رأي ومقالات

حباب النعمان : الفساد.. خطر ماثل وجرح لا يندمل !

[JUSTIFY]والفيلسوف الصيني لاوتزو الذي يدير مقاود تفكيره وتعبيره خارج مدارات المألوف حين يصف فساد المؤسسات ومؤسسات الفساد قبل أكثر من 2500 عام يقول بوضوح لافت (كلما كثرت القوانيين كلما كبر عدد اللصوص و العصابات).. هكذا هو العقل الآسيوي لا يُأخذ عن جوهر المسائل بأعراضها ولذا استطاع أن يمسك بالبعد المتواري عن الانظار في العلاقة الخفية بين البيئة البيروقراطية المعقدة والفساد الناجم عنها.. وفي مروج الذهب وصف لصاحب ديوان البريد على لسان أبو العيناء: يدٌ تسرق وفمٌ يقضم، وهو بمنزلة يهودي سرق نصف خزينته، له إقدام وله إحجام، إحسانه تكلف وإساءته طبيعة .!

ولأن بعض ذوي النظر الاطلالي ينسبون الفساد إلى ثقافة بعينها أكاد أزعم أنه ما من ثقافة نهضت لمكافحة الفساد واستئصاله من غور منابته كما فعلت الثقافة الاسلامية. والفخر الرازي فخر المفسرين والفلاسفة المتكلمين الذي ينطق بهوادي الحكمة التي تتزاحم فيها أنوار الوحي وأنوار الوعي يقول في سياق تفسيره لقوله جلّ وعلا وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون أن الله لا يُهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم. والحاصل أن عذاب الإستئصال لا ينزل لأجل كون القوم معتقدين بالشرك بل إنما ينزل ذلك العذاب إذا أساءوا في المعاملات وسعوا في الإيذاء والظلم (التفسير الكبير)، ولهذا قال الفقهاء: إن حقوق الله تعالى مبناها على المسامحة والمساهلة وحقوق العباد مبناها على الضيق والشح. ومن الحكم المتداولة عند المسلمين أن الملك يبقى على الكفر ولا يبقى على الظلم ..!! هل من قول أنصع بياناً وأقوى برهاناً من ذلك!!.. ومع ذلك ومع ذلك !!.. زعم آخر، وهو أنه ما من شيء أصاب الصورة الذهنية الجمعية لإسلاميي السودان مثلما فعلت شبهات الفساد المعلّقة على مظان كثيرة ليس أقلها الإنقلاب الشامل في حياة المشتبه من غوائل البؤس إلى مقاربة الترف والبذخ و تطاول العمران، وتعدد النسوان، وامتطاء الفارهات من الدواب الفولازية، وأكتظاظ النقود في الحسابات البنكية، واستنارة الجسم بعد ذبول، واستدارة الوجه بعد هزال، وانتفاخ الأوداج، وامتلاء الفلل، والمجمعات السكنية بالأحياء الراقية بالخدم والحشم وفاخر الطعام والهندام والأثاث الوثير فقديماً قال ابن الخطاب تأبى الدنانير إلا أن تطل بأعناقها !، فما زال الحال كذلك حتى نهض أحد الأكاديميين صارخاً في وادي صمتهم: الفساد أكبر هزيمة أخلاقية لمشروعنا..!! ولم يلق غير صدى صوته يتداعى متقطعاً، مشروووعننننا؟!!

