رأي ومقالات

غريب الدارين : وثبة شخصيّة في خطاب الرئيس

والوثبة التي أعنيها هي القعود …..فمن معاني ” الوثب” في لغة حمير القديمة القعود ….يقول لك مضيفك ” ثب” يعني “اقعد” وها أنا ذا أقعد قعود يوجاويّا “نسبة إلى اليوجا” ثم اتأمل في ذلك الخطاب الفلتة….ومن بعدها أبدي رأيي .
ورأيي هنا لاهو استحسان ولا استهجان بل هو استجابة لصوت يناديني …. فنعم لبيكِ أوطاني .
فمن لحظة الإعلان عن خطابٍ مفاجأة … قامت الدنيا ولم تقعد بعد ! اشرأبت الأعناق ومازالت ممدودة ! ولكلمة مفاجأة وقع السحر …فتسثيرك رغما عنك ! والبشر بحكم فطرتهم قد يتهيبون …ولكنهم يتشوقون للمفاجأة بلهفة شديدة…. فكان مفعولها الساحر في الناس كبيرا وكان الانتظار ممضا والأيام توالي عدها التنازلي نحو اليوم المرتقب لخطاب الرئيس… فكأنّ الشاعر عناهم بقوله :
إني أراهم أينما التفتت نفسي وقد سكنوا … وقد وثبوا
فقد سكنوا “وكرسوا” ينتظرون … ولبد بعضهم يترقبون …ثم ما لبثوا وقد وثبوا “مخلوعين ” راكضين …طائرين ..عندما وجدوا ألا مفاجأة ! فكان لبعضٍ منهم وجهةٌ هو موليها ،وبعضهم لهم ثوابت تجعلهم مولين وجوههم شطر المشرق والمغرب . وكان حري بهم أن يقعدوا .. …فليتهم قعدوا في حكمة الشيوخ وحماس الشباب وتلمسوا أبعاد الخطاب …ومن بعدها فلينفضوا كما يشاؤون فلا تثريب عليهم ….فمن استعبدكم أيها الناس وقد جئتم إلى الدنيا أحرارا !.
خطاب المفاجأة …. كان نفسه وثبة مفاجئة للرئيس في كل ساحة وتجمع ومحفل….والشاهد ما عكسته وجوه الحاضرين للخطاب داخل القاعة وتأويلات الحاضرين خارجها ! مع أنّ البعض رآه تكرارا !! والبعض لم يحرك ساكنا بل كمن متخندقا وراء رأيه الثابت في النظام .
وكيفما كان فهم الناس على اختلافهم ومهما كان رأي البعض ، فقد ترك الخطاب أثرا يمثله قول المتنبي :
وتركك في الدنيا دويّا كأنّما تداول سمعَ المرءِ أناملُهُ العشرُ
فهل الوثبة الرئاسية كانت محسوبة خطط لها ؟! أم أنها كانت وثبة في المجهول ؟ أم جاءت عفو الخاطر…. ومارميت إذ رميت ؟ على كلٍ فقد نزل الخطاب حجرا في قعر البرك الفائرة…وانداحت في صفحاتها دائرةٌ لا حدَ لاتساعها .
فالخطاب تضمن بين سطوره كلماتٍ بعينها وقف عندها الناس متعجبين أو مستنكرين أو مستحسنين أو متصيدين ! خرجت من مصدرها بثوب ودخلت عقولهم بثوب آخر… وما لبثت أن خرجت مرة أخرى تلبس أثوابا مشكلة …اقتربت من المقصد وابتعدت عنه …وطفقوا يفسرونها فقالوا : غامضة …فلسفية أكثر مما ينبغي …أو نشاز ليس لها محل من إعراب ……وعلى كيفك ـ الشخصيّ الحر أو المقيد بحزب أو طائفة ـ فسِّر كما تشاء .
ولكن يمكن القول أن للكلمات حظوظا كما للبشر ….فمن أكثر الكلمات حظا في الخطاب كلمة ” وثبة ” !! فالكلمة نالت حظا واسعا في الانتشار والتحليل والتأويل والتنكيت والهجوم مستغلة تطور التقنية فطارت في كل أنحاء المعمورة ! واتجه مفهمومها إلى معانٍ متعددة ..ربما بعضها صحيح وبعضها خاطئ …ورأى البعض فيها تلميحا لأشياء وأشياء ، بينما اعتبرها البعض تصريحا واضحا وضوح الشمس ولا تحتمل تأويلات مفترضة…
على كل فقد ألقاها الرئيس وترك الناس تموج في فضاءات وفضاءات …. بيضاء من غير سوء أومختلف ألوانها بحسب ألوان الطيف السودانيّ… واعتمدوا في تحديدها على الأبعاد الدلالية في الصوت واللغة والواقع والأماني العذبة والمتطلبات المرجوة وغيرها…مع ملاحظة إن كل شخص ينساق في تحديده وراء مشاعره الخاصة تجاه الرئيس وحزبه …مشاعرٌ شخصية كانت أو حزبية أوعقائدية أو غيرها ” فكل يغني على ليلاه” .
