رأي ومقالات

عماد يعقوب: عفواً اعتذارك ما بفيدك فالمزاج سلطان

المزاج السوداني في كثيراً من الأحيان تعتريه نسبة عالية من العكورة والتلوث الذوقي.. وربما يعود ذلك للأمور الحياتية الصعبة المحيطة بغالبية هذا الشعب المغلوب على أمره والمهزوم ثلاثة صفر في كل الجولات والنزالات (ذي كورتنا) .. وتتداعى مجموعة من العوامل لهزيمة وتعكير هذا المزاج .. فمن قفة الملاح المدللة (البعيدة وما قريبة) .. ومصاريف المدارس والتي انتهكت حرمت الجيوب وحرمت أصحابها من العافية .. والعزيزة حبيبة الكل الملاريا التي صارت بلا حياء فإنها أصبحت تزور في كل الأوقات والمواسم .. وغيرها من أمراض الجوع التي طاب لها المقام هنا فأستوطنت .. وحق المواصلات .. وركشات (البنيات بتاعين الجامعة) .. وحتى كورتنا أصبحت واحدة من معكرات المزاج ومصدر تعاستنا .. وفواتير وإيصالات وجبايات الحكومة, وجيوش الانتهازيين والحرامية التي تزدحم بهم المرافق العامة والخاصة .. وما أكثرها عوامل التلوث المزاجي في هذه الديار .. وحتى الشمس هنا تنتصف عند الساعة السادسة صباحاً حرارةً, وبحكم العلاقة الطردية ما بين درجة الحرارة والمزاج, فعداد المزاج عندنا ينتصف أيضاً باكراً .. وللبرد أيضاً حكاية, لوحة جميلة من (البشتنة) مرسومة على الوجوه والأقدام .. ويضاف لكل تلك العوامل ربما عصبية متوارثة, وموروث ثقافي اجتماعي خاطئ عن معاني العزة والرجولة والحقارة .. وما بين عزة النفس والرجولة والحماقة عوامل مشتركة كثيرة, (عزة نفس زائدة + عصبية = حماقة) .. ولو قسونا في القول قليلاً لقلنا ان الحماقة (made in Sudan) .. ودلالاً نسمي الحماقة عصبية .
كل هذه العوامل الحياتية الصعبة المحيطة بالشعب السوداني, مضافاً إليها العصبية الموروثة, تؤثر على تفاصيلنا اليومية وتنعكس سلباً في تعاطينا مع الأشياء من حولنا .. وتظهر جلياً عند تعاملنا مع المواقف التي تحتاج إلي قليلاً من المرونة والصبر وطولة البال .
وهناك العديد من المشاهد التي تمر بك يومياً في الشارع السوداني تعكس لك كيف يعمل المزيج أعلاه في المزاج السوداني. والمواقف التالية تصور جزءً من ذلك:
مشهد أول: واحد نازل من حافلة المواصلات ومن غير قصد (عفص ليهو واحد في رجلو) فدار الجدال التالي بين (المعفوص والعافص):
– رفع المعفوص صوته ثائراً: ياخي ما بتشوف
– فرد العافص: معليش يا اخونا ما شايفك (معليش باردة ولا تنم عن الاعتذار)!!
– المعفوص: ياخي بلا معليش بلا هناي معاك .. عميان انت؟؟؟
– العافص: آي عميان وما بشوف وعفصتك قاصد .. عاوز تعمل شنو ..؟؟؟
– العافص والمعفوص : مشكلة لها ايقاع .. جابت ليها مجابدة ومدافرة .. وبعض الألفاظ النابية التي امتدت حتى الآباء والأسر والجدود .. فتدخل الاجاويد وانتهت المشكلة ببعض الخسائر البسيطة.
مشهد ثاني: واحد في زحمة السوق تأثر بآخر فأطاح ببعض الحاجيات التي كان يحملها الطرف الثاني.. فدار الجدال التالي بين (الداقش والمدقوش):
– بادر الطرف الداقش بتقديم الاعتذار: معليش ما قاصد (ومعاها صرة وش)!! ..
– المدقوش: تنهد ومحاولاً كتم غيظه .. ما شايف؟؟ .. والله ناس غريبة .. طاير لاحق شنو .. الواحد فيكم ما يمشي بمهلة ويدي الطريق حقو .. وكمية من الطنطنة والكلام الما مفهوم…..
– الداقش: يا عمي انت بتنقنق تقول شنو .. ما قلن ليك ما شايفنك .. شنو مالينا نقة وكترة كلام ..
– المدقوش: ياخي ما شايفني شنو .. والقباحة عليك شنو .. ؟؟
– الداقش والمدقوش: مشكلة ومزيكتها ما بتترقص .. وجابت ليها مضاربة .. انتهت في قسم الشرطة ..
……………….
