حوارات ولقاءات

المحبوب عبد السلام : لا أحفل بالمنصب وتقديري للمال متدنّ

[JUSTIFY]استثنائي بكل ما يقبع في جوف الكلمة، قال عن نفسه ذات تداعٍ: نحن الحكومة والنظام ونحن سنده العقائدي والفكري، لكن في نفس الوقت أعدى أعدائه ومكمن الخطر.. تعرّض للضوء في فترة مبكّرة من حياته وبطبعه لا يميل إلى الغموض.. عندما خرج من المطار في ذلك الوقت كان صوت فيروز يتصاعد طويلاً.. طويلاً: “طلعنا على الضو.. طلعنا على الحرية”، منذها اختبر ذلك الشعور بالتطهر، وعاد إلى طقوسه القديمة، اشترى قهوته وصحيفة باريسية.. في الحقيقة بات يحمل صفة (معارض)..

المحبوب عبد السلام، الرجل المقرّب من الترابي.. خافت الصوت.. لا يميل إلى الثرثرة.. يتحدث بمقدار.. أصاب قدراً من النجاح وعلا صيته وسط الكتاب والمثقفين.. هو ليس إسلامياً متزمتاً وإنّما شخص رقيق كالنسمة، كلما استمع إلى السيمفونية التاسعة (لبيتهوفن) خرج حافياً إلى الطرقات وملأ حقائبه بالمطر، يسلّم على المارة؛ يغنّي بلسان ويصلي بلسان.. خرج يتوخّى سبل العلم التي نهل منها شيخه من قبل، ومنذ أن رأى الساسة يصوبون الرصاص بين عيني غزال نافر، أدرك أنّهم لا يتورّعون عن فعل أيّ شيء، كان ولا يزال مفتوناً بجيفارا وسولارا وجومو والطيب صالح وعلي شريعتي.. ترجم للأخير كتاب (الحجّ).. خرج من وطنه كما تخرج السنابل، وها هو يهتدي إلى بلاد تتألق نساؤها ويحنو حكامها على القطط والكلاب، يحكي عن المنفى والغياب، يحكي عن لندن، القاهرة وباريس.. نعم باريس، يخبئ بين ضلوعه صورة لحبيبة لا يود الإفصاح عنها..

كان المحبوب منذ البداية يتقن استعمال قلمه وعقله معا، ويؤمن بهما.. صوفيّ معذب يصعب استفزازه بسؤال، لم يعد عن النور، فهو واحد من الذين صنعوا قدرهم ومزقوا نسجهم، ولم تهبط عليهم شياطين من السماء وإنّما شياطين من صنع أنفسهم، هكذا يعترف (المحبوب) بين يدي هذه الإطلالة.. قلّبنا معه كل الدفاتر والعناوين وعرجنا صوب ما يشف من الآلام والآمال والأفكار والأسماء والحكايات والتاريخ المنسي.. بدأ شيء من النشيج يتنهّد بين السطور، ليحدثنا هو نفسه.

* ما لا يعرفه الناس عن المحبوب عبد السلام.. هل ثمّة؟

– لا أعتقد أن هناك مسائل غير معروفة، فقد تعرّضت للضوء في فترة مبكّرة من حياتي، وبطبعي لا أميل إلى الغموض.

* إلى متى تحتمي بكل هذه الغربة؟

– حتى نحلّ مشكلة البندر، ونصل إلى المدينة، وحتّى نحلّ مشكلة (الشاه)، فنصل إلى صيغة لحكم أنفسنا كما يقول الطيب صالح في تفسيره لعنوان كتابه (بندر شاه).

* على ذكر الصالح والطيّب؛ أنت مفتون بالرجل لحدّ بعيد ولكنني سوف أسالك عنه لاحقاً؟

– كما تحبّ.

* ومفتون أيضاً بفرنسا وأعلامها وشوارعها ورجالها؟

– بالنسبة لفرنسا هناك الفرانكفون؛ أي الذين يتحدّثون اللسان الفرنسي، وهنالك من يعرفون بالفرانكوفي أي (محبّو فرنسا) كما يوجد الأميركوفي، والمعنى يشير للكثيرين الذين يفتنون بأمريكا.

* وأنت في أي خانة؟

– يمكن اعتباري فرانكوفي.

* لماذا فرانكوفي؟

-لأنّ الثقافة الفرنسية معبر جيد للتعمق في فهم العالم، ثم الاهتمام الفرنسي الأصيل بالتاريخ والفن والجمال.. يقول علي شريعتي (لندن وباريس ليسا سوى متحفين)، ويقول الطيب صالح (لن تجد مدينة تمشي في شوارعها ليلاً أو نهاراً خيرا من باريس).

* ماذا تبقّى من أيّام الجامعة في الذاكرة؟

– للأسف الشديد تبقّى القليل جداً من العلاقات الشخصيّة، بسبب الغياب الطويل والتباعد بين الناس.