ولكن إخوتي المغزى المغزى ؛ لماذا كان هذا الخطاب مهما ؟ ولماذا رجا الكل أن يجد فيه قشة أمل فيتعلق بها ؟
فجوابا عن ذلك أقول:
الأمر الوحيد الذي نتفق عليه …لأننا لا نكاد نتفق على شيء ! حال البلد وماتمر به من محن وكوارث ومشكلات متشابكة معقدة في كل المناحي لحد القنوط ….وكأنما الحل بات مستحيلا إلا فيما نستأنس به من الدعاء ! وبلوغ الناس مستوى فقدان التوازن في كل شيء …حتى وصلنا إلى وضع صار فيه كل منا يبحث عن حل فرديّ لنفسه وأهله عملا بالمثل العربي ” انجُ سعد فقد هلك سُعيد ” وبتنا في حال ” يرثى لنا القُمْريُّ ويبكى لنا الحِجْلُ ” .
والرئيس بوصفه الراعي الأول للشعب ليس غائبا ولا مغيبا عن ذلك بل هو مدركٌ لما تمرُّ به البلد فقد تضمن خطابه وصف ما نعيشه ، لذلك كان خطابه وثبة اعترافية …تشخيصية … تجاوزية ….وثبة دخلت مرمانا هدفا مصيريّا … وعليه فما ردة الفعل المنتظرة ؟ هل نردها ؟ و كيف ؟ أم نتركها في المرمى غير مبالين بها كأنها لا تعنينا في شيء؟
أما أنا أعزائي وأحسبكم أنتم أيضا …. فلأن بلادي نشيدٌ في دمي يحيا ويجري في عروقي فأظنها وثبةً علينا أن نقف عندها ونفكر – بعقلانية أو بغيرها – ونحلل مجتهدين بجدية ….
ماذا يريد الرئيس لشعبه ؟
وهل وثب على واقع يستعصي حله ؟ ومن ثَمّ كانت وثبته مجرد أمانيٍّ …فنقول له ياأخي:
مانيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا ؟
أم أنه أراد المعنى الشرعي في جانب من جوانبه وهو السرعة في المبادرة بنجدة الوطن ؟ ولا أقول إنقاذه، فقد كره الناس هذه الكلمة لأنها أصبحت مقترنة بفساد البعض ممن كان أولى بهم التحلي بالأمانة .
أم أنه عنى المعنى اللغويّ الصريح لكلمة ” وثب ” ؟
والكلمة في اللغة لها معانٍ متعددة وأبرز معانيها وأجملها : وثب إلى المكان العالي “حسا” ، وإلى المجد والشرف “مجازا” …فهل أراد الرئيس ذلك أم غيره ؟ فإن كان يريد لكم الرفعة فمؤكد إنكم تتساءلون عن طريقة تحقيق ذلك ، ولكنها كما قلت هي في ملعبكم بلونياته المختلفة… منوطة بتقبلكم يد الرئيس الممدودة لكم .
أم إنه يمكنكم أن تضعوا قوله في دائرة النوايا حسنت أو ساءت ؟ حينئذٍ أنتم في انتظار ما تتمخض عنه الأيام ، ولكم ندعو أن تتمخض ” قمحا ووعدا وتمني” .
فياإخوتي إن كانت الأوطان تعني لكم ماتعنيه ….وتعون قول الشاعر وعيا حقا :
إن للأوطان في دم كل حرٍّ يدٌ سلفت ودينٌ مستحقُ فلا تقعدوا وتقولوا “فليذهبْ البشير وحزبُه فيثبوا كما يشاؤون …ومانحن معه بواثبين ” فالقضية قضيةُ وطنٍ يُحتضر…والفاعل أياد عديدة وليست يدا واحدة …فيجب فيي هذه المرحلة المتأزمة أن يصرف النظر عمن أوصله لهذا الحد …فليس هذا وقت المفاصلة ، وليتنا نتجاوز مفهوم الانتماءات الضيقة وننفتح ونتحد على وجوب إدراك مصير هذا الوطن الكبير وشعبه بإثنياته وبأصناف البشر الذين جمعهم الله فيه . وليتنا إخوتي نجعلها وثبةٌ نابعةٌ من كل قلبٍ ، فنكون على قلب رجلٍ واحدٍ نطبب ونداوي وطنا أثخنته الجراح .
ختاما :
فهذا دلوي وردتُ به مع غيري مزاحما على فُوهة كثرت فيها دلاءُ الأقوال والأقاويل…
يحدوني قول الشاعر :
وما طلب المعيشة بالتمني ولكن ألقِ دلوك في الدلاءِ
ومن لم يعجبه وِرْدِي فليرمني بحجرٍ” من التعليقات ” مع قناعتي بأنّ اختلافكم معي ينبغي ألا يُفسد الودَّ الذي بيني وبينكم .
غريب الدارين

تعليق واحد