وهناك العديد من المشاهد التي تمر بنا يومياً في البيت في المكتب في الشارع في السوق … تعكس لنا جلياً مدى غياب ثقافة التسامح وفن الاعتذار في تعاملاتنا اليومية .
(وقد قيل إن السوداني لو دقش ليه عمود في الشارع ما يعترف بأنه غلطان .. ويقول هو العمود دا ذاتو واضعنو غلط)!! وفي مقولة أخرى (السوداني ذي البيبسي, اقل هزة تلقاهو فار واحتمال ينفجر فيك, تاخدو بالهداوة يكون معاك لذيذ ورايق)!!
ففي المشاهد أعلاه .. كانت تجزي كلمة آسف صادقة تعبر حقيقةً عن الأسف .. آسف مدعومة بيد مبسوطة للمصافحة .. آسف مصحوبة بأبتسامة صادقة وردية اللون وليست صفراء .. فبعض المواقف تحتاج فقط لابتسامة (السحر الحلال) او كلمة طيبة .. إذاً لكان العذر مقبول والنفوس صافية .. إنه فن الاعتذار فهو علماً يكتسب ولا يدرس .
وكما عرف الشعب السوداني بعصبيته الزائدة, عرف كذلك بطيبته وعاطفيته الزائدة. فالكلمة اللينة الرقيقة تعتبر اقصر طريق يمكن تنال به رضاه وتروض به عصبيته .. فالكلمة المعسولة هي الجواز الذي يمكن ان تدخل به قلوب هذا الشعب.. وسوف تجد الواحد منهم كما قال سيد الاسم الكابلي (هين تستخفه بسمة الطفل) ومن زاوية أخرى (قوياً يصارع الأجيال) .. (وممكن بشوية كلمتين حلوين تأكل برأسه حلاوة كما يقول أبناء الفراعنة وأحفاد كافور الاخشيدي) .
فعاطفة هذا الشعب ممزوجة بحماقة (أعيت من يداويها) .. وعرف السوداني بين كل الشعوب انه لا يرضى الحقارة وسريع الاشتعال عند أي موقف استفزازي .. ولكن ما بين الحماقة وعدم الرضا بالحقارة فرق يساوي فن التعاطي مع المواقف والظروف والأحوال ..
وما بين الحماقة والرجالة مسافة (تودي في ستين داهية) .. ولنا في معركة كرري شهادة, جيش مسلح بالسيوف في مواجهة مدافع رشاشة اتوماتيكية, 18 ألف قتيل و30 ألف جريح من جيش المهدية في ظرف ساعتين (دي رجالة مغلظة جداً وممزوجة بشوية ……) .. (وما في داعي للفهم الخطأ)!! .
ومن بعض المواقف التي تعكس عصبية (الزول السوداني كما يسميه هؤلاء الأعراب البتروليين), فقد حكى لنا احد الإخوة, عن سوداني كان يعمل في مؤسسة تجارية بالمملكة, ويدير المؤسسة احد السعوديين من أصحاب (الأنوف المتضخمة تعالياً), وقد عانى أخونا كثيراً من عجرفة هذا المدير. وقد ساقه حظه الطيب بالاشتراك في إحدى المسابقات التلفزيونية التلفونية (واخونا من ناس ممكن اشترك في المسابقة), وقد فاز بجائزة قدرها 50 ألف ريال, فقرر بعدها مباشرة ان يغادر المملكة وان يتحرر من هذه (الحقارة) التي تحملها لسنوات, فقد وصل لمبتغاه (هايس ودكان في السوق الشعبي). وكعادة السودانيين في كل مناسبة سعيدة جاء الصباح للمؤسسة وهو يحمل معه كمية من الحلويات والعصائر الباردة وقام بتوزيعها لكل العاملين في المؤسسة .. ودخل إلى مكتب مدير المؤسسة وجلس على الكرسي واضعاً ارجله على التربيزة في دلالة واضحة (زول كايس ليهو مشكلة) .. استغرب السيد المدير من هذا التصرف!! .. وحتى لا تطول دهشته بادره اخونا قائلاً: (انا ما عاوز شغل ومسافر السودان) .. وقد اقترب من المدير وامسك بيده (وقد ادخل الخوف في قلب المدير) ووضعها على رقبته, وفي تحدي سافر وحمرة عين سودانية, قائلاً : (عاوزك تتدق لي خروج هنا في رقبتي دي .. بلا سعودية بلا هم معاكم) .. وقد غادر السعودية عائداً إلى السودان وهو لايدري إن حكومة الجبايات وجيوش الانتهازيين كانوا في انتظاره, وفي فترة لا تتعدى السنتين امتصوا ريالاته ورحيق غربته وألقوا به إلى بقية مكدرات المزاج, ليجد نفسه متحسراً على انه لم يترك الباب في السعودية موارباً وما كان في داعي لكل تلك العصبية السودانية الحادة .