* وماذا عن أخطر الأسئلة التي تبعثها تلك الشجون؟

– دائما أسأل نفسي: أين ذهب فلان وفلان؟ فنحن لا نرسل بطاقات في الأعياد، وليس في ثقافتنا الرعويّة العلاقات القارة.

* ثم ماذا؟

– قالت لي إحدى البروفيسورات الفرنسيّات قد أشرفت على عدد من الطلبة العرب لنيل الماجستير أو الدكتوراة: (يرسلون لك بطاقات المعايدة لعام أو عامين ثم يختفون، فلا تدري أين هم؟!).

* المحبوب لم يعترف من قبل بأنّه عاش قصّة حب ملتهبة؟

– أظنّ أنّني بطبعي أميل إلى الاعتدال، فتُصبح مسألة (ملتهبة) بعيدة في مثل حالتي.

* كيف يعني؟

– يمكن تصنيفي ضمن المسارعين لـ(ردّ الفعل الرافض)، وهؤلاء لا يتعلقون كثيرا بالعلاقات التي يواجههم فيها رفض أو استفزاز.

* من الآخر؛ ألم يتعلّق قلب المحبوب بفتاة؟

– أنا بطبعي قليل التعلّق بالمكتسبات أو حتى الحقوق.

* لست مقتنعاً بهذه الإجابة؟

– هذا كل ما يمكن أن أقوله.

* علاقتك بالناس العاديين كيف؟

– معروف عنّي أيضا ثبات الطبع.

* كيف يعني؟

– بمعنى أن الظروف من حولي لا تستطيع تغييري، إضافة إلى قلة احتفالي بالمناصب وتقديري المتدنّي للمال، ولذلك دائما تجدني إنسانا عاديا، أدخل في علاقات مع الناس الذين تسمّيهم عاديين، ولا أعترف بالتفرقة التي تقام عادة بين صغير وكبير.

* حدّثنا عن الجامعة وحسين خوجلي؟

– كان الأخ حسين خوجلي يقول عنّي شيئاً قريباً من المضمون الذي قاله الطيب صالح في وصف جمال محمد أحمد (كان يهتمّ بمن يحبّ ولا يهتم بمن لا يحب مهما كان).

* يعني أنت مفطور على طباع نادرة؟

– “أنا مثلكم أو أقلّ قليلاً”، كما يقول محمود درويش في لاعب النرد.

* سرّ المحبّة دي شنو بينك والطيب صالح؟

– الطيب صالح إضافة إلى أدبه وثقافته له سرّ يجذُب إليه كثيرا من الناس في مستويات مختلفة، من القرب والبعد عنه.

* وفي حالتك؟

– في حالتي تسنّى لي معرفته شخصياً، ومقابلته، والحوار معه عبر السنوات، هذا الموضوع أكتب عنه الآن، ويمكن عبر ذلك أن نشرح سرّ المحبّة.

* هل لديك إجابة عن سؤاله التاريخي الشهير: (من أين جاء هؤلاء)؟

– هؤلاء الناس جاءوا من مجتمعاتنا وثقافتنا، ولم يهبطوا من السماء، الزّعم بأنّهم منتج خاص لتيّار ثقافي معين في المجتمع له وزنه من الموضوعية في تقديري.

* (مقاطعة).. بالمناسبة دي؛ (من أين جاء هؤلاء) بعيداً عن الطيب صالح؟

– زي ما قلت ليك، جاءوا من مجتمعاتنا وثقافتنا ولم يهبطوا من السماء، لكنهم في الأصل “تسرّبوا كالنمل من عيوبنا”، كما يقول نزار قباني، وهذا موضوع يطول.

* أنت الآن موجود في القاهرة، ومحكوم بنظام عسكري، وحالة طوارئ وحظر، ألا تشعر بالضجر؟

– في مثل هذه الظروف يعيش الإنسان حالة الانتماء وحالة اللا انتماء وفقا لتعريف كولن ويلسون، فمن ناحية أنت خارجي (outsider) أو غريب (alien) وفقا لكامو.

* هذا البلد قريب للسودان وقريب إلى قلبك؟

– نعم، وكل ما يحدث فيه يؤثّر علينا، وبالتالي واجب الاهتمام به، كما أنّه بلد محوري في التاريخ والحضارة العربيّة والإسلاميّة، ومهما تكن الظروف التي تمرّ به، يحاول المرء أن يكون موضوعيّاً؛ يعترف بالحقائق، وإيجابيّاً يحاول المساهمة، ولو بسهم ضئيل، في الإصلاح.

* بكم اشتريت شقة القاهرة؟

– أنا لا أملك شقة في القاهرة ولا في أيّ مكان في العالم.