ليس ثمة شك في أن المعارضة تستثمر فيما تملك وما لا تملك من معلومات شحيحة في هذا الصدد فالفساد كما يقولون لا ورق له وهو عصي على الضبط ومنفلت العقال.. لا لتنال من رموز الاتجاه الفاعل والممسك بخطام الدولة فقط ولكن لتؤكد إهتراء الأسس والتصورات الحاكمة لجماعة من الناس ليس لها عاصم ذاتي يقيها من الوقوع في الزلل والتورط في الفساد مالم تُحرس بالتدابير الصارمة والإجراءات الوقائية التي تحقن أبنية المؤسسات بأمصال مضادة للإستئثار بالنفوذ والنقود.. لقد قال الترابي في أكثر من موقع إنه كان يعوّل على زاد أصحابه من التقوى وأنه كان يظن لفرط بساطته أن فلاناً لن يفسد لمجرد كونه أخ مسلم هكذا قال ..!وللأسف الشديد أن هذه النظرة لا تزال تجد حيزاً وتحيزاً في ظل ضعف آليات المحاسبة والمناصحة والمواصاة بالحق والصبر والاستقامة والعدل ..!!وفي هذا السياق المتصل والمحتشد، كانت صحف الخرطوم قد حملت في طياتها قبل مدة خبراً بشروع الحزب الحاكم في تكوين لجنة تضم قيادات ووكلاء نيابة وعدليين للتحقيق مع نافذين تحوم حولهم شبهات فساد مالي وإداري، وأن هذه اللجنة تم تأسيسها في نطاق ضيّق، حيث أقسم أفرادها على أن يجري عملهم في حياد ودقة وأمانة وسرية.. !! ومع أن هذه الخطوة لم تسفر عن شيء حتى الآن لكنها في أدنى مراتبها تمثل إتجاهاً صائباً كونها تدرأ الشبهات بالبينات وتقضي على الشائعات بشفافية التحقق والتبين، ويظل إبراء القسم هذا ضامناً يبدد هواجس العامة وظنونهم المتناثرة والمتكاثرة شريطة أن تُعلن نتائج التحقيقات بحذافيرها، ففقه السترة والتطبيب يقضي على أهم ميزة في فلسفة العقاب الاسلامي وهو مفهوم الردع ومفهوم المساواة أمام القانون.. لا يجوز في ظل دولة ترفع شعارات رسالية أن يقول أحد الوزراء لنواب الشعب إذا مضى هذا التحقيق إلى الأمام فإن رؤوساً كبيرة سوف تقع.. وحين يُواجه بقائمة من الإتهامات يقول أنا ما «كيشة» .. أنا ما بغلط غلط قانوني، أنا بعرف القانون كوييييييس!!.. قد يكون هذا الشخص طاهر النطاق لكنه بتلك الدفوعات الواهية يثير نقعاً كثيفاً أكثر مما يزيل لبساً عالقاً بالأذهان.

على الحزب الحاكم إذا أراد أن يعالج هذا الأمر بحكمة أن يكوِّن جهازاً فاعلاً يستقصي أسباب الفساد، ويتتبع منابته ودواعيه وتداعياته، ولا يرتهن إلى بيروقراطية الخدمة المدنية، عليه أن يركّز لا على فساد الأفراد فقط، وإنما على الأنماط الأخرى الأخطر والأشد إستفحالاً، أعني الفساد المنظومي والشبكي والسياقي أو المؤسسي، ومن أخطرهم في نظري الفساد السياقي! كأن يجمع أحدهم بين وظيفتين متداخلتين يستغل إحداهما لمصلحة الأخرى.. وليس أخطر من هذا النمط الخفي إلا الفساد المنظومي والشبكي الذي يتولّد من إقتران السلطة بالثروة في مضاجع الشهوة ومنابت السوء ..!يحضرني في هذا الإطار وصف هيكل الأثير لحالة مصر ما قبل الثورة، مال نائم في حضن السلطة وسلطة نائمة في حضن المال، هكذا ظل الحال ريثما أيقظتهما السقطة في قاع المعتقلات وذل السجون..!!

لصلاح أحمد إبراهيم :-

رُبّ من ينهل من بحر الغوايات ظمي

والذي يملك عينين ولا لب عمي

والذي تسحره الدنيا ولم يدرٍ رحيل

أبله يمرح في القاع وفي الحلم يسير

ريثما توقظه السقطة في القاع ولا يدرك أينا..!!

صحيفة آخر لحظة
ت.إ[/JUSTIFY]