والمزاج سلطان:
تصحى من النوم صباحاً وترفض الذهاب إلى الشغل وعندما تُسأل, مالك اليوم ما ماشي الشغل؟ .. ويكون ردك: ما عندي أي مزاج للشغل اليوم (هو على كيفك؟؟) .. ترحل من بيت لآخر والسبب مزاجك .. تطلق زوجتك لأنها ما ماشة مع مزاجك .. تبيع عربيتك لانها طلعت من مزاجك .. تدخل في مشكلة مع ناس البيت لأنهم خربوا مزاجك .. فهناك التواء وتفلطح حاد في المزاج السوداني ولا يمكن ان يقترب من التوزيع الطبيعي المعتدل (وذلك وفقاً للمنطق الإحصائي) .. فالكل هنا محكوم بالمزاج .. والمزاج سلطان .
(عليك الله واحد شاي كارب كدا نعدل بيهو مزاجنا دا .. مزاجك دا ما يتعدل إلا في المنطقة الصناعية .. مزاجك دا جاي من امو كدا .. فهو مزاج سوداني) ..
وهنا السودان بلد المزاج الحاكم .. وعلى حسب مزاجك يكون تعاملك في المواقف المختلفة, وخاصة في المواقف التي تتطلب شيئاً من المرونة والتحكم في الأعصاب ..
و(معليش) كلمة سودانية خالية من الدسم وهي تعني بداية مشكلة في اغلب الأحيان وليست نهايتها !!..
واعتذارك ما بفيدك .. والاعتذار في الثقافة السودانية يعني انكسار وذلة (منو القال ليك؟؟) … وآسف تعني تنازل وجبن ..
فليس الاعتذار يا هذا انكسار إنه ثقافة عالية القدر .. ومن عفا وأصلح فأجره على الله .. والمسامح كريم ..
قول آسف صادقاً فإنها ليست انكسار .. قول آسف صافية دون كدر فإنها ليست ذلة .. قول العفو من داخل قلبك فإنها ليست انهزام ولا انكسار ولا ذلة ..
فأنت كبير ياهذا بأخلاقك وطبعك السمح .. كبير بتعاملك الشفيف وقلبك الطيب .. كبير بالأثر الجميل الذي تتركه في نفوس الآخرين عند المواقف الصعبة .. وسماحة طبعك يعكس صفاء معدنك.. انت سوداني.. إذاً فأنت طيب بشهادة كل الشعوب (لكن عصبي شوية).
فلا تدع مزاجك يتحكم في حياتك وتدخل في متاهات المشاكل .. وتنتهي بك عصبيتك في (ستين داهية) .. فقط (روق المنقة) خاصةً عند لحظات الانفلات والغضب .
ومعليش لو خربنا مزاجكم .. فحقكم علينا ..

[email]Sharara.boosh@gmail.com[/email]

تعليق واحد