* من أين يحصل المحبوب على قوته؟

– القوت من رزق الله، وكثير من الناس حولنا لا يعلمون أنّ الكتابة والتدريس والترجمة يُمكن أن تجلب رزقاً، ولا يعلمون كم تأخذ إذا درست كورسا للدراسات العليا فى جامعة محترمة.
* بصراحة؟

– أنا أتوفّر على شبكة علاقات واسعة، أوسع بكثير من صفوة السودانيين، وهي علاقات مؤسّسة على الثقة فى مقدراتك.

* الكثيرون يتساءلون على ذلك النحو؟

– أنا أعلم دوافع الذين يثيرون مثل هذه الأسئلة، وما يشبهها من الشبهات.. هؤلاء إضافة لأفُقهم المتخلّف يمارسون أساليب النازيين التى تجنح لتمريغ سمعة الخصم بالتراب قبل الإجهاز عليه.

* لو قدّر لك أن تجلس مع هيكل فماذا ستقول له؟

– اقول له كما قال لينين الجد: إذا نهضت من قبرك بعد مئة عام من موتك، فكيف تتخيل شكل العالم تحديداً فى منطقتنا العربيّة والأفريقيّة؟

*هل تشعر بأنّك نادم على أمرٍ ما وأنت مشحون بطاقة الكتابة والإبداع؟

– أظنّ أنك تقصد أنّني نادم على التقصير في إعطاء الكتابة والإبداع وقتا أطول، وهذا صحيح.
* كيف تقيم تجربة صديقك سيّد الخطيب وهو يوقّع على مذكرة العشرة على مقربة؟

– لا أستطيع تقدير حالة سيد الخطيب على وجه الخصوص، لكن مذكرة العشرة واتفاقية نيفاشا كليهما افتقدتا الحسّ التاريخي والوعي الاستراتيجي.

– وماذا عن توقيعه على اتفاقية نيفاشا ومشاركته في تيم التفاوض الأزلي؟

– بالنسبة لنيفاشا دائما أقول: لماذا لم يصحب علي عثمان معه إلى نيفاشا أحمد عبد الرحمن وربيع حسن أحمد ودفع الله الحاج يوسف وعبد الماجد حامد خليل والسر أبو أحمد وعبد الرحيم حمدي وعبد الرحيم علي، بدلا من إدريس عبد القادر والدرديري محمد أحمد ومطرف صديق ويحيى حسين وأمين حسن عمر؟

* تفتكر السبب شنو؟

– السبب واضح طبعاً؛ ورغم أنّ أعضاء الفريق الأصغر قاموا بدور جيد، لكنّهم تورطوا في خسارة المساومة التاريخيّة بسبب نقص مؤكّد في العلم والخبرة.

* لابدّ أن الحديث ذو علاقة بمذكرة العشرة؟

– الآن أسأل سؤالا: ما هو المفيد والمجيد والبطولي الذي جنيناه من الانقلاب الأبيض يومئذٍ سوى ترضية طموحات أفراد، وشفاء مواجد آخرين، ثم الخسارة الاستراتيجيّة.

* هل لا زال في جعبتك ما تريد أن تقوله لله والتاريخ؟

– نعم بالتأكيد؛ أريد أن أعبّر عن رؤية كاملة في المسار الذي سردته أكثر من مرّة، بعد تأمل أكثر، وتملّك أكبر لأدوات التحليل المعرفي.

* المحبوب رجل يكره السياسة، ويفهم الحياة على جمالها وقصرها؟

– لا أكره السياسة لأنّها الجزء الجاد من الحياة، لكن أبطالي الحقيقيين هم في عالم الفكر والأدب والفن وليسوا في السياسيين.
* كيف يعني؟

– أولئك كما ذكرت بما يبعثون من جمال يجعل الحياة القصيرة أكبر وأكثر احتمالاً.

* هل يروقك ذياك الوصف؛ (كاتم أسرار الترابي)؟

– أنا لست (كاتم أسرار الترابي)، فهناك كثيرون غيري يعرفون أكثر مني، لكني قد أكون الأفضل في التعبير عن أفكار الترابي.

* حسناً.. ولكن هل لازالت للترابي أسرار بعد كل هذه السنوات والاعترافات الداوية؟

– … (لم يجِب)!
* المثقف متمرّد بطبيعته، والمحبوب كالخاتم عدلان، يريد أن يحيا بفكره، ويطرح أسئلته الخاصّة؛ هل تتّفق؟

– التمرّد ملازم للمثقّف وليس الاعتزال، في حالة الخاتم عدلان أظنّه كان يودّ لو عاش حياته في قلب الأحداث مفكّراً وقائداً، ولكن ظرفه النفسي والتاريخي المحيط لم يتح له ذلك .

صحيفة اليوم التالي
حاوره عزمي عبد الرازق
ع.ش[/JUSTIFY]