حماد صالح: الوسطية الاسلامية
أولا : الأخلاق والمعاملات
لا شك أن الاسلام دين المعاملة كما ورد فى العبارة المشهورة (الدين المعاملة)وقال (ص): (انما بعثت لاتمم مكارم الأخلاق), -حديث صحيح- فالمعاملة هى خلق المسلم الذى يتعامل به مع الناس كافة والخلق يأتى حسب صفات المسلم الحميدة والصفات الحميدة هى صفات وسطية فمثلاً الشجاعة هى وسط بين الجبن والتهور , والكرم صفة وسط بين البخل والاسراف, والصدق وسط بين الكذب والسكوت عن الحق ,والعفو وسط بين الضعف والقهر,والعزة وسط بين الذل والكبر والحلم وسط بين الخنوع والغضب
وهكذا جميع الصفات الحميدة وسطية وهى فرع من فروع الوسطية الاسلامية.
وكذلك فى المعاملات فان ممارسة الجنس عن طريق الزواج وسط بين الزنا والكبت الجنسى وبر الوالدين وسط بين العقوق والتقديس لأن رضا الوالدين ليست غاية وانما الغاية رضا الله فى بر الوالدين . وقس على ذلك جميع المعاملات والاخلاق تندرج فى المعاملات لأن بها يتم التعامل بين الناس.
ثانيا : العبادات والأحكام
العبادات اذا كانت تخص الفرد فلا يوجد ما يقدح فى من يقسو على نفسه من أنواع العبادات فمثلا الصلاة فان العبد لو صلى ألف ركعة نفلاً وأطال ما أطال وهو وحده فلا يقدح هذا فى الوسطية أما اذا كانوا جماعة وفى صلاة الفرض فلا يطيل عليهم لأنه اذا أطال قد فارق الوسطية مع صحة صلاته وذلك لقول الرسول (ص) : من صلى بالناس فليخفف فان فيهم المريض و الضعيف وذا الحاجة. قال أبو عبد الله البخاري في كتاب ا:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ أَبِى خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِى حَازِمٍ عَنْ أَبِى مَسْعُودٍ الأَنْصَارِىِّ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلاَةَ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا فُلاَنٌ فَمَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فِى مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْ يَوْمِئِذٍ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مُنَفِّرُونَ
فَمَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ
وأما الصدقة فيمكن للشخص أن يتصدق بكل ماله وهذا للأقوياء وأما اذا كان ضعيف الايمان فلا يفعل ولا يتصدق بكل ما عنده ويدعى أنه قوى فيدخل فى قوله تعالى (ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) صدق الله العظيم فان سيدنا أبوبكر تصدق بكل ماله والآية موجودة ولم يمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهكذا سائر العبادات فلا تدعى مقام أنت لست أهلاً له فتهلك(هلك المتنطعون) وتخرج من الوسطية .
وقول الامام على بن ابى طالب (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً) وهذا غاية لمن أدركته العناية والامام على باب مدينة العلم وهذا الكلام يخرجنا عن رهبنة النصارى وتكالب اليهود على الدنيا ونسيانهم الاخرة.قال تعالى : (نسوا الله فأنساهم أنفسهم). ويعضده قوله تعالى (ولا تنسى نصيبك من الدنيا).ولذلك كان الاسلام وسطا.
أما الاحكام فهنا مشكلة كبيرة حيث أن كثير من الجماعات الدينية تعتقد أن الشريعة الاسلامية هى لتخويف الشعوب وتم زراعة كراهية الشريعة فى قلوب المسلمين وغيرهم ,أو اشانة سمعة الشريعة, فالشريعة الاسلامية رحمة للناس كافة وهى تحفظ لهم حقوقهم وواجباتهم وليست هى حدود كقطع الأيادى والرجم وغيرها فهذه الحدود جاءت للمصلحة العامة ولنقتدى بحديث النبى صلى الله عليه وسلم في مسند أبي حنيفة للحارثي حديث رواه عبد الله ابن عباس عن الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ادرؤوا الحدود بالشبهات)) اذا كانت لا تؤثر فى المصلحة العامة ولا نجعل منها سيفا مسلطا على رقاب الناس فتبعث كراهية الشريعة فى النفوس فان الشريعة رحمة للمسلم ولغير المسلم.فهى تتمثل فى عدالة الحكم فلا يخشى مواطن ظلماً من ذى بأس وغيرها من أحكام معروفة تصب كلها فى صالح المواطن مسلماً كان أو يهودياً .فالوسطية الاسلامية هى جعل الشريعة رحمة للناس وبشرى وليس جعلها شبحا مخيفا يحمل سيفا مسلطا على رقابهم
ثالثا : الاعتقادات
المعلوم أن المسلمين ينقسمون الى طوائف كثيرة فمنهم السنة والشيعة والمعتزلة وغيرها والسنة أنفسهم ينقسمون الى جماعات وكذلك الشيعة والمعتزلة وأغلب هذه الجماعات تدعى الوسطية وهى تكفر بعضها بعضاً فالمسلم الوسطى هو من يحترم غيره ولا يتهمه بسوء فشهادة الاسلام هى الفيصل بين الجماعات فقول لا اله الا الله محمد رسول الله يكفى لدخول الاسلام .
