أمينة الفضل
حكاوي في الشخوص والأمكنة 1-2
أمينة محمد الفضل
في بيته المكون من غرفة واحدة، كعادة أهل الريف، وراكوبة مسورة تطل من جانبها شجرة نيم كبيرة وضخمة، كثيراً ما تكون ملتقى للأهل والزائرين، وبجوار الغرفة مخزن صغير لمؤونة العام من جوالات الذرة التي تجود بها (الحواشة) الصغيرة إضافة للويكة واللوبيا، ويضم المخزن جمع آلات الزراعة من (ملود)، (سلوكة)، (جراية) و(محفار) وغيرها من الأدوات التي يحتاجها أهل الريف لزراعتهم، بل حتى الحبال والمساويك و(السلب)، كان داخل مخزنه الذي أصبح مستودعاً لجميع أغراض الحياة، بل كان مثل (جراب الحاوي).. هذه المؤونة لم تكن له وحده بل كانت لجميع من يأتيه إضافة لاحتفاظه ببذور الذرة المحسنة ليعطيها للمزارعين في موسم الزراعة القادم.
أمام الراكوبة من الخارج مساحة كبيرة للمارة والعابرين، لكنها في الأمسيات حوش كبير وواسع توزع فيه (عناقريب الحبل) ليجلس عليها الضيوف وأهل (الفريق) لاحتساء شاي اللبن المقنن وقهوة المساء بطعم الجنزبيل. تحتوي غرفته الوحيدة على ثلاثة من (عناقريب الجلد) و(سحارة)، وهي لمن لا يعرفونها، صندوق خشبي كبير لحفظ الأغراض عند أهل الريف، وطاولة بها أدوات المطبخ بكل أنواعها، وبعض المقاعد (البنابر) وكانون وشنطة حديد يحفظ فيها ملابسه وأشياءه الخاصة، وصاج كبير لصناعة الكسرة (الرهيفة) وآخر (دوكة) لصناعة العصيدة والقراصة.. هذه هي محتويات البيت. ففي هذا البيت المتواضع عاش الرجل الصالح (أبوي علي) وهو الشريف علي الشريف أحمد الشريف الطاهر الذي ينتمي للأشراف أباً واماً ولذا تسبق اسماءهم كلمة (الشريف)، ولا أدري هل الأشراف قبيلة؟ أم هي مجموعات يتصل نسبها بآل البيت؟ (أسمعي يا بتي نحن ترانا جنيات الحسين ود فاطمة بت النبي (ص) وزوجة علي الكرار ودي ما دايرالها غلاط) و(جنيات) جمع (جنا) وهو الولد الصغير. حينما اسمع هذا الحديث ألوذ بالصمت حيناً وحيناً آخر امازحه: (إنتو يا الأشراف شن ورثتو؟؟) فيرد معاتباً: (نحمد الله ورثنا الدين والعلم والكرم من جدود الجدود.. تاني شن بندور؟) فأرد عليه بسرعة: (لكنكم لا تملكون مالاً ولا ثروة)!! فيرد بحكمته المعهودة: (يا بتي المال ما ضلاً زائل.. ضل ضحى زي كراسي الحكم ماليهو دوام)، فيذهب خيالي بعيداً للبحث عن داخل أغوار أهلي الأشراف الذين يكتفون بالكفاف ولا يسعون وراء الضل الزائل و(أم بناياً قش) يتحدثون فتنساب الحكم من أفواههم كماء النهر علماً وفقهاً وحكمة.
(أبوي علي)، كما يناديه الجميع الكبير والصغير القريب والبعيد الزائر والعابر والمقيم، لم ينجب لكن الجميع كانوا أولاداً له، ورغم عدم إنجابه لأبناء يحملون اسمه كان لا يشعر بفقدان هذا الأمر، إذ كان يعتبر أبناء اخته فاطمة بت الشريف ابناءه، وكانوا كذلك وهذا ما جعله لا يشعر بنقص في حياته.
ولد الشريف علي نهاية القرن التاسع عشر وحضر نهاية التركية وهو طفل صغير تتراءى له الصور من بعيد. ولد بقرية (البرسي الفضل) إحدى قرى شمال سنار التي تطل على النيل الأزرق من الناحية الشرقية وقد جاء إليها آباؤه وأجداده من موطنهم الأصلي الذي تضاربت حوله الأقوال ما بين منطقة المفازة قرب القضارف وعطبرة والشرفة بركات والشريف يعقوب.. كل هذه المناطق يتناثر فيها أهله لأمه وأبيه، لكن من أين تحديداً لا أدري!!
