منى سلمان

الف مبروك والناجح يرفع يدو .. رحلة عذاب دابا انتهت !

الف مبروك والناجح يرفع يدو
رحلة عذاب دابا انتهت !
هذه القصة مهداة للناجحين في امتحان الشهادة السودانية من أبناء الغبش، الذين كسروا الطوق، وخرجوا من أسر مثلث الشقاء (جوع وجفاف موارد وجهجهة تعليم)، ليقفزوا بـ (زانة) الجد والاجتهاد فوق أسوار الجامعات ..
مالت (نور الشام) على جنبها الأيمن، وفتحت عينيها ثم اغلقتهم عدة مرات في ظلمة الليل، ثم لعنت (الفتر) و(القصّاصة) و(النتّاحة)، التي تنبح منها جميع أطراف جسدها الواهن، ثم جمعت ساقيها وهبت جالسة مرة واحدة ..
عوّدتها ساعتها البيولوجية على الاستيقاظ في الثلث الأخير من الليل يومياً، لتقوم بشدّ (قدرة الفول) الصغيرة، وترفع الصاج على النار لترمي الطعمية، ثم تقوم بـ (تحمير) الأسود في (باقي) الزيت، لتصنع منه سلطتها اللذيذة، التي اشتهرت بها في مدرسة البنات الثانوية حيث تقوم ببيع الفطور للطالبات ..
تلفتت حولها تتفقد عناقريب أبنائها وتطمئن على نومهم، فافتقدت (عفاف) من لحافها الخالي .. تمطت في جلستها ومالت لتنظر للغرفة الوحيدة في نهاية الحوش، وكما توقعت رأت ضوء الفانوس، يلقي بخيوطه المتراقصة على وجه (عفاف) المنكبّة على كتبها .. نادتها من بعيد:
هي يا عفاف انتي لسه سهرانة ؟ الواطة قربت تصبح .. قومي أطرحي ضهرك ده حبّة في العنقريب قبال الواطة تفتّح ونبقى علي المشي للمدرسة.
أجابتها (عفاف) بعد أن رفعت رأسها من الكتاب:
خلاس يمة قربتا انتهي من الباب ده .. بجي هسي أولع ليك نار الفول على بال تنْشليهوا في القدرة.
تمتمت (نور الشام) بدعوة لابنتها البارّة (ربي يخليك ويطرح البركة فيك)، ثم قامت تجرجر أقدامها المجهدة، بعد أن حملت الإبريق، وتوجهت نحو المرحاض بالقرب من باب الشارع ..
ظل دأب (نور الشام) وروتين حياتها اليومي ثابت طوال عشر سنوات، منذ أن غادرها أبو العيال ورفيق دربها (البلال حسب الرسول)، حين هفّت له بأن يخت جبال كرري، و(نور الشام) وأبنائه الستة وراء ظهره، ويسافر (غرباً) على أمل الرجوع بالمال وراحة البال (عن قريب) !
طوال سنوات غياب زوجها في ليبيا (لا حس لا خبر)، كانت (نور الشام) تستيقظ في الثلث الأخير من الليل، لتوقد نارها وتصنع فطور بنات المدرسة، تلك المهنة التي وفّرها لها بعض أولاد الحلال، والتي لولاها لكان مصيرها وابناؤها أسود من ليلها الطويل، بعد غياب ابيهم وتركه لهم دون معين.
خرجت (نور الشام) من المرحاض ومسواكها على فمها .. حركته بشدة وهي تتجه نحو الماسورة، وعندما وصلتها أخرجت المسواك من فمها، وغرزته في أحد شقوق الحائط، وانحنت تغسل وجهها وتمضمض فمها بقوة ..
عادت للراكوبة فوجدت (عفاف) قد (حشت) فتحة المنقد ببعض الأوراق القديمة، وأشعلت فيها النار.
عندما أذّن المؤذن لصلاة الفجر في الجامع البعيد، كانت (نور الشام) قد انتهت من رمي الطعمية، وتظبيط سلطة الأسود، ووضعتهم في حلتي ألمونيوم نظيفتين، وجلست في انتظار اكتمال استواء الفول لتسكبه على الحلة الثالثة ..
انتهت من أداء الصلاة مع صوت جرس درّاجة (العاقب) بتاع العيش، فاسرعت تفتح الباب لاستلام حصتها من رغيف العيش، فقد تعوّد على أن يمر ببيتها قبل بقية دكاكين الحي، ليسلمّها حصتها اليومية من العيش، الذي تصنع منه السندوتشات، وبعد أن تنهتي من تجيهزاتها تكون (عفاف) قد ساعدت أخواتها الصغار، وألبستهم ملابس المدرسة وأعطتهم من سندوتشات أمها اللذيذة، ثم دفعتهم للانطلاق لمدارسهم القريبة وجلست بجوار أمها في انتظار (عبد الدائم) بتاع الكارو الذي تعوّد – هو أيضا – على أن يمر في الصباح ليحمل (نور الشام) وفطورها على ظهر الكارو للمدرسة ومعهم … (عفاف) !
هل نسيت أن أذكر بأن (عفاف) كانت تدرس في ثالثة ثانوي بنفس المدرسة التي تبيع فيها أمها الفطور؟
مرّ العام بمُرّه وحلوه كبقية التسعة أعوام السابقة، ومرت ليالي قضتها (عفاف) جالسة إلى كتبها على ضوء الفانوس القديم، حيث لا (عشم) لهم في الكهرباء في تلك المنطقة تحت جبال أم درمان، وقضتها (نور الشام) صابرة محتسبة تقوم الليل لتصنع الفطور، وعندما تعود من المدرسة بعد الفسحة تسرع لتكون في استقبال عيالها والتجهيز ليوم جديد ..
كانت (نور الشام) منهمكة في عواسة الكسرة، سبوبة عيشها التي تستبدل بها (سواة) الفطور في الإجازة الصيفية، وكانت ترفع رأسها بين الحين والآخر لتراقب الباب في قلق، فاليوم هو يوم النتيجة، حيث ذهبت (عفاف) منذ الصباح للمدرسة، ولم تعد حتى بعد الظهيرة ..
فجأة رمت (القرقريبة) من يدها وأرهفت السمع، فقد تهيأ لها أنها سمعت صرير عجلات كارو (عبد الدائم)، وماهي إلا لحظات وفتح الباب بعنف واندفعت منه (عفاف) وهي تصيح:
أبشري بالخير يمة .. أنا جبتا تلاتة وتسعين في المية !!
بالله ما حصل صادفتكم الأصيلة (عفاف) في واحدة من مستشفياتنا ؟ .. فهي الآن طبيبة تداوي بلمسة إيد، كما داوت جراح أمها (نور الشام) وانهت رحلة عذابها الطويل.

منى سلمان
[email]munasalman2@yahoo.com[/email]

‫4 تعليقات

  1. كم وكم يامنى من هؤلاء المكافحات في عز الهجير وعوض الله صبرهن…أعجبني وزير الإعلام وهو يحكي عن أمه التي ربتهم بماكينة خياطة، ولما وجدها قد باعتها لبتاع الكراكيب ، أسرع وأرجعهاإلى البيت لأنها غدت رمز اعتزاز…والأم التي تربي أولادها من كفتيرة شاي ومنزلها مجرد راكوبة نجحت بنتها في مرحلة الأساس بمجموع كبير كان بلسما لتعبها…ونماذج ونماذج من هذا الكفاح الشريف الذي ستثاب عليه هؤلاء الصابرات المصابرات
    .ليت الدولة تبحث عن هؤلاء المجهولات لتكرمهن فإسهامهن عظيم ، وصدق المصطفى حين قال : فكيف إذا أضيف إليه هذا الجهاد لتوفير لقمة العيش ؟
    سلمت أياديكن أيتها العظيمات …وكل التبجيل لدوركن في بناء هذا البلد الحبيب

  2. [SIZE=4]التحية لنساء بلادي الشامخات شموخ نخيل الشمال وعزيزات تعانق ارنبة انوفهن السماء كجبال الشرق في بلادي الحبيبة
    كم من قصص مشابهة وملاحم خالدة تسطرهادوما النساء في بلادنا
    اليكم هذه القصة الحقيقة والمشابهة
    كانت (م) بعد وفاة زوجها وتركه لها 7 من العيال تقوم ببيع الكسرة في دكاكين الحي المجاورة لبيتها وتصنع الفطور لتبيعه في المدرسة المجاورة لبيتهم المكون من غرفة واحدة فقط ومطبخ صغير وكانت بنتها المتفوقة دوما ما تساعدها وهي تدرس بالسنة النهائية باحدى كليات الطب
    كانت اماني نفسها ان تتخرج البنت لتساعدها على تربية اطفالها الصغار
    والحمد لله تخرجت البنت ولكن رفضت الحكومة تعيينها حتى تقوم باداء الخدمة الوطنية ورغم المبررات التى ساقتها بانها البنت الوحيدة وتساعد امها في تربية الصغار الا ان رجاءاتها ضاعت سدى فحزمت حقائبها وتوجهت لمعسكر الخدمة الوطنية وبعد مضي كم يوم في المعسكر اصابها داء السحائي ورغم توسلاتها باعطائها اذن رفضوا لها … بعد مضي يوم واحد من اصابتها بالمرض في المعسكر وافتها المنية __قلوبنا تفطرت دما ونحن نشاهد امها وهي ما تذال تكافح __اللهم وفقها ويسر لها امورها ياااارب؟؟؟[/SIZE]

  3. استاذتنا مني لك التحيه والتقدير وانتي تبعثين الامل بهذا المقال في قلوب كل حالم بالنجاح ، وكعاده مقالاتك التي ترقق القلوب احيانا وتبعث الامل احيانا وترسم الابتسامه في اغلب اوقاتها علي قراءك