وقد كان فى زمان الامام على بن ابى طالب كرم الله وجهه قال الصحابة للامام على : (الخوارج أكفار هم ؟فقال الامام لا , قالوا : أمنافقون هم ؟ قال : لا , قالوا : يا امام ماهم ؟ قال : هم اخواننا ولكن بغوا علينا ) وعندما حاورهم المسلمون أتباع الامام على بهذا الفهم رجع منهم اثنى عشر ألفاً فانظر حكمة الامام على رغم أن هناك حديث شريف عن الخوارج يقول
– حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِىُّ حَدَّثَنَا يُسَيْرُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ قُلْتُ لِسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ : هَلْ سَمِعْتَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِى الْخَوَارِجِ شَيْئاً ؟ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ – وَأَهْوَى بِيَدِهِ قِبَلَ الْعِرَاقِ – : « يَخْرُجُ مِنْهُ قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ ،يمرقون من الاسلام مروق السهم مِنَ الرَّمِيَّةِ .
.
وأما حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة “,وفي رواية: قيل: “فمن الناجية؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي ”
فهذا لا يعنى أن تدعى فرقة أنها الناجية وغيرها فى النار فقد ورد فى الأثر أن الله يعتق فى ليلة النصف من شعبان وليلة القدر والعشر الأواخر وليلتا العيدين ملايين الأنفس المستوجبة دخول النار وكذلك فى يوم عرفة وغيرها من البشريات كما ورد أيضا فى الأثر أن يوم القيامة وبعد شفاعة الشافعين جميعاً تأتى شفاعة المصطفى لكل من قال لا اله الا الله محمد رسول الله وهو مستوجب دخول النار وكذلك بعد شفاعة المصطفى تأتى شفاعة المولى عز وجل لكل من قال لا اله الا الله رغم استوجابه دخول النار فلماذا نحتكر رحمة الله الواسعة والأمر لله من قبل ومن بعد .فهذا الحديث من أحاديث النبوة .
فالسلفية والاخوانية تدعى أنها فرقا ناجية وغيرها كافر فليس هذا من الوسطية فى شئ وكما أن الوسطية لا تعنى التشدد فى الدين وأنه يجب أن يعذر بعضنا بعضاً فى بعض الاختلافات التى لا تمس جوهر الدين مثل اختلافات المذاهب كذلك الوسطية لا تعنى التساهل فى الدين فى اعتقادات خطيرة واعتبار أصحاب هذه الاعتقادات ضالين ومضلين كما عند غلاة الصوفية الذين يقولون بالحلول والاتحاد وهى نظرية قال بها النصارى قديما فهؤلاء كما قال عنهم الامام الغزالى رضى الله عنه ضالين ومضلين فتعالى الله أن يحل فى بشر أو يتحد معه بشر وكما قال ابن عربى ( من قال بالحلول فدينه معلول ومن قال بالاتحاد فهو من أهل الالحاد) وكذلك من يقول بالديانة العالمية أى أن الديانات الابراهيمية كلها على حق فى هذا الزمن كاليهودية والنصرانية والاسلامية فمثل هذا القول يعطل الرسالة المحمدية فهؤلاء أيضا يجب الوقوف ضدهم فلا تعنى الوسطية التساهل معهم والا فلا معنى للرسالة المحمدية وكذلك المجسمة الذين يحصرون الذات الالهية فى جهة أو مكان فتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) فلا يعرف الله الا الله فأما مسالة الاستواء فيجب أن نقول كما قال الشيخ أبو طالب المكى : استوى بالمعنى الذى أراده أو نأول الآية تأويلاً يليق بجلاله كما قال أبو طالب المكى أيضاً (الرحمن اسمه والاستواء صفته) وفسرها ابن عربى أيضاً تفسيراً لغوياً حيث قال ان العرش فى اللغة العربية هو كناية عن الملك وحتى لا يهاجمنا المتطرفون فان ابن عربى يؤمن ايمانا قطعيا بوجود العرش والكرسى والصراط والميزان ولا يأولها كما تفعل الباطنية والتأويل فى الاية المعنية لا يقدح فى الوجود الحقيقى للعرش.
فلا تعنى الوسطية التساهل فى مثل هذه الاعتقادات الحساسة والخطرة .
ايضاً كما كفرت السلفية والاخوانية غيرها من الجماعات وكذلك الانصارية فى السودان فالامام محمد احمد المهدى(ع) قال : ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أنه المهدى المنتظر ومن شك فى مهديته فقد كفر.
هنا يجب أن نأول كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكفر هنا بالمعنى اللغوى غط على الحقيقة ولا تعنى الخروج عن الاسلام والكفر بالله, فالمهدى فى حياته لم يكفر مسلماً خالفه أى أن المهدية حقيقة من الله جاءته عن طريق الرسول (ص) ومن شك أو أنكر هذه الحقيقة فقد غط عليها , وكنت أتمنى من الامام الصادق المهدى فى كتابه (يسالونك عن المهدية) أن يوضح هذا اللبس ولكنه زاده لبساً آخر حيث قال ان الاباضية تعتبر مرتكب الكبيرة كافر وهو قد ساوى بين الاباضية والمهدية وهذا فيه ظلم للمهدية .
وهذه المسالة لها أشباه فى الشريعة الاسلامية فقد ورد فى الأثر أن تارك الصلاة كافر وفى هذه المسالة اختلفت المذاهب فى تفسيرها فلم تكفره بعض المذاهب أو تخرجه من دائرة الاسلام . فالامام الغزالى عليه رضوان الله ذكر أن هناك كفران ونفاقان كفر اعتقادى يخلد صاحبه فى النار وكفر عملى لا يخلد صاحبه فى النار وكذلك نفاق عملى ونفاق اعتقادى . فالوسطية هى لا افراط ولا تفريط.
(والله يقول الحق وهو يهدى السبيل)
حماد صالح