هو رجل مربوع القامة حنطي اللون مستقيم الأنف يرتدي العراقي والسروال ملتحفاً ثوبه القروي الطويل، دائم الابتسامة فلم يرَ عابس الوجه قط، يحب الجميع ويحبونه، ويطلبون منه الدعاء لكل أمر؛ للزواج وللعمل وللذرية وللنجاح، فلا يبخل بالدعاء لكل من يطلبه منه، يقيم الليل ويكثر الصوم، كان قليل الطعام لا يأكل الا ما يقيم أوده، تأسياً بالرسول (ص) الذي ما شبع من طعام قط، وكان يكثر من أكل التمر وشرب الحليب والسمن، عاش معافى في حياته لم يزر الطبيب الا مرتين في حياته التي امتدت لأكثر من مائة وعشرين سنة.
تزوج (ابوي علي) من السيدة الفاضلة الكريمة خديجة الفضل بت العمدة الجعلية الأصل، فكان التصاهر بين الأشراف والجعليين بالقرية مفتاحا لكثير من الزيجات بعد ذلك. الحاجة خديجة بت العمدة كانت ذات جمال باهر في زمانها بذت به قريناتها حتى كان ينشد فيها الشريف علي (زوجها) ويقول كلما رآها وتذكر ان بعد هذا الجمال ثمة موتا ينتظره، فكان يقول: “خديجة يا أم جمالاً فرطة.. راجيك موت ورقاد وطة”، و(فرطة) تعني مفرط أي شديدة الجمال.
عاش الزوجان السعيدان حياة مليئة بالحب والأمل والتفاؤل وخدمة الآخرين، عاشا ثنائيا متجانسا ومتألقا، لم يتشاجرا أو يسمع لهما صوت مرتفع، ولم يسمع ابوي الشريف علي يرفع صوته على زوجته او يحلف بالطلاق، ولو مازحاً، وهذه عادة أهل الريف الذين يكثرون من الحلف بالطلاق والحرام.
كان بعض اقربائه وأصدقائه ينصحونه بالزواج حتى ينجب ابناً يحمل اسمه فكان يرد “نان فوق بت العمدة؟” وظلت بت العمدة وفية له حتى آخر لحظة من لحظات الحياة السريعة الخطوات. دخلت عليه في إحدى المرات وكنت كثيرة التردد عليهما لأسمع حكاوي ابوي علي الشيقة التي لا تمل ونصائحه (الذهب) فوجدته ممسكاً بإحدى قططه الكثيرة، وكانت القطة قد سرقت منهم لحماً فأمسكها محذراً: “شوفي لو دايرة تعيشي معانا بأدب حبابك عشرة، وكان دايرة تسرقي وتخطفي دحين اختينا غادي” وما ان افلتها حتى ولت هاربة ولم تعد للمنزل مرة أخرى.. لكني سألته لحظتها بتعجب: “هل تتحدث مع القطة؟” اجابني: “نعم يا بتي بتفهم وبتسمع لكن ما بترد”.. وكانت له غرائب في التحدث مع الحيوانات، فكنا نقابل هذا الأمر بالوجوم، ويقابله بالابتسام فقط دون شرح وتعقيب.
قهوة الضحى ببيت ابوي علي لها مذاق خاص تحت شجرة النيم المرشوشة بالماء، تأتيك رائحة البن المحمص مع الجنزبيل والهبهان من بعيد فتسافر بك عبر الزمان دون ان ترشف منها رشفة، ولجلسة القهوة ودق البن قصة اخرى نحكيها..
aminaelfadol@gmail.com
عاش الزوجان السعيدان
وكانت القطة قد سرقت منهم لحماً فأمسكها محذراً
الاخت امينه مواضيعك دايما شيقة ودايما تذكرنا بى ناس زمان
وانت دايما للامام وماتبخلى علينا مما اعطاك الله الفهم والراى السديد
ا:cool: احيك يا بت دقشم دايما مشرفه اهلك ومواضيعك فى قمت الروعه وياريت لو تناولتى الكرم الفياض لاهل القريه:mad: