوا يفعلون . لأن شهادة الشاهد من الأهل – عكس إتهامات المعارضة التي تعطيك مجالاً للمناورة  – يحتاج دحضها إلى خطوات عملية ملموسة قوية تكافئ قوة الشهادة ، هذا إن ساير المؤتمر الوطني منطق الأشياء .
ابراهيم عثمان